09 نوفمبر 2024
سورية.. "إنت فين والحب فين؟"
على أبواب عيد الحب الذي يحتفل فيه العالم غدا، الرابع عشر من فبراير/ شباط من كل عام، يلحّ على السوري سؤال الحب، بعد سبع سنين عجاف، يبس فيها الزرع والضرع، وشاب شعر الولدان من هول الكارثة السورية، وبشاعة الشر الفريد الفاتك بها، هل يصح أن يُقال للأوطان، مثلما غنت أم كلثوم التي مرت ذكرى وفاتها منذ أيام، "إنت فين والحب فين؟".
استدرجتني المقالة اللماحة للشاعر أمجد ناصر، "الحياة من أجل هدف قضية"، في "العربي الجديد" (5/2/2018)، إلى دخول أدغال الأسئلة العصية، انطلاقًا من واقعنا السوري. قيس بن الملوّح مات حبًّا، هام على وجهه في الصحراء ومات، لا تهم طريقة الموت أو أسبابه، طالما المحرّض الأكيد هو الموت حبًّا بعد فقدان الحبيب أو استحالة وصاله.
وإذ يتساءل أمجد ناصر في مقالته مقابلاً موت الشخص أو حياته بموت أمةٍ أو حياتها: "أيمكن للهدف أن يحيي أمةً تبدو في حالة موتٍ مجازي (كما هو حالنا اليوم)؟ نعم ممكن. لاحظنا ذلك في الخمسينيات والستينيات وصولا إلى السبعينيات. فعندما كان هناك "هدف" عمومي كانت علامات الحياة واضحة على وجوهنا. وليس أدلّ على ذلك من انتعاش أشكال الإبداع الأدبي والفني التي عرفتها تلك الفترة. بلا هدف لا حياة". هذه نتيجة أظنها في الموقع الصحيح، فالإبداع هو الرئة التي تتنفس بها الشعوب والأمم، لكن عندما تكون العضوية على حدود الموت المحتم، وهي تدخل غيبوبة النزيف الدائم، كما هي حال سورية وبلدان كثيرة مما وقعت صريعة ما يُدعى "الربيع العربي"، فأظن أن القضية أو الهدف الذي يستنهض قوة الحياة تكون غائبةً عن وعي الأمة الغارقة في سباتها مفصولة عن الحياة.
في الخمسينيات والستينيات، نالت معظم الدول العربية استقلالها بالتتالي، ولم يبقَ محتل فوق أراضيها غير الاحتلال الصهيوني، فكانت فلسطين البوصلة التي تنفخ الهواء على جمر الأرواح، كي تظل متقدة، وكان هناك حلم النهوض بالمجتمعات والشعوب، لتدخل ركب الحياة الإنسانية السليمة، وتساهم في إنتاج الحضارة، فكانت القضية تستحق أن تكون الهدف الذي يمنح قوة التحدي والتمسك بالحياة، وكانت ثقافة الحب تنتعش من جديد في فضاء اجتماعي وسياسي يوفر هامشًا معقولاً من الديمقراطية والحرية. لا يمكن للحب أن يعيش وينمو تحت السقوف المنخفضة، أو في الأقفاص. وعندما صارت الأقفاص تتشكل، صار الحب يذوي وتنمو بدلاً منه بذور الفتنة والعصبية التي نمت واستطالت وتشابكت، مثل اللبلاب أو النباتات الطفيلية، تمتص نسغ الأمة، فتصاب بفقر الدم وفقر المخيلة وفقر الإبداع، فراحت الأرواح تلوذ بالماضي والنفوس تلتصق بجسد القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو القومية التي سطت بالتباري مع الدين على فضاء الحياة.
لم يبقَ مكان للحب في سورية. يقدّم الواقع الدامي الدليل في كل لحظة عن كم العنف والجنوح نحو الجريمة الموصوفة لدى الجميع، وعن طرق التشفّي والانتقام التي مارسها ويمارسها الجميع بعضهم ضد بعض، الانتقام المتشفي بأكثر الأساليب دموية وانحطاطًا. من لم يمثّل بجثث أعدائه بعدما صارت العداوات الناظم لنبض الحياة؟ بل يمكن القول إن سورية حازت على الريادة في استنباط أشكال وأساليب وأدوات من العنف، ربما في بعض منها لم يسجّل التاريخ ما يشبهها. إشهار العنف الوحشي المرتبط بإيديولوجية أو عقيدة في الميديا بمختلف أشكالها، وفي مقدمتها وسائط التواصل الاجتماعي، يقدّم صورة أكثر دقة عن الكارثة الحقيقية التي لا تكفّ عن الحدوث في سورية، لا يمكن لمن بقي على تخوم الحياة أن ينسى الصور ومشاهد الفيديو التي كان يضخها تنظيم داعش عبر الميديا عن قطع الرؤوس والذبح الحلال والرجم والجلد، كما لم تغادر الذاكرة صورة ضابط ميداني في الجيش العربي السوري بجانب رؤوس معلقة وأجساد مقطعة وممزقة في محيط مطار دير الزور. وهل يُنسى الطفل عبد الله عيسى، مريض التلاسيميا والساق المعطوبة، والمقاتلون يصورون فيلم قطع رأسه، ويتلذذون بشبق بهيمي، متندرين بذبحه "سيلفي والأسير من خلفي"؟ كما أن المشهد الأخير يعود ويكرّس الصورة في أعتى جبروتها، مشهد جثة المقاتلة الكردية في معارك عفرين، والمقاتلون يتشفون من عنفوان أنوثتها بذكوريةٍ هائجةٍ، تتشهى العنف بلذة فاجرة، لم يكتفوا بموتها، بل استباحوا أنوثتها بتباهٍ جبار أمام الكاميرا.
هذه الصور والمشاهد التي فاض بها البركان السوري تكثيف وتأصيل للعنف بأشرس صوره، والخطورة العظمى أن يصير نهجاً ينمو ويكبر في مجتمعات تقهقرت وتراجعت عن ركب الحضارة عقوداً، فألفت نفسها مهمشة مستضعفة بلا طموح أو أفق، مجتمعات تعاني من تناذر الاضطهاد والدونية، فتغترب عن مفردات الإنسانية والعيش الكريم. بل صار التأصيل يُؤسس له منذ الطفولة نهج حياة يوصل إلى القضايا الكبيرة، الأطفال لم يغيبوا عن مشهد العنف، بل زجّ بهم ليكونوا أدواتٍ بالغة التأثير، كما صورة الطفل ابن مقاتل من "داعش"، ذي السنوات السبع، الذي يمسك بيده رأساً مقطوعاً ويبتسم أمام الكاميرا. صارت هذه المشاهد الفاجرة في وحشيتها مألوفة بالنسبة للذاكرة البصرية، ومهما استدرج أحدها من مخزون الذاكرة ما يشبهه، فإن الأثر الصادم بات أقل بكثير من المرات الأولى.
لم يعد العنف شأنًا فرديًا في سورية التي تقطع أوصالها بجدران فصل فولاذية محمّاة بنار الحقد وحرارة الدماء الطازجة باستمرار، صار حالةً اجتماعيةً بعدما طوّعت الحرب الجماعات، وخدرت العقيدة والإيديولوجيا النفوس، وغيّب التهديد الوجودي العقول، وصار الثأر يداوي الشرور مجتمعةً، بعد أن أمات آخر ومضات الحب.
صحيح هو الربط بين الحالة النفسية والجسدية للفرد، وهناك مفهومٌ في الطب يُدعى "الأعراض التحويلية"، حيث تعبّر النفس المأزومة عن نفسها بأعراض جسدية وصفية، كأن يشتكي الشخص من أعراض قرحة هضمية، ولا قرحة عضوية لديه، أو تنتابه نوبة تشبه الذبحة الصدرية، وليس لديه سبب عضوي، وغيرها كثير. إنها حالة دفاع وجودية عن النفس المأزومة، من دون أن يدري بها أو يقصدها الشخص، لكنها تدل على التمسك بالحياة ومحاولة البحث عمّا يرسخها. لكن شعبنا لا يعاني فقط من أرواح ونفوس مأزومة، بل هو شعبٌ منتهكٌ مستباحٌ عضويًا ونفسيًا، جروحه مكشوفة للشمس وملح بكائه العاجز، هو لا يعاني من موتٍ مجازي، بل يموت كل يوم ميتاتٍ لا تعد بالفعل والواقع. لم تبقَ في وجدانه مساحة للحب وللشغف بقضايا يعيش من أجلها، ولم تعد فلسطين بوصلته، بات مطلبه الملحّ والإسعافي هو النجاة من الموت، والعودة إلى الحياة، بعدها يمكن أن يرمم روحه، وما تداعى من كيانه بفعل زلزالٍ لم يشهد التاريخ بعنفه وقسوته وجبروته.
لم نعد نملك أكثر من التمني بالعافية للشعب السوري، وبعدها فليحلم بعيد حب يرمم أرواحه على أنقاض الضغينة التي كرّستها تجارب السنوات السبع، كي لا ينسى.
استدرجتني المقالة اللماحة للشاعر أمجد ناصر، "الحياة من أجل هدف قضية"، في "العربي الجديد" (5/2/2018)، إلى دخول أدغال الأسئلة العصية، انطلاقًا من واقعنا السوري. قيس بن الملوّح مات حبًّا، هام على وجهه في الصحراء ومات، لا تهم طريقة الموت أو أسبابه، طالما المحرّض الأكيد هو الموت حبًّا بعد فقدان الحبيب أو استحالة وصاله.
وإذ يتساءل أمجد ناصر في مقالته مقابلاً موت الشخص أو حياته بموت أمةٍ أو حياتها: "أيمكن للهدف أن يحيي أمةً تبدو في حالة موتٍ مجازي (كما هو حالنا اليوم)؟ نعم ممكن. لاحظنا ذلك في الخمسينيات والستينيات وصولا إلى السبعينيات. فعندما كان هناك "هدف" عمومي كانت علامات الحياة واضحة على وجوهنا. وليس أدلّ على ذلك من انتعاش أشكال الإبداع الأدبي والفني التي عرفتها تلك الفترة. بلا هدف لا حياة". هذه نتيجة أظنها في الموقع الصحيح، فالإبداع هو الرئة التي تتنفس بها الشعوب والأمم، لكن عندما تكون العضوية على حدود الموت المحتم، وهي تدخل غيبوبة النزيف الدائم، كما هي حال سورية وبلدان كثيرة مما وقعت صريعة ما يُدعى "الربيع العربي"، فأظن أن القضية أو الهدف الذي يستنهض قوة الحياة تكون غائبةً عن وعي الأمة الغارقة في سباتها مفصولة عن الحياة.
في الخمسينيات والستينيات، نالت معظم الدول العربية استقلالها بالتتالي، ولم يبقَ محتل فوق أراضيها غير الاحتلال الصهيوني، فكانت فلسطين البوصلة التي تنفخ الهواء على جمر الأرواح، كي تظل متقدة، وكان هناك حلم النهوض بالمجتمعات والشعوب، لتدخل ركب الحياة الإنسانية السليمة، وتساهم في إنتاج الحضارة، فكانت القضية تستحق أن تكون الهدف الذي يمنح قوة التحدي والتمسك بالحياة، وكانت ثقافة الحب تنتعش من جديد في فضاء اجتماعي وسياسي يوفر هامشًا معقولاً من الديمقراطية والحرية. لا يمكن للحب أن يعيش وينمو تحت السقوف المنخفضة، أو في الأقفاص. وعندما صارت الأقفاص تتشكل، صار الحب يذوي وتنمو بدلاً منه بذور الفتنة والعصبية التي نمت واستطالت وتشابكت، مثل اللبلاب أو النباتات الطفيلية، تمتص نسغ الأمة، فتصاب بفقر الدم وفقر المخيلة وفقر الإبداع، فراحت الأرواح تلوذ بالماضي والنفوس تلتصق بجسد القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو القومية التي سطت بالتباري مع الدين على فضاء الحياة.
لم يبقَ مكان للحب في سورية. يقدّم الواقع الدامي الدليل في كل لحظة عن كم العنف والجنوح نحو الجريمة الموصوفة لدى الجميع، وعن طرق التشفّي والانتقام التي مارسها ويمارسها الجميع بعضهم ضد بعض، الانتقام المتشفي بأكثر الأساليب دموية وانحطاطًا. من لم يمثّل بجثث أعدائه بعدما صارت العداوات الناظم لنبض الحياة؟ بل يمكن القول إن سورية حازت على الريادة في استنباط أشكال وأساليب وأدوات من العنف، ربما في بعض منها لم يسجّل التاريخ ما يشبهها. إشهار العنف الوحشي المرتبط بإيديولوجية أو عقيدة في الميديا بمختلف أشكالها، وفي مقدمتها وسائط التواصل الاجتماعي، يقدّم صورة أكثر دقة عن الكارثة الحقيقية التي لا تكفّ عن الحدوث في سورية، لا يمكن لمن بقي على تخوم الحياة أن ينسى الصور ومشاهد الفيديو التي كان يضخها تنظيم داعش عبر الميديا عن قطع الرؤوس والذبح الحلال والرجم والجلد، كما لم تغادر الذاكرة صورة ضابط ميداني في الجيش العربي السوري بجانب رؤوس معلقة وأجساد مقطعة وممزقة في محيط مطار دير الزور. وهل يُنسى الطفل عبد الله عيسى، مريض التلاسيميا والساق المعطوبة، والمقاتلون يصورون فيلم قطع رأسه، ويتلذذون بشبق بهيمي، متندرين بذبحه "سيلفي والأسير من خلفي"؟ كما أن المشهد الأخير يعود ويكرّس الصورة في أعتى جبروتها، مشهد جثة المقاتلة الكردية في معارك عفرين، والمقاتلون يتشفون من عنفوان أنوثتها بذكوريةٍ هائجةٍ، تتشهى العنف بلذة فاجرة، لم يكتفوا بموتها، بل استباحوا أنوثتها بتباهٍ جبار أمام الكاميرا.
هذه الصور والمشاهد التي فاض بها البركان السوري تكثيف وتأصيل للعنف بأشرس صوره، والخطورة العظمى أن يصير نهجاً ينمو ويكبر في مجتمعات تقهقرت وتراجعت عن ركب الحضارة عقوداً، فألفت نفسها مهمشة مستضعفة بلا طموح أو أفق، مجتمعات تعاني من تناذر الاضطهاد والدونية، فتغترب عن مفردات الإنسانية والعيش الكريم. بل صار التأصيل يُؤسس له منذ الطفولة نهج حياة يوصل إلى القضايا الكبيرة، الأطفال لم يغيبوا عن مشهد العنف، بل زجّ بهم ليكونوا أدواتٍ بالغة التأثير، كما صورة الطفل ابن مقاتل من "داعش"، ذي السنوات السبع، الذي يمسك بيده رأساً مقطوعاً ويبتسم أمام الكاميرا. صارت هذه المشاهد الفاجرة في وحشيتها مألوفة بالنسبة للذاكرة البصرية، ومهما استدرج أحدها من مخزون الذاكرة ما يشبهه، فإن الأثر الصادم بات أقل بكثير من المرات الأولى.
لم يعد العنف شأنًا فرديًا في سورية التي تقطع أوصالها بجدران فصل فولاذية محمّاة بنار الحقد وحرارة الدماء الطازجة باستمرار، صار حالةً اجتماعيةً بعدما طوّعت الحرب الجماعات، وخدرت العقيدة والإيديولوجيا النفوس، وغيّب التهديد الوجودي العقول، وصار الثأر يداوي الشرور مجتمعةً، بعد أن أمات آخر ومضات الحب.
صحيح هو الربط بين الحالة النفسية والجسدية للفرد، وهناك مفهومٌ في الطب يُدعى "الأعراض التحويلية"، حيث تعبّر النفس المأزومة عن نفسها بأعراض جسدية وصفية، كأن يشتكي الشخص من أعراض قرحة هضمية، ولا قرحة عضوية لديه، أو تنتابه نوبة تشبه الذبحة الصدرية، وليس لديه سبب عضوي، وغيرها كثير. إنها حالة دفاع وجودية عن النفس المأزومة، من دون أن يدري بها أو يقصدها الشخص، لكنها تدل على التمسك بالحياة ومحاولة البحث عمّا يرسخها. لكن شعبنا لا يعاني فقط من أرواح ونفوس مأزومة، بل هو شعبٌ منتهكٌ مستباحٌ عضويًا ونفسيًا، جروحه مكشوفة للشمس وملح بكائه العاجز، هو لا يعاني من موتٍ مجازي، بل يموت كل يوم ميتاتٍ لا تعد بالفعل والواقع. لم تبقَ في وجدانه مساحة للحب وللشغف بقضايا يعيش من أجلها، ولم تعد فلسطين بوصلته، بات مطلبه الملحّ والإسعافي هو النجاة من الموت، والعودة إلى الحياة، بعدها يمكن أن يرمم روحه، وما تداعى من كيانه بفعل زلزالٍ لم يشهد التاريخ بعنفه وقسوته وجبروته.
لم نعد نملك أكثر من التمني بالعافية للشعب السوري، وبعدها فليحلم بعيد حب يرمم أرواحه على أنقاض الضغينة التي كرّستها تجارب السنوات السبع، كي لا ينسى.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024