09 نوفمبر 2024
الاستثمار في تراجع قضية كبرى
ليس غريبا أن يتفوه الوزير السوداني، مبارك الفاضل، بعباراتٍ مشينةٍ بحق قضية فلسطين وشعبها، فالرجل، وهو سليل آل المهدي، وهم من هم في السودان، بحكم المنشقّ عن عائلته، وعن حزب الأمة، ويسعى إلى المناصب والأضواء من أقرب الطرق وأقصرها. ومن الطريف أن يزعم بأن قضية فلسطين هي سبب تأخر الأمة العربية. في الحالة هذه، فإن قضية فلسطين هي سبب تأخر السودان! فلا تعود أسباب هذا التأخر إلى الفساد والانقلابات والاستحواذ على الحكم، وإلى معارضاتٍ تنافس غيرها على السلطة، من دون أن ترسم معالم دولة حديثة في أدبياتها وخطابها، وإن كانت هناك محاولات على هذا الطريق من حزب الأمة وتيارات علمانية سودانية.
على أن تفوّهات الرجل "الطموح" تندرج، بعد ذلك، في إطار التخلي عن اعتبار الاحتلال الإسرائيلي والعقيدة الصهيونية مصدرا أول للشرور في المنطقة، من دون أن يكون وحيدا. وقد شاء حضرة الوزير أن يقدّم نفسه سياسياً "عصرياً" بل "على الموضة". والموضة هي التشكيك بالواقع والوقائع، وهي لوم الضحايا، وإبراء ذمّة العنصريين في تل أبيب وواشنطن، ومحاولة التماس مشتركاتٍ معهم، سعياً إلى دعم خارجي لطموحات الرجل.
وبعدئذ، يأتي هذا الانقلاب في الرؤية السياسية والأخلاقية، غير المسبوق في السودان، منسجما مع ما يبدو من تراجع متجدّد لقضية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي على المستوى العربي الرسمي، وبروز أولويات أخرى. وعلى سبيل المثال، باتت القضية الكردية تحتل موقعا متقدما في الاهتمامات الإقليمية، حتى أنها باتت تجمع المتباعدين، مثل إيران وتركيا، وتستنفر الولايات المتحدة التي رأت أن استفتاء مزمعا بشأن مستقبل الأكراد يلحق الضرر بالمعركة ضد "داعش". وكأن هذه خرجت بمعزلٍ عن البيئة الإقليمية، وبغير علم من هذه البيئة. أو كأنه يمكن التعامل ضد "داعش" بعيدا عن التعامل مع هذه البيئة التي أدّت إلى التغلغل الإيراني، وتعويم نظام الحكم في دمشق. علاوة على ذلك، للأكراد جيش في أربيل وجيش آخر في سورية، وتنتج المناطق الكردية نفطا تنتظره الأسواق.
أما قضية فلسطين، وبفضل النزعة السكونية للسلطة في رام الله، ونزعة شهوة الحكم لسلطة
غزة، وتخوف السلطتين من أية حركة شعبية مدنية مناهضة للاحتلال وللتسلط الداخلي، يتحقق تراجع إضافي لهذه القضية، يعزّزه الوضع الدولي، في واشنطن وموسكو، إذ لا يعني إنهاء الاحتلال للعاصمتين شيئا، فموسكو معنيةٌ بالتمدّد في شرق المتوسط وليس بأي شيء آخر، وواشنطن تريد تسويةً تكرّس فيها الخسارات للجانب الفلسطيني ومكافأة المحتل وتطبيعا عربيا مسبقا مع تل أبيب، والتراجع عن المبادرة العربية للسلام وطي صفحتها. ولا يلقى هذا المشروع المتهافت اعتراضا عربيا يذكر، ولا قبولاً عربياً سوى ما يبدر عن الأردن من مواقف تدعم حل الدولتين حلا وحيدا.. والمغزى في ذلك أن قضية إنهاء الاحتلال لا تحظى بأية أولوية راهنة على الأجندات الإقليمية.
ويسترعي الانتباه أن مسألة المسجد الأقصى وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليه أخذت تتراجع، بعدما تخلى الاحتلال عن مشروع البوابات الإلكترونية وكاميرات الرصد، بينما عادت الاستباحات بوتيرة أكبر برعايةٍ من جيش الاحتلال، وبضوء أخضر من حكومة الاستيطان. وقد أضاف الاحتلال إلى ذلك بالتضييق على المدارس الفلسطينية في قلب القدس القديمة، ومحاولة منعها من تدريس المناهج الفلسطينية، وصولاً إلى اعتقال طلبة كما حدث في مدرسة الأيتام، وهي أحد الصروح التعليمية والخيرية البارزة في بيت المقدس منذ نحو ستة عقود.
وبينما يخطط الاحتلال للسيطرة التدريجية على المسجد الأقصى، وضمن خطوات ثابتة ومتتابعة وطويلة الأمد، فإن الطريقة العربية للتصدّي لهذا الخطر ما زالت تقترن بأسلوب الفزعة وبالتحشيد العاطفي الآني. وبينما يندرج هدف السيطرة على الأماكن الإسلامية المقدسة، وعلى أملاك مسيحية، ضمن مخطط ثابت للسيطرة على كامل القدس العربية ومحيطها، فإن المعركة لنصرة الأقصى لم تمتد عربيا لنصرة بيت المقدس بأسرها، ولوضع حد للاحتلال الاستيطاني والعسكري للضفة الغربية.
وإذ تواظب القيادة الفلسطينية على إطلاق المناشدات الأخلاقية، وترديد مبادئ الحل ومرتكزاته، فإنها لا تنجح أبدا في الربط بين قضية إنهاء الاحتلال وبقية قضايا المنطقة كقضية الإرهاب،
وتعزف عن الحديث بلغة المصالح، وتبصير دول المنطقة (وبالأحرى تذكيرها) بأن مصالحها المباشرة والاستراتيجية (لا الروابط القومية والتاريخية فحسب) تقتضي العمل على إنهاء الاحتلال، لا التطبيع معه، إذ إن التمرّد على القرارات الدولية وعلى أحكام القانون الدولي، والاحتكام إلى القوة الغاشمة المجرّدة، وحرمان شعب من الحياة الحرة المستقلة في وطنه، وتأجيج النزاعات الدينية (اليهودية ضد الإسلام والمسيحية)، والنشاط التجسّسي الذي لا يعرف حدوداً، ولا يقيم وزناً لسيادة الدول وأمنها، ذلك كله يمثل وصفةً مسمومة لتأبيد التوتر في المنطقة، ولانتهاك قواعد العلاقات الدولية، وإدامة حالة الاحتقان لدى الشعوب العربية، وتغذية كل أشكال التطرّف ومظاهر الإرهاب، كـ"استجابة" معاكسة للتطرف والإرهاب الإسرائيلي، وكل منهما يحظى برعاية حكومية صريحة في تل أبيب، بل يتم تخصيص ميزانيات طائلة لهذا الغرض. مع الإقرار بأن لبعض مظاهر الإرهاب في منطقتنا جانبا آخر، يتعلق بالتنشئة الذاتية لزُمر الإرهابيين، ولاستخدام بعض الأنظمة لهؤلاء.
في هذه الغضون، تلوح مجدّداً تحرّكات أميركية، يقودها صهر الرئيس دونالد ترامب، جاريد كوشنر، وقد تمت الإشارة إلى توجهاتها، الرامية إلى إبقاء كل شيء على حاله، مع مكافأة الاحتلال وتسويقه عربياً. وترى السلطة في رام الله في هذه التحركات "أهمية مفصلية"، كما في تصريح أخير للناطق نبيل أبو ردينة. وواقع الحال أن الأهمية الموصوفة هنا مرهونةٌ بموقف فلسطيني صلب وهجومي، لكنه غائب، ويستند إلى إرادة شعبية ما زالت مغيبة. فليست مهمة السلطة تقييد شعبها، وطمأنة العالم إلى أن السكون والسكينة والانتظار الدائم هو الخيار السياسي المتبع. وأن الحل لا يتطلب إجراءات موضعية ترمم الأوضاع المتصدّعة، بل يقتضي العودة إلى الشرعية الدولية، وإلى إرادة المجتمع الدولي في رؤية الدولتين، وليس مكافأة اللصوص أو الخضوع الدائم لابتزاز لهؤلاء. وسوى ذلك، فإن الصراع لن يتوقف، وسيزداد تعقيدا، وتفقد فيه واشنطن صدقيتها، وتستنزف مزيدا من أموال دافعي الضرائب الأميركيين.
على أن تفوّهات الرجل "الطموح" تندرج، بعد ذلك، في إطار التخلي عن اعتبار الاحتلال الإسرائيلي والعقيدة الصهيونية مصدرا أول للشرور في المنطقة، من دون أن يكون وحيدا. وقد شاء حضرة الوزير أن يقدّم نفسه سياسياً "عصرياً" بل "على الموضة". والموضة هي التشكيك بالواقع والوقائع، وهي لوم الضحايا، وإبراء ذمّة العنصريين في تل أبيب وواشنطن، ومحاولة التماس مشتركاتٍ معهم، سعياً إلى دعم خارجي لطموحات الرجل.
وبعدئذ، يأتي هذا الانقلاب في الرؤية السياسية والأخلاقية، غير المسبوق في السودان، منسجما مع ما يبدو من تراجع متجدّد لقضية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي على المستوى العربي الرسمي، وبروز أولويات أخرى. وعلى سبيل المثال، باتت القضية الكردية تحتل موقعا متقدما في الاهتمامات الإقليمية، حتى أنها باتت تجمع المتباعدين، مثل إيران وتركيا، وتستنفر الولايات المتحدة التي رأت أن استفتاء مزمعا بشأن مستقبل الأكراد يلحق الضرر بالمعركة ضد "داعش". وكأن هذه خرجت بمعزلٍ عن البيئة الإقليمية، وبغير علم من هذه البيئة. أو كأنه يمكن التعامل ضد "داعش" بعيدا عن التعامل مع هذه البيئة التي أدّت إلى التغلغل الإيراني، وتعويم نظام الحكم في دمشق. علاوة على ذلك، للأكراد جيش في أربيل وجيش آخر في سورية، وتنتج المناطق الكردية نفطا تنتظره الأسواق.
أما قضية فلسطين، وبفضل النزعة السكونية للسلطة في رام الله، ونزعة شهوة الحكم لسلطة
ويسترعي الانتباه أن مسألة المسجد الأقصى وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليه أخذت تتراجع، بعدما تخلى الاحتلال عن مشروع البوابات الإلكترونية وكاميرات الرصد، بينما عادت الاستباحات بوتيرة أكبر برعايةٍ من جيش الاحتلال، وبضوء أخضر من حكومة الاستيطان. وقد أضاف الاحتلال إلى ذلك بالتضييق على المدارس الفلسطينية في قلب القدس القديمة، ومحاولة منعها من تدريس المناهج الفلسطينية، وصولاً إلى اعتقال طلبة كما حدث في مدرسة الأيتام، وهي أحد الصروح التعليمية والخيرية البارزة في بيت المقدس منذ نحو ستة عقود.
وبينما يخطط الاحتلال للسيطرة التدريجية على المسجد الأقصى، وضمن خطوات ثابتة ومتتابعة وطويلة الأمد، فإن الطريقة العربية للتصدّي لهذا الخطر ما زالت تقترن بأسلوب الفزعة وبالتحشيد العاطفي الآني. وبينما يندرج هدف السيطرة على الأماكن الإسلامية المقدسة، وعلى أملاك مسيحية، ضمن مخطط ثابت للسيطرة على كامل القدس العربية ومحيطها، فإن المعركة لنصرة الأقصى لم تمتد عربيا لنصرة بيت المقدس بأسرها، ولوضع حد للاحتلال الاستيطاني والعسكري للضفة الغربية.
وإذ تواظب القيادة الفلسطينية على إطلاق المناشدات الأخلاقية، وترديد مبادئ الحل ومرتكزاته، فإنها لا تنجح أبدا في الربط بين قضية إنهاء الاحتلال وبقية قضايا المنطقة كقضية الإرهاب،
في هذه الغضون، تلوح مجدّداً تحرّكات أميركية، يقودها صهر الرئيس دونالد ترامب، جاريد كوشنر، وقد تمت الإشارة إلى توجهاتها، الرامية إلى إبقاء كل شيء على حاله، مع مكافأة الاحتلال وتسويقه عربياً. وترى السلطة في رام الله في هذه التحركات "أهمية مفصلية"، كما في تصريح أخير للناطق نبيل أبو ردينة. وواقع الحال أن الأهمية الموصوفة هنا مرهونةٌ بموقف فلسطيني صلب وهجومي، لكنه غائب، ويستند إلى إرادة شعبية ما زالت مغيبة. فليست مهمة السلطة تقييد شعبها، وطمأنة العالم إلى أن السكون والسكينة والانتظار الدائم هو الخيار السياسي المتبع. وأن الحل لا يتطلب إجراءات موضعية ترمم الأوضاع المتصدّعة، بل يقتضي العودة إلى الشرعية الدولية، وإلى إرادة المجتمع الدولي في رؤية الدولتين، وليس مكافأة اللصوص أو الخضوع الدائم لابتزاز لهؤلاء. وسوى ذلك، فإن الصراع لن يتوقف، وسيزداد تعقيدا، وتفقد فيه واشنطن صدقيتها، وتستنزف مزيدا من أموال دافعي الضرائب الأميركيين.