06 سبتمبر 2022
سوتشي والجبهة الوطنية التقدمية
يحيل مؤتمر سوتشي الذي تدعو إليه روسيا باسم السوريين، في شكله ومحتواه، إلى الجبهة الوطنية التقدمية، طويلة العمر في سورية، والتي أتت نموذجاً لمؤسسات دولة حافظ الأسد الصورية، ولغاياتها، إذ هي مؤسسات شكلانية خالية من أيِّ مضمون، إلا من بهرجة شكل الدولة، وتلميع صورة الزعيم لتقديمهما إلى الداخل والخارج: قائداً ديمقراطياً ودولة عصرية، لهما أحزاب ومؤسسات سياسية. وإذا كانت هذه الحال مكشوفة داخلياً، ومغطاة بالشعارات، والقمع، وكثرة التطبيل للزعيم، فإنها مكشوفة خارجياً أيضاً، ومسكوت عنها، ما دامت تؤدي الغرض، وتحفظ المصالح، فهذه الدولة لم تقم في الأصل إلا على أشلاء رفاق الزعيم المقربين، والمنافسين الذين تخلّص منهم اغتيالاً أو سجناً، فأراح نفسه، وغيره من يساريتهم الزائدة، ومما تولِّده من هواجس مقلقة للغرب والشرق على السواء، ولبعض دول الجوار أيضاً.
حين اطمأن الزعيم إلى أنَّ السلطة آلت إليه، صار لا بد من الحفاظ عليها، وتأمينها أكثر فأكثر، وكان أوَّل ما تطلبه الأمر تطويع القوى السياسية، الموجودة موضوعياً.. إذاً لا بد من أسلوب ناعم غير الذي استخدم مع الرفاق. وهكذا رأى الزعيم تحويل أدوات تلك القوى إلى كائناتٍ ميكانيكية، تحركِّها إرادته وأدواته المختلفة، فجاءت فكرة الجبهة الوطنية التقدمية لتحاكي تجارب في بعض بلدان أوروبا الشرقية قبل الانهيار، وما سهَّل الأمر على حافظ الأسد أنَّ الأحزاب التي انضوت تحت لواء حزب البعث، يعني لواء الزعيم، كانت قريبة منه في فكرها السياسي، وخصوصاً بعد وفاة جمال عبد الناصر، إذ هي في الأصل منشقة عن حزب البعث.
ويبقى الحزب الشيوعي السوري الذي على الرغم من اختلافه قليلاً، (قديم التأسيس، وله صحفه ومكاتبه، وقواعده)، قابلاً للتطويع أيضاً، ما دام قد جاء إلى التحالف بدفعٍ سوفييتي. أمَّا الحزبان الآخران اللذان لهما حضور ما، ولم يدخلا الجبهة، فهما تنظيم الإخوان المسلمين والحزب السوري القومي الاجتماعي.. وقد أعيد الأخير إلى حظيرة "البعث"، بعد أنْ لمعت فكرة احتوائه في ذهن حافظ الأسد قبيل دخول الجيش السوري إلى لبنان، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن صار لآل مخلوف "القوميين السوريين" وَتَدٌ متين الغرس في دولة الأسد، على الرغم من تناقض فكرته المحصورة بسورية الكبرى مع عقيدة "البعث" الأكثر شمولاً وعمقاً في رغائبها بإعادة أمجاد العرب، يقول حافظ الأسد: "ما الذي كان يمنع أن تقوم وحدة بين سورية والعراق؟ ولتُسَمَّ الهلال الخصيب أو الهلال المجْدِب" (في المؤتمر القومي الثاني عشر في يوليو/ تموز 1975). لكنَّ أمر احتواء لبنان لم يأت، كما رغب الأسد، إذ خرج الجيش السوري من لبنان مكرهاً، وبعد أنْ خلَّف في دياره، وديار الفلسطينيين جراحاً مفتوحة.. وفي نفوس اللبنانيين أحقاداً عميقة، حصدها المهجّرون السوريون في سنوات محنتهم الراهنة. كذلك تناسى الأسد حديثه عن الوحدة مع العراق لدى حكم "البعث" هنا وهناك. بل على العكس وقف ضد العراق مرتين، الأولى تضامناً مع إيران، والثانية إرضاء لأميركا (!)، والسبب الجوهري في الأمرين وجود منافس له قويٍّ على سلطة الوحدة في حال قيامها. وهكذا تحسن موقع الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى أن التحق شِقُّهُ بالجبهة (لم يبق حزب سوري من الأحزاب المرضي عنها لم ينقسم أو يُقَسَّم أكثر من مرة). وظلَّ آل مخلوف ينعمون بالمال السوري المنهوب، ويشدّون، رياء، من أزر الأسد.
أما الإخوان المسلمون فكانوا مستبعدين كلِّياً لأسبابٍ ربما يصعب الدخول في تفاصيلها الآن، مع أنَّ موضوع دخولهم الجبهة قد طرح عام 1980، إلا أنَّ حافظ الأسد وأعوانه اختاروا أسلوب تصفية الحزب، فذلك أكثر نجاعة وأماناً لدولة الأسد. وجاءت التصفية، في تطبيقها اللئيم، متجاوزة حدودها السياسة إلى ما هو ديني واجتماعي، إذ كانت مدينة حماة، بأهلها كافة، عام 1982، قرباناً لذلك الاختيار، الأمر الذي ترك ذيولاً امتدت طويلاً في الزمن، إلى أن حانَ الوقتُ، وجرى ما يجري اليوم في سورية، فكانَ لها الدور الفاعل والمؤثر.
وعطفاً على عنوان هذه المقالة، يريد الروس، حلفاء الأب والابن، في الماضي والحاضر، من مؤتمر سوتشي اليوم، أن يكون صورة عن تلك الجبهة الخارجة من عباءتهم في الأصل. والغاية أن يبصم لهم على ما يتصورونه من بناء يقوم على أنقاض ما دمروه في سورية من بشر وحجر، وهدم كيان، تحت ما يسمى محاربة الإرهاب. الإرهاب المصنَّع بمعرفتهم، وخبرة شركائهم الذين فوَّضوهم، الإرهاب الذي جاء سبباً ظاهرياً لغاياتٍ خبيثةٍ، هي تدمير سورية
خدمة لإسرائيل، واغتيالاً لطموحات الشعب السوري في الحرية والعيش الكريم. ويتوافق، كذلك، مع مخططات الروس للبقاء الدائم في سورية، وبما مكّنوا لأنفسهم به، يعني بإيجاز أن الروس يريدون من "سوتشي" أن يكون غطاء لتصفية مطالب الشعب السوري في الحرية والحياة الكريمة، ولإبقاء السلطة بيد من مكَّن لهم، إن لم نذهب إلى أبعد ذلك من محاولات التقسيم الذي قد يأتي تحت مسميات شتى.
وإذا كان النظام استطاع، عبر الجبهة وسواها، أن يقسِّم أحزابها من جهة، وأن يكسب من بين صفوفها عملاء ومخبرين لأجهزته الأمنية، فإنَّ مدينة سوتشي الروسية لن تستقبل هؤلاء فحسب، بل ستستقبل نحو ثلاثين حزباً تشكلوا بمعرفة الأجهزة الأمنية بعد العام 2011 إلى جانب أعضاء منتقين بعناية الأجهزة نفسها من مجلس الشعب، ومجالس المدن، واتحادات العمال والفلاحين والطلاب والحرفيين وسواهم، ليكونوا معارضة ديمقراطية منسوخة عن ديمقراطية فلاديمير بوتين المتمثلة بتبادل السلطة وجوهر وظائفها بينه وبين ديميتري ميدفيديف.
وأخيراً ليس أبلغ من مهزلة لقاء سوتشي غير التعليق المتهكم من أسماء المرشحين له، ومعظمهم مجهول حتى للسوريين في مناطق النظام نفسه، فقد جاء في صفحة على "فيسبوك" لصحافي سوري من داخل النظام: "كل من سيذهب الى سوتشي سينطلق من قاعدة حميميم، وعبر طائرة روسية عسكرية (لا جواز سفر، ولا فيزا) إلى قاعدة عسكرية روسية مغلقة، في سوتشي. لا خروج، ولا دخول، ولا تسوق، ولا فودكا، ولا شقراوات.. ولا، ولا.. سوى اجتماعات داخل القاعدة المغلقة، وبعدها العودة إلى حميميم؟".
حين اطمأن الزعيم إلى أنَّ السلطة آلت إليه، صار لا بد من الحفاظ عليها، وتأمينها أكثر فأكثر، وكان أوَّل ما تطلبه الأمر تطويع القوى السياسية، الموجودة موضوعياً.. إذاً لا بد من أسلوب ناعم غير الذي استخدم مع الرفاق. وهكذا رأى الزعيم تحويل أدوات تلك القوى إلى كائناتٍ ميكانيكية، تحركِّها إرادته وأدواته المختلفة، فجاءت فكرة الجبهة الوطنية التقدمية لتحاكي تجارب في بعض بلدان أوروبا الشرقية قبل الانهيار، وما سهَّل الأمر على حافظ الأسد أنَّ الأحزاب التي انضوت تحت لواء حزب البعث، يعني لواء الزعيم، كانت قريبة منه في فكرها السياسي، وخصوصاً بعد وفاة جمال عبد الناصر، إذ هي في الأصل منشقة عن حزب البعث.
ويبقى الحزب الشيوعي السوري الذي على الرغم من اختلافه قليلاً، (قديم التأسيس، وله صحفه ومكاتبه، وقواعده)، قابلاً للتطويع أيضاً، ما دام قد جاء إلى التحالف بدفعٍ سوفييتي. أمَّا الحزبان الآخران اللذان لهما حضور ما، ولم يدخلا الجبهة، فهما تنظيم الإخوان المسلمين والحزب السوري القومي الاجتماعي.. وقد أعيد الأخير إلى حظيرة "البعث"، بعد أنْ لمعت فكرة احتوائه في ذهن حافظ الأسد قبيل دخول الجيش السوري إلى لبنان، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن صار لآل مخلوف "القوميين السوريين" وَتَدٌ متين الغرس في دولة الأسد، على الرغم من تناقض فكرته المحصورة بسورية الكبرى مع عقيدة "البعث" الأكثر شمولاً وعمقاً في رغائبها بإعادة أمجاد العرب، يقول حافظ الأسد: "ما الذي كان يمنع أن تقوم وحدة بين سورية والعراق؟ ولتُسَمَّ الهلال الخصيب أو الهلال المجْدِب" (في المؤتمر القومي الثاني عشر في يوليو/ تموز 1975). لكنَّ أمر احتواء لبنان لم يأت، كما رغب الأسد، إذ خرج الجيش السوري من لبنان مكرهاً، وبعد أنْ خلَّف في دياره، وديار الفلسطينيين جراحاً مفتوحة.. وفي نفوس اللبنانيين أحقاداً عميقة، حصدها المهجّرون السوريون في سنوات محنتهم الراهنة. كذلك تناسى الأسد حديثه عن الوحدة مع العراق لدى حكم "البعث" هنا وهناك. بل على العكس وقف ضد العراق مرتين، الأولى تضامناً مع إيران، والثانية إرضاء لأميركا (!)، والسبب الجوهري في الأمرين وجود منافس له قويٍّ على سلطة الوحدة في حال قيامها. وهكذا تحسن موقع الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى أن التحق شِقُّهُ بالجبهة (لم يبق حزب سوري من الأحزاب المرضي عنها لم ينقسم أو يُقَسَّم أكثر من مرة). وظلَّ آل مخلوف ينعمون بالمال السوري المنهوب، ويشدّون، رياء، من أزر الأسد.
أما الإخوان المسلمون فكانوا مستبعدين كلِّياً لأسبابٍ ربما يصعب الدخول في تفاصيلها الآن، مع أنَّ موضوع دخولهم الجبهة قد طرح عام 1980، إلا أنَّ حافظ الأسد وأعوانه اختاروا أسلوب تصفية الحزب، فذلك أكثر نجاعة وأماناً لدولة الأسد. وجاءت التصفية، في تطبيقها اللئيم، متجاوزة حدودها السياسة إلى ما هو ديني واجتماعي، إذ كانت مدينة حماة، بأهلها كافة، عام 1982، قرباناً لذلك الاختيار، الأمر الذي ترك ذيولاً امتدت طويلاً في الزمن، إلى أن حانَ الوقتُ، وجرى ما يجري اليوم في سورية، فكانَ لها الدور الفاعل والمؤثر.
وعطفاً على عنوان هذه المقالة، يريد الروس، حلفاء الأب والابن، في الماضي والحاضر، من مؤتمر سوتشي اليوم، أن يكون صورة عن تلك الجبهة الخارجة من عباءتهم في الأصل. والغاية أن يبصم لهم على ما يتصورونه من بناء يقوم على أنقاض ما دمروه في سورية من بشر وحجر، وهدم كيان، تحت ما يسمى محاربة الإرهاب. الإرهاب المصنَّع بمعرفتهم، وخبرة شركائهم الذين فوَّضوهم، الإرهاب الذي جاء سبباً ظاهرياً لغاياتٍ خبيثةٍ، هي تدمير سورية
وإذا كان النظام استطاع، عبر الجبهة وسواها، أن يقسِّم أحزابها من جهة، وأن يكسب من بين صفوفها عملاء ومخبرين لأجهزته الأمنية، فإنَّ مدينة سوتشي الروسية لن تستقبل هؤلاء فحسب، بل ستستقبل نحو ثلاثين حزباً تشكلوا بمعرفة الأجهزة الأمنية بعد العام 2011 إلى جانب أعضاء منتقين بعناية الأجهزة نفسها من مجلس الشعب، ومجالس المدن، واتحادات العمال والفلاحين والطلاب والحرفيين وسواهم، ليكونوا معارضة ديمقراطية منسوخة عن ديمقراطية فلاديمير بوتين المتمثلة بتبادل السلطة وجوهر وظائفها بينه وبين ديميتري ميدفيديف.
وأخيراً ليس أبلغ من مهزلة لقاء سوتشي غير التعليق المتهكم من أسماء المرشحين له، ومعظمهم مجهول حتى للسوريين في مناطق النظام نفسه، فقد جاء في صفحة على "فيسبوك" لصحافي سوري من داخل النظام: "كل من سيذهب الى سوتشي سينطلق من قاعدة حميميم، وعبر طائرة روسية عسكرية (لا جواز سفر، ولا فيزا) إلى قاعدة عسكرية روسية مغلقة، في سوتشي. لا خروج، ولا دخول، ولا تسوق، ولا فودكا، ولا شقراوات.. ولا، ولا.. سوى اجتماعات داخل القاعدة المغلقة، وبعدها العودة إلى حميميم؟".