09 نوفمبر 2024
في وجوب منع مواجهة تركية كردية
تثير المسألة الكردية حساسية شديدة لدى تركيا، لأسباب تتعلق بالحجم المعتبر لعدد هذا المكوّن، وللجنوح الكردي إلى العنف، على الرغم من الحقوق التي تحصّل عليها الأكراد في بلاد الأناضول، والتي تفوق ما حظي به هؤلاء في إيران وفي سورية. وعليه، وبقدر ما كان مستغرباً كل الاستغراب أن تعمد واشنطن إلى الإعلان عن تشكيل جيشٍ، قوامه الوحدات الكردية، وبهدف نشر هذا الجيش على الحدود مع تركيا والعراق، كان متوقعاً أن تتفهم واشنطن المخاوف التركية الشديدة لمثل هذا التطور، وإلى درجة أن تنأى بنفسها عن أي مواجهةٍ محتملةٍ بين القوات التركية وقوات الحماية الكردية في منطقة عفرين في شمالي سورية. والراجح أن واشنطن سوف تدرك أهمية نزع فتيل التوتر بين الجانبين، وأنها، في ضوء التفهم الذي أبدته لرفض أنقرة الوجود المزمع لتلك القوات على الحدود، سوف تعيد النظر في هذه الخطط، تفادياً لخلط الأوراق، ومخافة الابتعاد عن هدف تركيز الجهد على محاربة تنظيم داعش الإرهابي، الذي ما زال يحظى بحرية الحركة في ريف حماة، وحتى في مناطق من العاصمة دمشق.
ويسترعي الانتباه أنه ما إن ثارت هذه المسألة المتعلقة بتشكيل جيش كردي، ونشره على الحدود، حتى سارعت كلٌّ من موسكو وإيران والنظام في دمشق إلى استثمارها من أجل تحقيق غايات سياسية مرئية، في مقدمّها الإيحاء بأن ثمة ما يجمع هذه الأطراف الثلاثة مع تركيا، وأن على الأخيرة أن ترد تحية الوقوف إلى جانبها، بمماشاة هذه الأطراف في سيناريو مؤتمر سوتشي، وبمجمل مواقفها حيال التسوية المستقبلية للأزمة السورية. وقد جاءت مواقف
الأطراف الثلاثة، بعد احتجاجات تركية تم إبلاغها لموسكو على الخروق الجسيمة المتواصلة في مناطق خفض التصعيد في كل من إدلب والغوطة الشرقية، وحيث ردّت موسكو على هذه الاحتجاجات بمواصلة حربها التدميرية على المدارس والأسواق وتجمعات النازحين في إدلب. وبهذا، فإن ما فعلته واشنطن، بالإعلان عن تشكيل جيش قوامه ثلاثون ألفاً، لا يعدو أن يكون خطوة تنقصها الحصافة، وتزيد في تعقيد الأزمة العامة، وما أبدته واشنطن من تفهم لاحق، عبّر عنه الوزير، ريكس تيلرسون، في 17 يناير/ كانون الثاني الجاري، من شأنه تبريد هذا التوتر، وإن كان لا يعالج أسباب الأزمة الناشبة والمستفحلة بين الطرفين، الكردي والتركي. فواقع الحال أن واشنطن لم تبذل جهداً كافياً مع حليفها الكردي/ السوري لدفعه إلى فك ارتباطه التنظيمي والسياسي مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وهذا الارتباط هو الذي يثير مخاوف جدية لدى أنقرة، تتعلق بالأمن القومي التركي، وليس أقل من ذلك. ولم تبادر قوات سورية الديمقراطية (قسد) لتبديد المخاوف التركية، ولنزع التوتر بين الجانبين، وجرى الخلط بين الانتماء العرقي/ القومي الواحد الذي يجمع الأكراد هنا وهناك والوشائج السياسية والتنظيمية التي يفُترض أن لا تكون قائمة، وذلك لخصوصية وضع الأكراد في كل من تركيا وسورية، وهو ما تنبّهت إليه الحركة الكردية في شمال العراق، التي ميّزت نفسها بصورةٍ حاسمة عن حزب العمال الكردستاني في بلاد الأناضول.
ومن عجبٍ أن دوائر التفكير وصنع القرار في واشنطن لم تتنبه لهذه المسألة، أو أنها تنبهت لها، لكنها لم تصل إلى نتيجة مع الجانب الكردي، أو لم تعمل بمقتضاها للتجسير بين الجانبين. والآن، إذ تدخل الأزمة السورية منعطفاً سياسياً حاسماً، ومع تواتر الأنباء عن مقاربة أميركية أكثر وضوحاً وشمولاً حيال الأزمة، باتت قيد التبلور، وعبّر عن بعض جوانبها الوزير تيلرسون، فإن معالجة الأزمة التركية الكردية أمر لا غنى عنه، ويزداد إلحاحاً في ضوء نُذُر المواجهة بين الجانبين اللذين يرتبطان بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع واشنطن التي تعتبرهما حليفين، في وقت ترفض تركيا، الدولة الإقليمية الكبيرة، التعامل الأميركي معها (ولها ملء الحق في ذلك) على قدم المساواة مع الجانب الكردي السوري، وإن كانت لا تُمانع، من حيث المبدأ، إقامة علاقة ما بين واشنطن والجانب الكردي، لا تصل إلى مستوى التسليح، وبأسلحة ثقيلة.
أما الجانب التركي فقد أحسن صنعاً بالتواصل مع واشنطن ومع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووضعه في صورة التهديدات التي ينطوي عليها نشر جيشٍ على حدوده مع سورية، جيشٍ لا ينكر صلته بحزب العمال الكردستاني، ويبقى بعدئذ أنه ليس من مصلحة تركيا أن تظهر
بصورة المناوئ لكل ما هو كردي خارج الحدود، وذلك بعد موقفها العنيف المعترض على الاستفتاء الكردي في شمال العراق في سبتمبر/ أيلول الماضي، على الرغم من العلاقات الوثيقة التي كانت تربطها بحكومة أربيل، وعلى الرغم من أن الأخيرة كانت تتغاضى عن الهجمات التركية ضد تموضعات حزب العمال، فالحركة الكردية تظل تحظى بقبولٍ على مستوى واسع من العالم، باعتبارها تعبّر عن أقلية قومية تعرّضت لاضطهاد طويل على أيدي حكومات المنطقة، وتنشُد التمتع بحقوقها الثقافية والسياسية.
ولأن تركيا منحت الأكراد، أو من هم من أصل كردي، حقوقاً أفضل بكثير من التي نالها نظراؤهم في إيران وسورية (قبل الاعتقالات التي شملت قيادات حزب الشعوب الديمقراطي)، فلا بد من الحفاظ على هذا الإرث، وعلى هذا الرصيد في إنصاف الأكراد الذي يُحسب لتركيا، ويستحق البناء عليه لا التضحية به. وهو ما يتطلب من أنقرة بذل جهدٍ لتوضيح أن موقفها لا يناهض الوجود الكردي في سورية، لكنه يعترض بشدة على ارتباط مكونٍ كردي رئيسي في سورية بحزب العمال، مع لجوء هذا المكون إلى العسكرة المتزايدة، بما قد يُغذي نزعات العنف لدى المكون الكردي في تركيا. يُذكر في هذا المجال أن أنقرة تقيم علاقات مع المجلس الوطني الكردي السوري، وهو أحد مكونات الائتلاف السوري المعارض، ويتعرّض لقمع شديد على أيدي "قسد" التي تقوم بتأميم الحياة السياسية في مناطقها في شمال سورية.
وفي جميع الأحوال، واشنطن مدعوةٌ إلى التراجع بغير تأخير عن موقفها المتسرّع والخاطئ، بما يتعلق بالجيش الكردي ومستويات تسليحه وتموضعه مستقبلاً، وعليها نزع فتيل التوتر الذي تسببت به، لا الاكتفاء بتفهّم المخاوف التركية، فالمواجهة بين الجانبين تزيد الأزمة السورية تعقيداً، وتتسبب بإزهاق مزيد من الأرواح، ولن تفيد في خطط استئصال "داعش" الإرهابي، أو في محاصرة التمدّد الإيراني، أو وقف الجموح الروسي المدمّر لكل الحلول.
ويسترعي الانتباه أنه ما إن ثارت هذه المسألة المتعلقة بتشكيل جيش كردي، ونشره على الحدود، حتى سارعت كلٌّ من موسكو وإيران والنظام في دمشق إلى استثمارها من أجل تحقيق غايات سياسية مرئية، في مقدمّها الإيحاء بأن ثمة ما يجمع هذه الأطراف الثلاثة مع تركيا، وأن على الأخيرة أن ترد تحية الوقوف إلى جانبها، بمماشاة هذه الأطراف في سيناريو مؤتمر سوتشي، وبمجمل مواقفها حيال التسوية المستقبلية للأزمة السورية. وقد جاءت مواقف
ومن عجبٍ أن دوائر التفكير وصنع القرار في واشنطن لم تتنبه لهذه المسألة، أو أنها تنبهت لها، لكنها لم تصل إلى نتيجة مع الجانب الكردي، أو لم تعمل بمقتضاها للتجسير بين الجانبين. والآن، إذ تدخل الأزمة السورية منعطفاً سياسياً حاسماً، ومع تواتر الأنباء عن مقاربة أميركية أكثر وضوحاً وشمولاً حيال الأزمة، باتت قيد التبلور، وعبّر عن بعض جوانبها الوزير تيلرسون، فإن معالجة الأزمة التركية الكردية أمر لا غنى عنه، ويزداد إلحاحاً في ضوء نُذُر المواجهة بين الجانبين اللذين يرتبطان بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع واشنطن التي تعتبرهما حليفين، في وقت ترفض تركيا، الدولة الإقليمية الكبيرة، التعامل الأميركي معها (ولها ملء الحق في ذلك) على قدم المساواة مع الجانب الكردي السوري، وإن كانت لا تُمانع، من حيث المبدأ، إقامة علاقة ما بين واشنطن والجانب الكردي، لا تصل إلى مستوى التسليح، وبأسلحة ثقيلة.
أما الجانب التركي فقد أحسن صنعاً بالتواصل مع واشنطن ومع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووضعه في صورة التهديدات التي ينطوي عليها نشر جيشٍ على حدوده مع سورية، جيشٍ لا ينكر صلته بحزب العمال الكردستاني، ويبقى بعدئذ أنه ليس من مصلحة تركيا أن تظهر
ولأن تركيا منحت الأكراد، أو من هم من أصل كردي، حقوقاً أفضل بكثير من التي نالها نظراؤهم في إيران وسورية (قبل الاعتقالات التي شملت قيادات حزب الشعوب الديمقراطي)، فلا بد من الحفاظ على هذا الإرث، وعلى هذا الرصيد في إنصاف الأكراد الذي يُحسب لتركيا، ويستحق البناء عليه لا التضحية به. وهو ما يتطلب من أنقرة بذل جهدٍ لتوضيح أن موقفها لا يناهض الوجود الكردي في سورية، لكنه يعترض بشدة على ارتباط مكونٍ كردي رئيسي في سورية بحزب العمال، مع لجوء هذا المكون إلى العسكرة المتزايدة، بما قد يُغذي نزعات العنف لدى المكون الكردي في تركيا. يُذكر في هذا المجال أن أنقرة تقيم علاقات مع المجلس الوطني الكردي السوري، وهو أحد مكونات الائتلاف السوري المعارض، ويتعرّض لقمع شديد على أيدي "قسد" التي تقوم بتأميم الحياة السياسية في مناطقها في شمال سورية.
وفي جميع الأحوال، واشنطن مدعوةٌ إلى التراجع بغير تأخير عن موقفها المتسرّع والخاطئ، بما يتعلق بالجيش الكردي ومستويات تسليحه وتموضعه مستقبلاً، وعليها نزع فتيل التوتر الذي تسببت به، لا الاكتفاء بتفهّم المخاوف التركية، فالمواجهة بين الجانبين تزيد الأزمة السورية تعقيداً، وتتسبب بإزهاق مزيد من الأرواح، ولن تفيد في خطط استئصال "داعش" الإرهابي، أو في محاصرة التمدّد الإيراني، أو وقف الجموح الروسي المدمّر لكل الحلول.