01 نوفمبر 2024
"الحَوَل العربي" مجدّدا
كنت قد كتبت مقالا عن إدمان عالم العرب اختيار المعارك الخطأ، في كل مرة يبادر هؤلاء في بلاد العرب بحروبٍ بين بعضهم حامية الوطيس، لا تعرف الرحمة، ربما تترك القتلى وتزيد الثكالى، وتحدث من الخسائر ما لا تخطئه عين. وفي النهاية، تتراكم مع صاحباتها لتمثل نكبةً من نكبات العرب، قتلى بالآلاف وأموال مهدرة وأمور كثيرة لا نعرف منها إلا مزيدا من تخلفٍ لبلادنا وحراسة التأخر، ويدخل هؤلاء على فتراتٍ قد تطول لتضميد الجراح، ومحاولة إزالة آثار تلك الحروب، في كل مرة يمارس بعض هؤلاء الزاعمين أنهم زعماء وأنهم يقومون على تحرير البلاد والعباد، وعلى خوض معارك لتحرير بيت المقدس. هكذا يقولون، في خطاباتٍ زائفةٍ وتعبويةٍ كاذبة. يقول هؤلاء تارة إن تحرير القدس يتم عن طريق طهران. ويدعي آخرون أن تحرير الأقصى يمر ببغداد. وهذا يبرر غزوا للكويت باسم المعركة الكبرى مع العدو الصهيوني، وفي كل مرة سيختار هؤلاء المعركة الخطأ، أو إن شئت الدقة المعركة التي تمثل الخطيئة الكبرى.
ما بال هؤلاء، المرة تلو المرة، يعلنون عن تحرير بيت المقدس، فلا يتحرّر، باقٍ في حال غصبه واغتصابه، وإذا بهم يهلكون الحرث والنسل، ويعيثون في الأرض فسادا، ثم لا نملك، في النهاية، إلا أن تُحصد الأرواح ويتعدّد القتلى، ونحصي الموتى، وتمتلئ الميادين بمزيدٍ من الجرحى. ومن المؤسف حقا أن تستمر بعض الحروب سنوات، لكنها، في النهاية، تستنزف النفوس والفلوس، وتهدر الأموال والدماء. وفي هذا المقام، لم يكن ذلك بخطابهم وفعلهم وسياساتهم إلا فقدانا للبوصلة، وإعلانا لمعارك مستجدة في غير ميدان. وفي النهاية، ينعم العدو الحقيقي بالأمن والسلامة، وتنعم بلاد العرب بالخيبة والندامة. يمثل ذلك كله، بممارساته ومآلاته، تفكير الوهن والإهانة والمهانة، ويعبر عن عقليةٍ تجعل تلك المعارك المصطنعة والمفتعلة ميادين عملٍ لحروبٍ كلامية، ودوما تكون حروب اللسان سابقةً لحروب السنان. تبدو هذه الصورة وهذه العقلية في أننا نشكل، ومن كل طريق، أعداء لأنفسنا ومن أنفسنا، يمارس هؤلاء "حولا عربيا" واسعا، فنبدو كأننا ننظر إلى جهةٍ، ونعمل في جهة أخرى معاكسة، حتى باتت هذه الأمة "أمة صناعة الضرر" لنفسها، تنتهك كل الأعراف التي تتعلق بحفظ الكيان، وموجبات حفظ صلة الأرحام.
استيقظ الناس، في الآونة الأخيرة، على أزمةٍ في الخليج. اجتمعت دول أربع لتقطع علاقات
سنشاهد مع هذه المسائل المفتعلة والمنكرة مشاهد أخرى، يعبر فيها الكيان الصهيوني عن عربدةٍ منقطعة النظير، يستباح فيها الأقصى، وتُغلق أبوابه، فيمنع الاحتلال وجنوده صلاة الجمعة أول مرة بعد قرابة خمسين عاما. ومع ذلك، لم يحرّك هؤلاء من قادة وزعماء ساكنا، إلا تلك الدولة المُحاصَرة الصغيرة التى أصدرت بيانا حازما حاسما، تؤكد فيه خطورة ما يحدث في القدس، وفي حرمها المتمثل بالمسجد الأقصى، مدينا كل عربدةٍ للعدو الصهيوني، للعبث بمقدساته وحرماته، بينما يلوح الآخرون، المرة تلو المرة، بتصعيد الحصار والمقاطعات، والمطالبة بالامتثال والإذعان. لا أحد منهم يكلف خاطره، ليقدم شجبا أو استنكارا، أو حتى يصدر بيانا، بل نجد الساحة ممتلئةً عن بكرة أبيها بالمتصهينة العرب، في مؤتمراتٍ تحفّها المؤامرات. وفي مساحاتٍ لحروبٍ جديدة، يمارسون فيها حروب الكلام على صفحات "تويتر"، امتشق هؤلاء أسلحة السباب والهجاء. وأخطر ما يقال، في هذا المقام، ترويج التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتجريم زاعق فاضح لكل مقاومةٍ لهذا الكيان الصهيوني الغاصب، مثل "حماس" وأخواتها. وهنا، يمارس هؤلاء أقصى درجات الحول السياسي، بحيث يجعلون العدو حليفا، والحليف عدوا، يفتقدون أيا من مؤشرات البصيرة، كما تتوه منهم البوصلة وإرشادات الحركة.
ألم يقل أحد لهؤلاء إنهم، في كل مرة، يرتكبون الخطيئة الكبرى، حينما يصنفون الحليف في خانة الأعداء، والعدو في خانة الأصدقاء، ويخوضون المعارك ضد من لا يستحق، ويتركون العدو يمرح ويسرح في مساحات فرقتنا، حتى يتمكّنوا من مفاصلنا؟ ألم يخبر أحدٌ هؤلاء بأنهم يمارسون سياسات الهوى والمكايدة، ويفضلونها على سياسات الرشد والتعايش والمعايشة. هل يمكن أن تحفظ تلك السياسات أمن الخليج في مواجهة كل من يستهدفها؟ هل يمكن أن تبنى
ألا يرى عموم الناس ما تفعله الأنظمة العربية كل يوم من مخازٍ ومآسٍ، حتى يتناسوا هذا كله، وينطلقوا في وهمية تنسج الأساطير وتبيع الأوهام، وتقلب الحقائق، يتضافر الفعل والخطاب اليوم ليرسما صورةً متكاملةً من مشهد "الحول العربي الكبير"، إنه (الحول) الذي أصاب النظر العربي منذ زمن، ولا يزال يتّسع أثره، ويزداد ضرره، وينتشر شرره.