18 سبتمبر 2024
الغوطة.. عن العار وأشياء أخرى
كلنا يعرف الجملة الأشهر في بيانات الأمانة العامة للأمم المتحدة، "الأمين العام يعرب عن قلقه بخصوص..."، والتي تحولت إلى محور نكاتٍ عربيّةٍ عديدة، موضوعها العجز وقلة الحيلة. ولكن إثر المجازر وسحق الأطفال والأبرياء وعمليات الإبادة الجماعيّة، ثمّة سؤال مُلح: لماذا لا يُخرج العجزُ أمام الدماء والفظائع أحد المسؤولين الكبار لما يسمّى مبالغة وتضليلًا "المجتمع الدولي" عن طوره "الرسمي" (وهو طور مُزيّف يصف الالتهاء بالترقي الوظيفي والمكانة الاجتماعية وحفلات العشاء عن المسؤوليّة أمام مآسي البشر بأنه "وقار" و"لياقة") إلى الطور الأخلاقي بحدوده الدنيا ف "يُعرب" عن شعوره بالعار والخزي؟ ولماذا لا يستحيل إدراك العجز إلى خطوة رمزيّة فيستقيل مسؤول أممي رفيع من منصبه "احتجاجًا" على عجزه، خصوصا حين نتذكر قول الأمين العام الأسبق، داغ هامرشولد، إن الأمم المتحدة لم تؤسس لكي تقود البشرية إلى الجنة، بل لتحميها من الجحيم؟ هذه أسئلة في ظاهرها البساطة والتبكيت، لكنها تمس صُلب العالم السياسي الراهن؛ فحين يقول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، إنه "مُروَّع بشدة" مما يحدث في الغوطة الشرقيّة قرب دمشق، ثم يذهب إلى إكمال يومه الحافل بالمناسبات والخُطب والاجتماعات، فهذا يدعو إلى بعض التأمل. (ممن "تفاعلوا" مع دعوة غوتيريس الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من قال قبل شهور إن الأسد ليس عدوًا لفرنسا.. هكذا بكل "لياقة" واتساق!).
أولًا، ثمّة إعاقة أخلاقيّة ناشبة الجذور في صلب هذه المؤسسة، بالنظر إلى تكرار السلوك نفسه طوال سبعين عامًا، بغض النظر عن تغيُّر الشخوص. تنمو بعض هذه الجذور في التوازنات
السياسية التي تحكم المؤسسة. ولا تناقشها المقالة، ما يهم هنا جذور أخرى، منها مثلًا أن الفساد الأخلاقي مُمأسس، بحيث لا يصبح واضحًا إلا بمعايير من خارجها، بعكس الفساد المالي والإداري في المؤسسات الدولتيّة، والتي يتعارض فيها الفساد مع نصوص القانون. وبالتالي، يمكن ملاحظته بوضوح من داخل هذه المؤسسات. فمثلًا لا يمكن توصيف حقيقة أن مجموع المصروفات التشغيلية (من أجور وغيرها) لبعض مكاتب الأمم المتحدة تفوق المصروفات على النشاطات الإنسانية والتنموية، إلا باعتبارها فسادًا وظاهرة غير أخلاقيّة، هذا علاوة على الفساد المالي والإداري والجنسي والمحسوبيّة، والتهرب من القانون، والتي تمتلئ به أروقة هذه المؤسسة، كما تذكر المقالات والتحقيقات والدراسات.
بمواصلة الاستنتاج، انطلاقًا من الجذر الأول، نصل إلى جذرٍ ثانٍ، أن مؤسسة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها "مَكتَبتْ" نشاطاتٍ أخلاقية كثيرة، مثل حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية وتحسين شروط الصحّة وتوفير الأدوية، ويبدو أن احتكار الأمم المتحدة الفعلي لهذه النشاطات، بفعل الموازنات الضخمة نسبيًا، بالمقارنة مع المنظمات الأخرى، والصفة الدوليّة، قد أدت، في نهاية المطاف، إلى "مَكتبَة" الفعل الأخلاقي نفسه، بحيث استحال إلى مهمة إداريّة، يضطلع بها بيروقراطيون متخصصون ونشيطون، همّهم الرئيس الترقي الوظيفي والاجتماعي على شاكلة شخصية عثمان بيومي في رواية نجيب محفوظ "حضرة المحترم"، وهذا يعني موت النشاط السياسي بما هو عمل أخلاقي، وبقاءه باعتباره نشاطًا مهنيًا بحتًا، وهو أكثر ضحالةً من العمل الحزبي المحلي، حين يتحول إلى مهنة، فالأخير محكوم على الأقل باعتباراتٍ تخص تيارات اجتماعية ونزعات الجمهور. وهكذا تُصبح المجزرة مجرّد "بند" في جدول مزدحم، وعدم إنجاز البنود يبعث على الأسف، لأنه فشل وتقصير مهني، لكنه ليس قضيّة أخلاقية، لكي يصبح عدم الإنجاز بخصوصه وصمة عار.
ولكن، على المستوى الاجتماعي العربي، ما الذي تفعله المجازر فينا؟ نحن العرب، أكثر من غيرنا، نشعر بالعجز والعار إزاء ما يحدث، بالإضافة إلى أن الأنظمة الوحشيّة والمليشيات الدينيّة والطائفيّة تُعمل سلاحها فينا تحديدًا، في سوريّة واليمن والعراق وليبيا ومصر. وبالتالي، تعني المجازر لنا أمورًا إضافيّة: إن عنف الأنظمة العربية والمليشيات الإرهابيّة وساديتهما يُفقِدُان الأشياء معناها؛ فبعكس أنطونيو غوتيريش، أصبح التعبير عن ألم الفواجع عربيًا ترفًا، لأنه بلا معنى ولا فائدة، حتى على مستوى التنفيس؛ فأُولى المجازر تُفجّر الكلام والتعبير منفذا اضطراريا يفرضه العجز والذهول، لكن استمرارها سنوات يُفقد الكلام وظائفه. وثمّة ظاهرة بخصوص الغوطة حدثت من قبل في حصار مضايا، وهي أن في المجتمع السوري والعربي من يطلق النكات على الأطفال المحروقين في الغوطة، ويشجع على حرقها بمن فيها. ويصح ما قلناه بخصوص تجويع مضايا من قبل على الغوطة الآن: هذا السلوك لا يفسر بالعلوم السياسية ولا السوسيولوجيا فحسب؛ فثمّة حاجة مؤكدة لعلم النفس، لفهم هذا الانحراف النفسي.. هذه ظاهرة سايكوباثيّة، وليست مجرّد ظاهرة اجتماعية، نُعمل فيها أدوات التحليل المُعتادة.
هذا ما أوصلتنا إليه الثورة المضادة في العالم العربي، وحلفاؤها في المجتمع والإقليم والعالم،
والتي فاقت في توحشها وانعدام وطنيّة وأخلاقيّة من يقودها أسوأ توقعاتنا، ونحن مُقدمون عمومًا على مستقبل عربي ستقوّي فيه هذه المجازر تيارات مختلفة، وبعضها متناقض: ثمّة من سينسحب من هذا العالم بالدرْوَشَة (وهي ليست دينية فحسب، فثمّة نسخ علمانيّة منها)، وثمّة المنحرفون الفرحون بشوي الأطفال، باعتباره تعبيرا مَرَضيا عن نزعة وثنيّة، وثمّة رد فعل قادم، مشوَّه وقبيح، مشتقٌ من انحطاط الواقع، وثمّة من يدفعه تراكم المجازر والجثث إلى بلادة الشعور (مرجح أن هذا سيكون التيار السائد في حال استمرت الأمور على حالها) كآخر المنافذ النفسية للبقاء، عوضًا من الانتحار، وثمّة بالتأكيد من سيتوجب عليهم ترميم عالمنا الأخلاقي، بقوّة الإرادة والإيمان بضرورة الحريّة والعدالة (وهي قوة يصعُب فهم مصادرها بالنظر إلى هذا الجحيم!) حتى نتصدّى لكل ما سبق.. وانتصار هذا التيّار ليس حتميًا بالطبع، بل الراجح، في ضوء ما نراه اليوم، أنه سيُهزَم في معارك كثيرة، قبل أن يحقق انتصاره "الممكن"، لكن وجوده على المدى القصير هو الأهم، وليس انتصاره؛ فبدونه سنبقى أسرى كلماتٍ بلا معنى، وأشياء بلا فائدة، وكلام بلا وظيفة، ومستقبل كقطع الليل المظلم.
أولًا، ثمّة إعاقة أخلاقيّة ناشبة الجذور في صلب هذه المؤسسة، بالنظر إلى تكرار السلوك نفسه طوال سبعين عامًا، بغض النظر عن تغيُّر الشخوص. تنمو بعض هذه الجذور في التوازنات
بمواصلة الاستنتاج، انطلاقًا من الجذر الأول، نصل إلى جذرٍ ثانٍ، أن مؤسسة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها "مَكتَبتْ" نشاطاتٍ أخلاقية كثيرة، مثل حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية وتحسين شروط الصحّة وتوفير الأدوية، ويبدو أن احتكار الأمم المتحدة الفعلي لهذه النشاطات، بفعل الموازنات الضخمة نسبيًا، بالمقارنة مع المنظمات الأخرى، والصفة الدوليّة، قد أدت، في نهاية المطاف، إلى "مَكتبَة" الفعل الأخلاقي نفسه، بحيث استحال إلى مهمة إداريّة، يضطلع بها بيروقراطيون متخصصون ونشيطون، همّهم الرئيس الترقي الوظيفي والاجتماعي على شاكلة شخصية عثمان بيومي في رواية نجيب محفوظ "حضرة المحترم"، وهذا يعني موت النشاط السياسي بما هو عمل أخلاقي، وبقاءه باعتباره نشاطًا مهنيًا بحتًا، وهو أكثر ضحالةً من العمل الحزبي المحلي، حين يتحول إلى مهنة، فالأخير محكوم على الأقل باعتباراتٍ تخص تيارات اجتماعية ونزعات الجمهور. وهكذا تُصبح المجزرة مجرّد "بند" في جدول مزدحم، وعدم إنجاز البنود يبعث على الأسف، لأنه فشل وتقصير مهني، لكنه ليس قضيّة أخلاقية، لكي يصبح عدم الإنجاز بخصوصه وصمة عار.
ولكن، على المستوى الاجتماعي العربي، ما الذي تفعله المجازر فينا؟ نحن العرب، أكثر من غيرنا، نشعر بالعجز والعار إزاء ما يحدث، بالإضافة إلى أن الأنظمة الوحشيّة والمليشيات الدينيّة والطائفيّة تُعمل سلاحها فينا تحديدًا، في سوريّة واليمن والعراق وليبيا ومصر. وبالتالي، تعني المجازر لنا أمورًا إضافيّة: إن عنف الأنظمة العربية والمليشيات الإرهابيّة وساديتهما يُفقِدُان الأشياء معناها؛ فبعكس أنطونيو غوتيريش، أصبح التعبير عن ألم الفواجع عربيًا ترفًا، لأنه بلا معنى ولا فائدة، حتى على مستوى التنفيس؛ فأُولى المجازر تُفجّر الكلام والتعبير منفذا اضطراريا يفرضه العجز والذهول، لكن استمرارها سنوات يُفقد الكلام وظائفه. وثمّة ظاهرة بخصوص الغوطة حدثت من قبل في حصار مضايا، وهي أن في المجتمع السوري والعربي من يطلق النكات على الأطفال المحروقين في الغوطة، ويشجع على حرقها بمن فيها. ويصح ما قلناه بخصوص تجويع مضايا من قبل على الغوطة الآن: هذا السلوك لا يفسر بالعلوم السياسية ولا السوسيولوجيا فحسب؛ فثمّة حاجة مؤكدة لعلم النفس، لفهم هذا الانحراف النفسي.. هذه ظاهرة سايكوباثيّة، وليست مجرّد ظاهرة اجتماعية، نُعمل فيها أدوات التحليل المُعتادة.
هذا ما أوصلتنا إليه الثورة المضادة في العالم العربي، وحلفاؤها في المجتمع والإقليم والعالم،