08 يونيو 2023
عن الكولونيالية العسكرية في مصر
ذكر اللورد كرومر، في كتابه عن مصر، استحالة أن تبني مصر هويةً مجتمعيةً أو قومية موحدة، يستطيع الجميع أن ينتمي إليها، وعلل قوله هذا بأن في مصر أقليات عديدة، وأعراقا مختلطة مختلفة المنشأ والمشرب. واتضح، في تلك الرؤية، أن كرومر تغاضى عن التاريخ المصري، وعن الهوية التي أنشأها المصريون عبر القرون، بأنهم مصريون متمايزون عن غيرهم، لكن ذلك سيكون مقدمةً لنفهم ما حدث بعدها. ويبدو من تلك الرؤية أن اللورد كرومر (أحد أهم رجال الكولونيالية في العصر الحديث) حاول أن يفرض معرفته من خلال السلطة، وأن يبني سردية تفكيك المجتمع (أساسا معرفيا)، وكذلك تفكيك الدولة على غرارها. أراد اللورد لهذه السردية أن تستمر وتتلقفها الأجيال المقبلة؛ وهذا من طبيعة المستعمر التي تنشر الهزيمة في نفوس الشعوب المستعمرة، بالتقليل من ماضيهم ونفس حاضرهم. إلا أن الأقليات والعرقيات المصرية المختلفة قبل عام 1952 كانت علي وعي تام بتلك السردية التي حاول المستعمر البريطاني تأسيسها، لذا حاولت جاهدةً أن تثبت عكس ذلك، وأن تقاوم هذه السردية الكولونيالية؛ فاستطاعت أن تؤسس لنفسها قوةً معرفيةً مضادة لتلك السردية؛ فشكلت هذه الطبقة ما تعرف بطبقة البرجوازية الوطنية، والتي ساهمت مساهمةً كبرى في مقاومة المستعمر، وإعلاء الروح الوطنية، ومواجهة الحصار الذي مارسه الاستعمار. وقد رفعت ثورة 1919 شعار "الحرية، المساواة، الإخاء"، وتمت ترجمة هذا الشعار في دستور 1923، والذي يعتبر من أفضل الدساتير في تاريخ الحياة السياسية المصرية، وقد رفض ممثلو الأقليات في تلك الفترة (قطاوي باشا عن اليهود، ودوس باشا عن الأقباط وغيرهما) الإشارة إليهم في الدستور على أنهم أقلية.
أقلقت تلك البرجوازية الوطنية المستعمر الذي سعى، طوال الوقت، إلى تفكيكها، وبث الفرقة فيما بينها. ولذلك ظهر في تلك الفترة جدل آخر بشأن الهوية المصرية، هل تنتمي للهوية
الفرعونية، أم العربية أم الإسلامية. وبدون الدخول في تفاصيل تلك الاتجاهات، حاول الاستعمار اللعب على ذلك. من ناحية أخرى، الإرث الاستعماري كبير، وآثاره مستمرة على مستويات متعددة داخل دولةٍ مثل مصر. ومع حدوث التغيرات السياسية التي حدثت، وتغيير الأنظمة الحاكمة، ورثت الدكتاتوريات العسكرية الإرث الاستعماري، وسعت إلى التأكيد على ذلك الإرث وتطبيقه.
من أول ما سعى إليه النظام العسكري الحاكم في مصر، وعلى طريقة اللامبالاة بالوطن والمواطن وعدم الاكتراث بحماية مكوناته، قضى النظام على تلك البرجوازية الوطنية، واحتكر هذه الطبقة لنفسه، أو أنشأ تحالفا معها، ثم قام بتدجينها داخله، فنشأت طبقة برجوازية من طبقة الضباط، استمرت حتى حسني مبارك، ثم تحالفت مع رجال نجله جمال مبارك، لكن الأوضاع الآن عادت إلى ما كانت عليه، مع توسيع قاعدة تلك الطبقة، لتشمل حلفاء النظام من المؤسسات الأخرى.
ومما سعى إليه النظام العسكري أيضا القضاء على التنوع الثقافي والعرقي داخل مصر (طبقا للوثائق التاريخية مصر قبل 1952، كان فيها أكثر من 90 أقلية وجالية، وكان فيها أكثر من 90 لغة تتحدث بها العرقيات المختلفة)، قضى غياب هذا التنوع العرقي في مصر على فكرة التسامح وتقبل الآخر داخل المجتمع الواحد. ومع أسبابٍ أخرى، مهد الطريق لسهولة تقبل فكرة الطائفية وتعميق شعور الاغتراب بين مكونات المجتمع الواحد.
على الطريقة الاستعمارية، تتم عملية إفقار المجتمع بطريقة منتظمة، من أجل الطبقة الحاكمة التي تستولي على المقدرات، ثم ترديد مقولاتٍ مثل "إحنا فقرا قوي". كل هذا محاولة لبث روح الهزيمة داخل المجتمع، والخضوع والرضا بالأمر الواقع، والحقيقة أن الشعب ليس فقيرا، بل يتم إفقاره. أحد مظاهر الإرث الاستعماري أيضا عمليات التأكيد على ضرورة وجود هذا المستعمر داخل الدولة، وأنه جاء لينقذ أهلها من التخلف، وليحافظ عليهم من الضياع. وهنا
تحضرني مقولة لكارل ماركس "هؤلاء لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولذلك لا بد من أن يوجد من يمثلهم"، وكأنه تمثيل بالوكالة والقوة لإرادة هذه المجتمعات، فالعمل على بث شعور الضياع إذا تركت هذه الأنظمة الحكم، أو التحول إلي سورية والعراق، هو نوع من التكتيكات الكولونيالية المتبعة، والتي يعاد استخدامها الآن مع تغليف الأمر بغلاف الأزمات الإقليمية.
ما كان يسعى إليه الاستعمار هو عملية محاصرة للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للشعوب المستعمرة، بالإضافة إلى التركيبة الديمغرافية التي يسعى إلى تغييرها طوال الوقت، وهذا الأمر حاضر بقوة، خصوصا فيما يتعلق بالأقليات وعملية إعادة تركيبها وإعادة صناعة الولاء داخل المنظومة الخاصة بها، لتكون لصاحب القوة أو الحاكم وليس للدولة. تستخدم الأنظمة العسكرية أيضا الأمر نفسه، في عملية الحصار التي تفرضها، وتحاول أن تفرض سرديتها التي تقوم على القمع أداة رئيسية.
يقوم الاستعمار في مجمله على نهب الشعوب وإفقارها، والتأكيد على الهزيمة النفسية، وبالتالي هو غير معني بحماية مكونات المجتمع، أو أرضه التاريخية التي تنتمي إليه. لذا ليس غريبا أن نجد أرضا قد بيعت، وقيل إنها ليست من أرض الوطن ولا تنتمي إليه، أو تمرير صفقات إقليمية علي حساب الأمن القومي، من أجل أن يخدم النظام مصالحه. أخطر ما كان يفعله الاستعمار عملية تدمير عملية الولاء، لتتحول من الولاء للدولة إلى الولاء للنظام/ المستعمر، وهذا ما يقوم به النظام العسكري، حيث إنه يسعى إلى تحويل الولاء من كونه ولاءً للدولة إلى ولاءٍ ينحصر في الطائفة أو العرق أو الدين، أو المكان الجغرافي المحدود. بمعنى آخر، عملية تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه. الاستعمار والأنظمة العسكرية وجهان لعملة واحدة.
أقلقت تلك البرجوازية الوطنية المستعمر الذي سعى، طوال الوقت، إلى تفكيكها، وبث الفرقة فيما بينها. ولذلك ظهر في تلك الفترة جدل آخر بشأن الهوية المصرية، هل تنتمي للهوية
من أول ما سعى إليه النظام العسكري الحاكم في مصر، وعلى طريقة اللامبالاة بالوطن والمواطن وعدم الاكتراث بحماية مكوناته، قضى النظام على تلك البرجوازية الوطنية، واحتكر هذه الطبقة لنفسه، أو أنشأ تحالفا معها، ثم قام بتدجينها داخله، فنشأت طبقة برجوازية من طبقة الضباط، استمرت حتى حسني مبارك، ثم تحالفت مع رجال نجله جمال مبارك، لكن الأوضاع الآن عادت إلى ما كانت عليه، مع توسيع قاعدة تلك الطبقة، لتشمل حلفاء النظام من المؤسسات الأخرى.
ومما سعى إليه النظام العسكري أيضا القضاء على التنوع الثقافي والعرقي داخل مصر (طبقا للوثائق التاريخية مصر قبل 1952، كان فيها أكثر من 90 أقلية وجالية، وكان فيها أكثر من 90 لغة تتحدث بها العرقيات المختلفة)، قضى غياب هذا التنوع العرقي في مصر على فكرة التسامح وتقبل الآخر داخل المجتمع الواحد. ومع أسبابٍ أخرى، مهد الطريق لسهولة تقبل فكرة الطائفية وتعميق شعور الاغتراب بين مكونات المجتمع الواحد.
على الطريقة الاستعمارية، تتم عملية إفقار المجتمع بطريقة منتظمة، من أجل الطبقة الحاكمة التي تستولي على المقدرات، ثم ترديد مقولاتٍ مثل "إحنا فقرا قوي". كل هذا محاولة لبث روح الهزيمة داخل المجتمع، والخضوع والرضا بالأمر الواقع، والحقيقة أن الشعب ليس فقيرا، بل يتم إفقاره. أحد مظاهر الإرث الاستعماري أيضا عمليات التأكيد على ضرورة وجود هذا المستعمر داخل الدولة، وأنه جاء لينقذ أهلها من التخلف، وليحافظ عليهم من الضياع. وهنا
ما كان يسعى إليه الاستعمار هو عملية محاصرة للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للشعوب المستعمرة، بالإضافة إلى التركيبة الديمغرافية التي يسعى إلى تغييرها طوال الوقت، وهذا الأمر حاضر بقوة، خصوصا فيما يتعلق بالأقليات وعملية إعادة تركيبها وإعادة صناعة الولاء داخل المنظومة الخاصة بها، لتكون لصاحب القوة أو الحاكم وليس للدولة. تستخدم الأنظمة العسكرية أيضا الأمر نفسه، في عملية الحصار التي تفرضها، وتحاول أن تفرض سرديتها التي تقوم على القمع أداة رئيسية.
يقوم الاستعمار في مجمله على نهب الشعوب وإفقارها، والتأكيد على الهزيمة النفسية، وبالتالي هو غير معني بحماية مكونات المجتمع، أو أرضه التاريخية التي تنتمي إليه. لذا ليس غريبا أن نجد أرضا قد بيعت، وقيل إنها ليست من أرض الوطن ولا تنتمي إليه، أو تمرير صفقات إقليمية علي حساب الأمن القومي، من أجل أن يخدم النظام مصالحه. أخطر ما كان يفعله الاستعمار عملية تدمير عملية الولاء، لتتحول من الولاء للدولة إلى الولاء للنظام/ المستعمر، وهذا ما يقوم به النظام العسكري، حيث إنه يسعى إلى تحويل الولاء من كونه ولاءً للدولة إلى ولاءٍ ينحصر في الطائفة أو العرق أو الدين، أو المكان الجغرافي المحدود. بمعنى آخر، عملية تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه. الاستعمار والأنظمة العسكرية وجهان لعملة واحدة.