14 أكتوبر 2024
تعويم الأسد وسوريته
علي سفر
أعاق النظام السوري عقوداً تطور سورية، بعد أن كبّلها بقوانين "اشتراكية" مفصلة على مقاسه، وليس وفقاً لحاجيات قوى المجتمع النامية التي تحتاج تطويراً مستمراً لمنظومات عمل الدولة، وبما يجعل استجابتها أعلى لمستجدات الحياة ونموها بشكل عام.
سورية في بداية 2011 بلد متخلف، ينتمي إلى عالم هجين، ينوس بين العالم الثالث من جهة مستويات المعيشة، والعالم المتقدّم من حيث الإمكانات المادية المهدورة سرقة وفساداً، والقدرات البشرية والطاقات المتروكة أو المطرودة خارج البلاد، وقد سبق هذا التاريخ عقدٌ حاول فيه الأسد الابن ومعه (الذئاب الشابة) من حاشية ورجال أعمال شباب مرتبطين به، بالتلاصق مع أولاد المسؤولين من الحرس القديم، أن يفرغا جيوب السوريين من السيولة التي يملكونها، عبر فتح السوق، من دون حسيب أو رقيب، لشركات وضعت سعراً لكل شيء بحسب رغبتها لا بحسب الأسعار الحقيقية التي تناسب إمكانات المستهلكين، وكذلك عبر تسريع عالٍ لعمليات النهب المنظم لمقدرات الدولة، من خلال منح أقارب الرئيس وحاشيته صفقات احتكار، حرمت خزينة الدولة من عائدات هذه العقود.
توضح مقارنة هذه الحال بما كانت عليه في سورية قبل ذلك كيف كانت المؤشرات تقول إن البلد يتراجع من حيث التطور، على الرغم من وجود التعليم المجاني، وعلى الرغم من وجود مشاريع إصلاح زراعي، وعلى الرغم من توفر عناوين عريضة فضفاضة ودعائية في سياسة الدولة تهدف إلى حماية الفقراء، وفتح المجال أمامهم ليحسنوا من أوضاعهم.
الحديث هنا عن ملامح تختص بالاقتصاد فقط، ولا يذهب نحو مقاربة الوضع السياسي أو الثقافي وغيرهما، إذ قد يكون التفكير بالقضايا الاقتصادية والمجتمعية كافياً لمعرفة حقيقة الأوضاع الأخرى، ومنها السياسة والثقافة، وأحوالهما في سورية معروفة للقاصي والداني، وبما لا يحتاج شرحا وتوضيحا.
بناء على ما سبق، يستطيع أي متابع للشأن السوري أن يجزم بأن الثورة التي جاءت محاولة أخيرة للطبقة المتوسطة للدفاع عن نفسها، في وجه أفعال النظام التي تدفع أفرادها إلى الانحدار إلى مصاف الشرائح الفقيرة في المجتمع، كانت تطمح، في عميق مقاصدها، إلى مواجهة صورة سورية المتخلفة وواقعها، واستعادة الفعالية للنهوض بسورية، وبإمكانات أفرادها، وبالمقدرات الوطنية، لأن تستعيد موقعها ضمن الإقليم والعالم، من خلال التطور والتحديث، وليس من خلال سياسات قطع الطريق والبلطجة التي دأب النظام على اتباعها تجاه جيرانه، ومحاولته الدائمة للتلاعب بالقضايا المشتركة التي تهم شعوب المنطقة.
لم يتغير الواقع في سورية التي يسيطر عليها النظام، على الرغم من كل ما حصل خلال السنوات الماضية، وإذا كانت هناك من مراهنة على أن يقنع هذا الواقع السوريين، لكي يقبلوا بالعودة إلى حضن الأسد، فذلك لا يحدث إلا حين يقارن المتحدث بين وضع مناطق النظام في المناطق التي سيطر عليها الجيش الحر والتي قام النظام بتدميرها ببراميله وصواريخه، جاعلاً الحياة فيها جحيماً لا يطاق، بالمقارنة كذلك مع المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش وجبهة النصرة.
لكن الخيارات ليست محدودة إلى هذا الحد، بالنسبة للسوريين الذين قرّروا الثورة على الأسد وزمرته، فالعالم ليس مغلقاً إلى هذه الدرجة، وكل من استطاع الخروج من سورية يدرك إلى أي مستوى بلغ تخلفها بالمقارنة مع دول الإقليم ومع دول العالم الأخرى، وأن أي تسويةٍ للوضع السوري، لا تضمن إزاحة الأسد، تعني أن يبقى الوضع على ما هو عليه عقودا، فليس لدى النظام خطط لتطوير البلاد، بقدر ما تتركز خططه على تكبيلها أكثر، وضمان أن يحيط بثرواتها، وضمان ألا يشاركه بها أحد سوى داعميه الذين باتوا يسيطرون على كثير من مقدرات السوريين، بموجب عقود منحها لهم الأسد في مقابل دعمهم له.
الصراع هنا بين رؤيتين؛ الأولى التي ترى أن سورية يمكن أن تتحرّر، وتمضي في صياغة مستقبل مزهر، يقوم على الحريات واحترام حقوق الإنسان وضمان حقوق الأفراد والجماعات، بما يكفل سيادة القانون واحترام الدستور، وضمان تداول السلطة. والثانية التي لا ترى ضرورةً لكل ما سبق، وتجد أن الأسد يمكن أن يستمر في حكم سورية، لا لشيء سوى لقدرته على قمع الإرهابيين، وضمان تعاونه مع دول العالم في حربها على الإرهاب (وهو دور قديم لعبه النظام في أوقات شتى)، من دون النظر فيما سينتج عن هذه الاستمرارية التي تتضمن، في غضونها، توالداً مستمراً للبؤر الإرهابية، بسبب سياسة العسف والقهر التي كانت، وما زالت، من خصائص تفكير الأسد وعصابته.
هنا، يمكن أن يلحظ المتابع اشتراط الاتحاد الأوروبي على المضي بالعملية السياسية، التي تفضي إلى رحيل الأسد، شرطاً للمشاركة في ملف إعادة الإعمار. ويمكن الالتفات إلى عدم وجود مثل هذا التفكير لدى أطراف أخرى فاعلة في الملف السوري، فالروس والإيرانيون يريدون حصاداً سريعاً للأرباح، حتى وإن لم تأت التسوية بالحل الذي يضمن حرية السوريين، بينما يغيب الأميركيون ظاهرياً عن القصة، مع إدراك عام بأنهم يمسكون باطنياً بالملف كله، على الرغم من انشغالهم بالحرب على "داعش"! كما تنوس الأدوار الأخرى لتركيا ودول الخليج تبعاً لمد وجزر مشكلاتها الإقليمية. وتبقى إسرائيل الأوضح في الموقف؛ فهي تريد للأسد أن يستمر، من دون أن يكون مرتاحاً، فهي لا تخاف منه، بل من عدوه، أي الشعب السوري، ونظامه يتكفل بمهمة إبادته، بينما يبقى هو تحت سيطرتها، تضربه متى تشاء، من دون أن يقوى، هو أو حلفاؤه، على مواجهة طيرانها وجيشها بشكل عام.
يدرك السوريون ما يجري، ويعرفون أن التسليم ببقاء زمرة القتلة متربعين على سدّة الحكم يعني، فيما يعنيه، تأبيد الصراع، بين سورية الأسد القديمة المتخلفة وسورية جديدة طمح السوريون من أجلها، فأُفلتت عليهم كل وحوش الأرض.
سورية في بداية 2011 بلد متخلف، ينتمي إلى عالم هجين، ينوس بين العالم الثالث من جهة مستويات المعيشة، والعالم المتقدّم من حيث الإمكانات المادية المهدورة سرقة وفساداً، والقدرات البشرية والطاقات المتروكة أو المطرودة خارج البلاد، وقد سبق هذا التاريخ عقدٌ حاول فيه الأسد الابن ومعه (الذئاب الشابة) من حاشية ورجال أعمال شباب مرتبطين به، بالتلاصق مع أولاد المسؤولين من الحرس القديم، أن يفرغا جيوب السوريين من السيولة التي يملكونها، عبر فتح السوق، من دون حسيب أو رقيب، لشركات وضعت سعراً لكل شيء بحسب رغبتها لا بحسب الأسعار الحقيقية التي تناسب إمكانات المستهلكين، وكذلك عبر تسريع عالٍ لعمليات النهب المنظم لمقدرات الدولة، من خلال منح أقارب الرئيس وحاشيته صفقات احتكار، حرمت خزينة الدولة من عائدات هذه العقود.
توضح مقارنة هذه الحال بما كانت عليه في سورية قبل ذلك كيف كانت المؤشرات تقول إن البلد يتراجع من حيث التطور، على الرغم من وجود التعليم المجاني، وعلى الرغم من وجود مشاريع إصلاح زراعي، وعلى الرغم من توفر عناوين عريضة فضفاضة ودعائية في سياسة الدولة تهدف إلى حماية الفقراء، وفتح المجال أمامهم ليحسنوا من أوضاعهم.
الحديث هنا عن ملامح تختص بالاقتصاد فقط، ولا يذهب نحو مقاربة الوضع السياسي أو الثقافي وغيرهما، إذ قد يكون التفكير بالقضايا الاقتصادية والمجتمعية كافياً لمعرفة حقيقة الأوضاع الأخرى، ومنها السياسة والثقافة، وأحوالهما في سورية معروفة للقاصي والداني، وبما لا يحتاج شرحا وتوضيحا.
بناء على ما سبق، يستطيع أي متابع للشأن السوري أن يجزم بأن الثورة التي جاءت محاولة أخيرة للطبقة المتوسطة للدفاع عن نفسها، في وجه أفعال النظام التي تدفع أفرادها إلى الانحدار إلى مصاف الشرائح الفقيرة في المجتمع، كانت تطمح، في عميق مقاصدها، إلى مواجهة صورة سورية المتخلفة وواقعها، واستعادة الفعالية للنهوض بسورية، وبإمكانات أفرادها، وبالمقدرات الوطنية، لأن تستعيد موقعها ضمن الإقليم والعالم، من خلال التطور والتحديث، وليس من خلال سياسات قطع الطريق والبلطجة التي دأب النظام على اتباعها تجاه جيرانه، ومحاولته الدائمة للتلاعب بالقضايا المشتركة التي تهم شعوب المنطقة.
لم يتغير الواقع في سورية التي يسيطر عليها النظام، على الرغم من كل ما حصل خلال السنوات الماضية، وإذا كانت هناك من مراهنة على أن يقنع هذا الواقع السوريين، لكي يقبلوا بالعودة إلى حضن الأسد، فذلك لا يحدث إلا حين يقارن المتحدث بين وضع مناطق النظام في المناطق التي سيطر عليها الجيش الحر والتي قام النظام بتدميرها ببراميله وصواريخه، جاعلاً الحياة فيها جحيماً لا يطاق، بالمقارنة كذلك مع المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش وجبهة النصرة.
لكن الخيارات ليست محدودة إلى هذا الحد، بالنسبة للسوريين الذين قرّروا الثورة على الأسد وزمرته، فالعالم ليس مغلقاً إلى هذه الدرجة، وكل من استطاع الخروج من سورية يدرك إلى أي مستوى بلغ تخلفها بالمقارنة مع دول الإقليم ومع دول العالم الأخرى، وأن أي تسويةٍ للوضع السوري، لا تضمن إزاحة الأسد، تعني أن يبقى الوضع على ما هو عليه عقودا، فليس لدى النظام خطط لتطوير البلاد، بقدر ما تتركز خططه على تكبيلها أكثر، وضمان أن يحيط بثرواتها، وضمان ألا يشاركه بها أحد سوى داعميه الذين باتوا يسيطرون على كثير من مقدرات السوريين، بموجب عقود منحها لهم الأسد في مقابل دعمهم له.
الصراع هنا بين رؤيتين؛ الأولى التي ترى أن سورية يمكن أن تتحرّر، وتمضي في صياغة مستقبل مزهر، يقوم على الحريات واحترام حقوق الإنسان وضمان حقوق الأفراد والجماعات، بما يكفل سيادة القانون واحترام الدستور، وضمان تداول السلطة. والثانية التي لا ترى ضرورةً لكل ما سبق، وتجد أن الأسد يمكن أن يستمر في حكم سورية، لا لشيء سوى لقدرته على قمع الإرهابيين، وضمان تعاونه مع دول العالم في حربها على الإرهاب (وهو دور قديم لعبه النظام في أوقات شتى)، من دون النظر فيما سينتج عن هذه الاستمرارية التي تتضمن، في غضونها، توالداً مستمراً للبؤر الإرهابية، بسبب سياسة العسف والقهر التي كانت، وما زالت، من خصائص تفكير الأسد وعصابته.
هنا، يمكن أن يلحظ المتابع اشتراط الاتحاد الأوروبي على المضي بالعملية السياسية، التي تفضي إلى رحيل الأسد، شرطاً للمشاركة في ملف إعادة الإعمار. ويمكن الالتفات إلى عدم وجود مثل هذا التفكير لدى أطراف أخرى فاعلة في الملف السوري، فالروس والإيرانيون يريدون حصاداً سريعاً للأرباح، حتى وإن لم تأت التسوية بالحل الذي يضمن حرية السوريين، بينما يغيب الأميركيون ظاهرياً عن القصة، مع إدراك عام بأنهم يمسكون باطنياً بالملف كله، على الرغم من انشغالهم بالحرب على "داعش"! كما تنوس الأدوار الأخرى لتركيا ودول الخليج تبعاً لمد وجزر مشكلاتها الإقليمية. وتبقى إسرائيل الأوضح في الموقف؛ فهي تريد للأسد أن يستمر، من دون أن يكون مرتاحاً، فهي لا تخاف منه، بل من عدوه، أي الشعب السوري، ونظامه يتكفل بمهمة إبادته، بينما يبقى هو تحت سيطرتها، تضربه متى تشاء، من دون أن يقوى، هو أو حلفاؤه، على مواجهة طيرانها وجيشها بشكل عام.
يدرك السوريون ما يجري، ويعرفون أن التسليم ببقاء زمرة القتلة متربعين على سدّة الحكم يعني، فيما يعنيه، تأبيد الصراع، بين سورية الأسد القديمة المتخلفة وسورية جديدة طمح السوريون من أجلها، فأُفلتت عليهم كل وحوش الأرض.
مقالات أخرى
18 سبتمبر 2024
17 مايو 2024
25 ابريل 2023