09 نوفمبر 2024
تباعد يزداد بين واشنطن وعمّان
تجمّع عشرات الأردنيين صباح الأحد الماضي، 21 يناير/ كانون الثاني الجاري، أمام السفارة الأميركية في ضاحية عبدون في عمّان، حاملين يافطاتٍ، مطالبين بعدم استقبال نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، فيما كان الملك عبدالله الثاني على أهبة استقباله. وكان الملك قد أوضح، في مناسبات سابقة، وبعد قرار الرئيس دونالد ترامب بشأن القدس، أن "الأردن لن يترك فراغا في العلاقات مع واشنطن". والرسالة في ذلك أن مواجهة المسؤولين الأميركيين بالحقائق أفضل من إدارة الظهر لهم. وهو ما حدث في ذلك اليوم، لدى استقبال بنس في قصر الحسينية، الذي تخلله غداء عمل. وقد أشار الضيف إلى أن الرئيس ترامب هو من طلب منه أن يقصد الأردن، في جولته التي كانت تقتصر في الأصل على القاهرة وتل أبيب، وذلك بعد رفض السلطة الفلسطينية استقباله. وقد تأجلت جولة الرجل نحو أربعة أسابيع، بالتذرع بالتزامات لنائب الرئيس مع مجلس الشيوخ (يترأس بحكم منصبه هذا المجلس)، لكن واقع الأمر يفيد بأن إدارة البيت الأبيض كانت تراهن على القيام بالجولة، بعد هدوء بعض شوارع العواصم العربية المندّدة بالقرار.
لا يؤشر ما جرى في اللقاء إلى أزمة في العلاقات الأردنية الأميركية، لكنه يشي بالوصول إلى تباعد، وإلى حالةٍ من افتقاد لغة مشتركة بين الجانبين بشأن الملف الأشد أهمية وحساسية المتعلق بالقدس وعموم الأراضي المحتلة، وهي المرة الأولى التي تبلغ فيها الأمور هذه الدرجة من التباعد السياسي منذ أزمة الخليج الأولى، بما يؤذن بمرحلةٍ صعبةٍ من العلاقات، ويزيدها صعوبة تساوق الكونغرس، بمجلسيه، مع الرئيس ترامب.
ومن غرائب السياسة الأميركية أن الملك عبدالله الثاني لطالما خاطب الكونغرس مرارا منذ
توليه العرش قبل 17 عاماً، بخصوص القضايا الشرق أوسطية الحيوية، وظلت خطاباته على الدوام تنتزع التصفيق والإعجاب من أعضاء المجلسين (النواب والشيوخ). ومع ذلك تندفع أغلبية جمهورية وديمقراطية، في دعم قراراتٍ تتناقض مع الشرعية الدولية، ومع أمل إحلال السلام، كالقرار بشأن القدس، والذي خرج في البدء من الكونغرس.
ومع حرص واشنطن على الإعلان، عشية زيارة المسؤول الأميركي، عن الإبقاء على مساعداتها للأردن (نحو 1,3 مليار دولار)، إلا أن الموقف الأردني لم يتغير، وكان الملك عبدالله واضحا في حديثه إلى بنس "كأصدقاء وشركاء" عن الموقف الأردني، بخصوص حل الدولتين، وبشأن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. وهو ما التزم بنس حياله الصمت، مكتفيا بما سماه "قرارا تاريخيا" بشأن القدس. والقرار بالفعل تاريخي، لكن بالمعنى السلبي لكلمة تاريخ هنا. إضافة إلى الذرائع التي ساقها حول أن واشنطن لم تحدد موقفها بعد بخصوص الوضع النهائي والحدود، وحول مراعاة الوصاية الأردنية (الهاشمية) على المقدسات، وهي عبارة لا تحمل على الاطمئنان، خلافاً لما حاول بنس إشاعته، فالفحوى أن القرار بخصوص مدينة القدس نافذ، بيد أن الوصاية على القدس تبقى كما هي، علماً أن حكومة الاحتلال لا تعبأ كثيرا بهذه الوصاية، المنصوص عليها في اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، فهي لا توفر وسيلةً إلا وتستخدمها لاستباحة المقدسات، والتنكيل بموظفي الأوقاف وحراس الأقصى الذين يتبعون وزارة الأوقاف الأردنية، ما يجعل كلام نائب الرئيس بلا طائل ومجرد كلام في الهواء. وحتى مع احترام هذه الوصاية، فإن الاستيلاء على القدس الشرقية وبقية الأراضي المحتلة يبقى مُداناً، والرجوع عنه واجبا.
وبينما لجأ الزائر الأميركي الذي لقي استقبالاً على مستوى منخفض في مطار عمّان (استقبله أمين عمّان وهو برتبة وزير)، إلى حديث موجز أمام مضيفه الملك، فإنه لم يتوان عن مخاطبة الصحافيين بعد استقبال الملك له بالقول: "اتفقنا على أن نختلف"، وهو تصريح بدا جافاً، إلا أن شهية بنس للحديث انفتحت أمام البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قائلا للأعضاء إن "قضيتكم قضيتنا وقيمكم قيمنا". وفي امتداحٍ لا سابق له لاحتلال دولة أراضي الآخرين، وإعلان التماهي مع هذا الاحتلال، نوّه إلى أن قرار ترامب بشأن القدس تأخر سبعين عاما! وهو ما يعني أنه
كان على الدولة العبرية أن تحتل كامل مدينة القدس قبل سبعة عقود مع نشوء الدولة العبرية (كانت القرارات الدولية تؤشر آنذاك إلى وضع ترتيبات دولية بشأن المدينة). ومستخدما المزاعم الإسرائيلية، وصف الرجل المدينة بأنها "العاصمة الروحية والسياسية لإسرائيل". وبهذا، تحدث بالفعل كأنه كاهن إنجيلي، وليس نائب رئيس دولة عظمى، يُفترض أن تسهر على احترام القانون الدولي والشرعية الدولية. ولذلك، لم يجانب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، صائب عريقات، الصواب، حين وصف الخطاب بأنه "تبشيري يعيد أجواء الحملة الصليبية" على القدس العربية قبل سبعة قرون. أما الأردن فلم يعقب على الخطاب الذي قاطعه النواب العرب في الكنيست، مكتفياً بالتصريحات الحازمة التي أعلنها الملك على مسمع من مايك بنس ومرافقيه.
والأردن، في تلك الأثناء مع وصول بنس ومغادرته في اليوم نفسه قاصدا تل أبيب، كان وما زال تحت تأثير التصريحات الإسرائيلية بخصوص الموقف من جريمة حارس أمن إسرائيلي في يوليو/ تموز الماضي التي أودت برجلين، وأدت إلى مغادرة كامل طاقم السفارة الإسرائيلية. فبينما تحدث مصدر أردني عن اعتذار إسرائيلي ودفع تعويضات، إذا بتصريحات لاحقة لمصدر إسرائيلي تفيد بأنه لا اعتذار، ولا محاكمة للقاتل حارس الأمن الذي احتضنه بنيامين نتنياهو مهنئاً إياه، لدى عودته بعد ارتكاب جريمته. وهو ما يجعل ملف القضية مفتوحاً ومُعلقاً، بعدما شاع أن الملف في طريقه إلى الإغلاق على نحوٍ يلبّي الطلبات الأردنية (الاعتذار، محاكمة القاتل، دفع تعويضات لذوي القتيلين). وبهذا، فإن أجواء طقس المنطقة في هذا الأوان ليست هي الملبدة فقط، بل كذلك أجواء العلاقات مع الدولة العظمى، ومع الدولة العبرية التي تتشدق، مدار الساعة، بالسلام، فيما تفعل كل ما تملك يمينها لتجويف هذا الخيار، وتفريغه من المعنى.
لا يؤشر ما جرى في اللقاء إلى أزمة في العلاقات الأردنية الأميركية، لكنه يشي بالوصول إلى تباعد، وإلى حالةٍ من افتقاد لغة مشتركة بين الجانبين بشأن الملف الأشد أهمية وحساسية المتعلق بالقدس وعموم الأراضي المحتلة، وهي المرة الأولى التي تبلغ فيها الأمور هذه الدرجة من التباعد السياسي منذ أزمة الخليج الأولى، بما يؤذن بمرحلةٍ صعبةٍ من العلاقات، ويزيدها صعوبة تساوق الكونغرس، بمجلسيه، مع الرئيس ترامب.
ومن غرائب السياسة الأميركية أن الملك عبدالله الثاني لطالما خاطب الكونغرس مرارا منذ
ومع حرص واشنطن على الإعلان، عشية زيارة المسؤول الأميركي، عن الإبقاء على مساعداتها للأردن (نحو 1,3 مليار دولار)، إلا أن الموقف الأردني لم يتغير، وكان الملك عبدالله واضحا في حديثه إلى بنس "كأصدقاء وشركاء" عن الموقف الأردني، بخصوص حل الدولتين، وبشأن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. وهو ما التزم بنس حياله الصمت، مكتفيا بما سماه "قرارا تاريخيا" بشأن القدس. والقرار بالفعل تاريخي، لكن بالمعنى السلبي لكلمة تاريخ هنا. إضافة إلى الذرائع التي ساقها حول أن واشنطن لم تحدد موقفها بعد بخصوص الوضع النهائي والحدود، وحول مراعاة الوصاية الأردنية (الهاشمية) على المقدسات، وهي عبارة لا تحمل على الاطمئنان، خلافاً لما حاول بنس إشاعته، فالفحوى أن القرار بخصوص مدينة القدس نافذ، بيد أن الوصاية على القدس تبقى كما هي، علماً أن حكومة الاحتلال لا تعبأ كثيرا بهذه الوصاية، المنصوص عليها في اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، فهي لا توفر وسيلةً إلا وتستخدمها لاستباحة المقدسات، والتنكيل بموظفي الأوقاف وحراس الأقصى الذين يتبعون وزارة الأوقاف الأردنية، ما يجعل كلام نائب الرئيس بلا طائل ومجرد كلام في الهواء. وحتى مع احترام هذه الوصاية، فإن الاستيلاء على القدس الشرقية وبقية الأراضي المحتلة يبقى مُداناً، والرجوع عنه واجبا.
وبينما لجأ الزائر الأميركي الذي لقي استقبالاً على مستوى منخفض في مطار عمّان (استقبله أمين عمّان وهو برتبة وزير)، إلى حديث موجز أمام مضيفه الملك، فإنه لم يتوان عن مخاطبة الصحافيين بعد استقبال الملك له بالقول: "اتفقنا على أن نختلف"، وهو تصريح بدا جافاً، إلا أن شهية بنس للحديث انفتحت أمام البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قائلا للأعضاء إن "قضيتكم قضيتنا وقيمكم قيمنا". وفي امتداحٍ لا سابق له لاحتلال دولة أراضي الآخرين، وإعلان التماهي مع هذا الاحتلال، نوّه إلى أن قرار ترامب بشأن القدس تأخر سبعين عاما! وهو ما يعني أنه
والأردن، في تلك الأثناء مع وصول بنس ومغادرته في اليوم نفسه قاصدا تل أبيب، كان وما زال تحت تأثير التصريحات الإسرائيلية بخصوص الموقف من جريمة حارس أمن إسرائيلي في يوليو/ تموز الماضي التي أودت برجلين، وأدت إلى مغادرة كامل طاقم السفارة الإسرائيلية. فبينما تحدث مصدر أردني عن اعتذار إسرائيلي ودفع تعويضات، إذا بتصريحات لاحقة لمصدر إسرائيلي تفيد بأنه لا اعتذار، ولا محاكمة للقاتل حارس الأمن الذي احتضنه بنيامين نتنياهو مهنئاً إياه، لدى عودته بعد ارتكاب جريمته. وهو ما يجعل ملف القضية مفتوحاً ومُعلقاً، بعدما شاع أن الملف في طريقه إلى الإغلاق على نحوٍ يلبّي الطلبات الأردنية (الاعتذار، محاكمة القاتل، دفع تعويضات لذوي القتيلين). وبهذا، فإن أجواء طقس المنطقة في هذا الأوان ليست هي الملبدة فقط، بل كذلك أجواء العلاقات مع الدولة العظمى، ومع الدولة العبرية التي تتشدق، مدار الساعة، بالسلام، فيما تفعل كل ما تملك يمينها لتجويف هذا الخيار، وتفريغه من المعنى.