05 نوفمبر 2024
الحراك الاحتجاجي الروسي وانحطاط النموذج
تحول "عيد روسيا" إلى مناسبةٍ لحراكٍ معارضٍ لنظام الحكم الروسي، أو بالأحرى النظام البوتيني (نسبة إلى الرئيس فلاديمير بوتين)، وبدلاً من أن يكون عيداً وطنياً للاحتفال بمناسبة كتابة أول دستور مهّد لانفصال روسيا عام 1990 عن الاتحاد السوفييتي البائد، فإن مظاهرات المحتجين في موسكو وسان بطرسبرغ ونوفوسيبيرسك وكراسنويارسك وقازان وتومسك وفلاديفوستوك وسواها، حوّلت المناسبة إلى يوم احتجاجي، شهد مشاركة واسعة من قطاعات الشباب. ولم تقتصر شعارات المحتجين على رفض الفساد المستشري في النظام البوتيني، بل طالبوا بأن تكون "روسيا من دون بوتين"، وأنه "ضد الفساد.. الثورة فقط"، ويحدوهم أمل بأن "روسيا ستتحرّر" من هذا النظام القمعي الذي اعتقل المعارض اليكسي نافالني قبل انطلاق التظاهرات المناهضة للفساد، مبرهناً أنه لا يفترق كثيراً عن النظام السوفييتي.
ولعل هذا اليوم الاحتجاجي العارم الذي شهد ثاني أكبر تحرّك احتجاجي منذ تظاهرة 26 مارس/ آذار الماضي يعبّر عن بدايات "نهاية عالمٍ ما" في روسيا، وانحطاط مرحلةٍ بأكملها وأفول مقولاتها، ذلك أن ما يحدث في روسيا منذ مدة هو احتجاج ورفض من لدن جماعات الشباب على سياسات النظام البوتيني، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة والبطالة المقيمة. ويعبر عن انحطاط النموذج الذي قدمه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ولعب فيه على وتر المشاعر القومية واستعادة مجد روسيا، حيث أن ما جرى في معظم المدن الروسية أظهر مدى احتقان كتلة شعبية هائلة، مأزومة وقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي مقنع لها، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنىً وتأثيراً، ويدمجها في النظام البوتيني.
جاء بوتين إلى الحكم بوصفه زعيماً منقذاً من حالات الانهيار والخراب، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، التي عرفتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وخصوصاً خلال عهد الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، حيث تراجع الناتج الإجمالي الروسي إلى أكثر من النصف من 1991 إلى 2000، على الرغم من الدعم اللفظي والتأييد الأميركي والأوروبي الذي كان يتلقاه يلتسين. ووصلت روسيا، في عهده، إلى حافة الانهيار والإفلاس، نظراً
للأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بها خلال فترة التسعينيات، وأدت إلى تخريب الاقتصاد الروسي، وإلى فقدان روسيا دورها الدولي ومكانتها العالمية، لتصبح مجرد دولةٍ ضعيفةٍ، تنتظر دعم الغرب الذي لم يأت، على الرغم من التحاقها بالسياسات والتوجهات الأميركية. غير أن سعي بوتين إلى القبض على الحكم، والبقاء فيه، جعله يدخل في لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية، مع رئيس الوزراء الحالي، ديمتري ميدفيديف، حتى بات بإمكانه الترشح لانتخابات عام 2018، والبقاء في قمة السلطة حتى عام 2024، ولعل مبرّره في ذلك يستند إلى براثن لوثةٍ من الشوفينية القومية، بعد أن استبدّت به نزعتا القوة والعظمة من أجل إعادة بناء مجد روسيا القيصرية، القائمة على استدعاء الماضي وأمجاده الغابرة، خصوصاً بعد أن سادت مشاعر الإحباط لدى غالبية الروس، إثر السقوط المدوي للنموذج السوفييتي، وسيادة مظاهر انتصار النموذج الغربي وغطرسته، إلى جانب هزالة نظام حكم بوريس يلتسين وطاقمه وانحطاط ذلك النظام. وقد دغدغ بوتين مشاعر الروس، بإدعاء إعادة بعث القومية الروسية وأمجادها، ورفع شعاراتٍ تؤكد ذلك المسعى، وخصوصاً شعار "روسيا فوق الجميع" الذي استدعى تحقيقه العودة إلى أساليب (وممارسات) النموذج السوفييتي في القمع والإكراه والقوة، من خلال اجتراح مفهوم غامض، هو "الديمقراطية السيادية" الذي بدلاً من أن يقف حائلاً أمام تدخل القوى الأجنبية في الأمور السيادية لروسيا، تحوّل إلى حائلٍ أمام الروس أنفسهم، وحقهم في العيش بحرية وممارسة الديمقراطية التي حلموا بها، فراح النظام البوتيني يشدّد من قبضته الأمنية على كل مفاصل المجتمع، ويحدّ من الحريات العامة، وتدجين الفضاء العام، ومسخ حراك المجتمع، وقولبة الثقافة والسياسة على مقاسه، في مقابل
تمتع أركان النظام وأزلامه بمختلف الامتيازات من خلال الفساد المستشري والإفساد العام. لذلك لم يتردّد النظام البوتيني، في بداية 2015، من اغتيال المعارض بوريس نيمتسوف في وضح النهار وقرب الكرملين، عقاباً على قيادته موجة الاحتجاجات غير المسبوقة التي شهدتها الحملة الانتخابية لفلاديمير بوتين في 2011-2012 عندما كان الأخير مرشحاً لولاية رئاسية ثالثة.
ومع إحكام قبضته على مختلف مفاصل الحكم، تحول النموذج البوتيني إلى نموذج قمعي، أو إلى "نظام أوليغارشي"، حسبما سماه نيمتسوف، وارتكب هذا النظام مجازر وجرائم عديدة بحق شعوب دول المحيط الروسي الحيوي، بدءاً من الشيشان، ومروراً بجورجيا، ووصولاً إلى أوكرانيا، وأخذ الهوس الشوفيني ببوتين حداً جعله مهووسهاً بأصحاب راكبي الدراجات النارية، أو من يعرفون بنادي ثعالب الليل، المعروفين بأشكالهم المميزة والمخيفة، تجسيداً لنزعته الشوفينية المتغطرسة. غير أن ذلك كله لن ينفعه، كما لن ينفعه وقوفه وتحالفه مع أنظمة القمع والديكاتورية في دمشق وطهران وسواهما، إذ سرعان ما خرج الشباب الروس معبّرين، في تظاهراتهم واحتجاجاتهم، عن انحطاط النموذج البوتيني، إذ لم يتمكّن هذا النظام من قمع حراك الشباب الروسي، لأنه لا يعرف حقيقة التحكم فيه، ولم يسعه إلا محاولة تجريم أولئك الذين يشكلونه وتخوينهم. ومع ذلك، ليس غريباً أن يبادر النظام البوتيني إلى نشر وحداته العسكرية والأمنية، من أجل فرض النظام على المحتجين، ولعل المعارض نيمتسوف أصاب حين تجرأ، مشيراً إلى الكارثة التي سينتهي بها هذا النظام بالقول: "عندما تتركز السلطة بيد شخص واحد، فهذا لا يؤدي سوى إلى كارثة.. إلى كارثة بالمطلق".
ولعل هذا اليوم الاحتجاجي العارم الذي شهد ثاني أكبر تحرّك احتجاجي منذ تظاهرة 26 مارس/ آذار الماضي يعبّر عن بدايات "نهاية عالمٍ ما" في روسيا، وانحطاط مرحلةٍ بأكملها وأفول مقولاتها، ذلك أن ما يحدث في روسيا منذ مدة هو احتجاج ورفض من لدن جماعات الشباب على سياسات النظام البوتيني، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة والبطالة المقيمة. ويعبر عن انحطاط النموذج الذي قدمه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ولعب فيه على وتر المشاعر القومية واستعادة مجد روسيا، حيث أن ما جرى في معظم المدن الروسية أظهر مدى احتقان كتلة شعبية هائلة، مأزومة وقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي مقنع لها، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنىً وتأثيراً، ويدمجها في النظام البوتيني.
جاء بوتين إلى الحكم بوصفه زعيماً منقذاً من حالات الانهيار والخراب، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، التي عرفتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وخصوصاً خلال عهد الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، حيث تراجع الناتج الإجمالي الروسي إلى أكثر من النصف من 1991 إلى 2000، على الرغم من الدعم اللفظي والتأييد الأميركي والأوروبي الذي كان يتلقاه يلتسين. ووصلت روسيا، في عهده، إلى حافة الانهيار والإفلاس، نظراً
ومع إحكام قبضته على مختلف مفاصل الحكم، تحول النموذج البوتيني إلى نموذج قمعي، أو إلى "نظام أوليغارشي"، حسبما سماه نيمتسوف، وارتكب هذا النظام مجازر وجرائم عديدة بحق شعوب دول المحيط الروسي الحيوي، بدءاً من الشيشان، ومروراً بجورجيا، ووصولاً إلى أوكرانيا، وأخذ الهوس الشوفيني ببوتين حداً جعله مهووسهاً بأصحاب راكبي الدراجات النارية، أو من يعرفون بنادي ثعالب الليل، المعروفين بأشكالهم المميزة والمخيفة، تجسيداً لنزعته الشوفينية المتغطرسة. غير أن ذلك كله لن ينفعه، كما لن ينفعه وقوفه وتحالفه مع أنظمة القمع والديكاتورية في دمشق وطهران وسواهما، إذ سرعان ما خرج الشباب الروس معبّرين، في تظاهراتهم واحتجاجاتهم، عن انحطاط النموذج البوتيني، إذ لم يتمكّن هذا النظام من قمع حراك الشباب الروسي، لأنه لا يعرف حقيقة التحكم فيه، ولم يسعه إلا محاولة تجريم أولئك الذين يشكلونه وتخوينهم. ومع ذلك، ليس غريباً أن يبادر النظام البوتيني إلى نشر وحداته العسكرية والأمنية، من أجل فرض النظام على المحتجين، ولعل المعارض نيمتسوف أصاب حين تجرأ، مشيراً إلى الكارثة التي سينتهي بها هذا النظام بالقول: "عندما تتركز السلطة بيد شخص واحد، فهذا لا يؤدي سوى إلى كارثة.. إلى كارثة بالمطلق".