30 أكتوبر 2024
عن صدّام وإعلانه القومي
سأل صحافي صدام حسين عن موقفه في ما لو دخلت السعودية في حربٍ مع دولة أجنبية. كانت العلاقات بين العراق وجيرانه الخليجيين عندئذ متوترة وحذرة، وثمّة مخاوف متبادلة بين الطرفين، أجاب صدام بلهجة قاطعة: "سأضع جيشي إلى جانب الجيش السعودي في خندق واحد، أما الخلافات فلها شأن آخر".
لاحقاً، أطلق صدام إعلانه القومي في "تحريم اللجوء إلى القوات المسلحة من أية دولة عربية ضد أية دولة عربية أخرى، وفض أية منازعات يمكن أن تنشأ بين الدول العربية بالوسائل السلمية، وفي ظل مبادئ العمل القومي المشترك/ والمصلحة العربية العليا". نظر عديدون إلى الإعلان على أنه محاولة جادة لوقف التدهور في العلاقات العربية - العربية، وإيجاد جو من الثقة بين القادة العرب، يسمح بإيجاد صيغة عملية للتضامن في مواجهة الأخطار التي تحيق بالأمة. بعد شهور ذهب صدام إلى إيران "دفاعاً عن البوابة الشرقية"، ووقف الخليجيون وراءه مالاً، وسلاحاً، ومساندة في المحافل الدولية. بعد ثماني سنوات، تجرّع الخميني كأس السم، ووافق على وقف القتال، وعاد الجيشان، الإيراني والعراقي، إلى قواعدهما، وبدأت مرحلة بلسمة الجراح.
هنا تنفس صدّام والقادة الخليجيون الصعداء، وبدا الجميع، وقد غمرتهم النشوة، بعدما أوشكت أن تنهكهم سنوات الحرب، والتفت صدام إلى الملك فهد بن عبد العزيز، ليقلده أرفع أوسمة الدولة، وليوقعا معاً اتفاقيةً نصّت على عدم استخدام القوة بين البلدين، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. في حينها، انتبه فهد إلى أنه لم يسبق لدولتين عربيتين أن وقعتا بينهما اتفاقيةً كهذه، لأن الأصل بين العرب دائماً هو في عدم استخدام القوة في حالة نشوب خلافٍ أو اختلافٍ في وجهات النظر، أجاب صدام أن الاتفاقية ضرورية، لأن أطرافاً تسعى إلى الدس والوقيعة بين البلدين.
تالياً، فعل صدام الشيء نفسه مع أمير الكويت، جابر الأحمد، وبدا وكأن صفحة الخلافات بين
البلدين التي ظهرت في أكثر من مرحلة قد طويت إلى الأبد، لكن صدام شعر أن "انتصاره" في حربه مع إيران، يبيح له أن يلعب دوراً قيادياً أكبر في المنطقة. وربما كانت في ذهنه صورة الدور الذي لعبه شاه إيران من قبل، وزاد من حدّة ذلك إدراكه أن السعودية والكويت رفضتا تخفيض إنتاجهما النفطي، للضغط عليه وتحجيم دوره. دفعت هذه الرؤية القصيرة النظر الأحداث إلى أن تتسارع على نحو خطير لم يكن محسوباً، حتى وصلت إلى قمتها الدراماتيكية، في عملية غزوه الكويت التي أدخلت المنطقة في نفقٍ لم تتمكن من الخروج منه حتى اليوم، فقد قتلت العملية "الإعلان القومي" بيد صانعه، وأجهزت على المشروع الذي تغنّى به البعثيون عقوداً، ووفرت الفرصة أمام الإدارة الأميركية لبناء أكبر وجود عسكري أجنبي في الخليج، وأدت في المحصلة النهائية إلى احتلال العراق، وشرذمة الأمة على النحو الذي يمثل أمامنا الساعة.
لم يراجع البعثيون خطيئتهم التاريخية تلك، إلا بعد أن فرضت عليهم دول خليجية إدانة الغزو على نحو معلن، وإظهار حسن نيتهم تجاه الكويت في مقابل العمل على تسويقهم عربياً ودولياً، وجاءت المراجعة على استحياء في بضعة سطور خجولة، أخفت مقادير من الأسى الممزوج بالندم على فعلةٍ لم تجد مكاناً لها في أدبيات الرواد الأول.
بعد أربعة عقود على "الإعلان القومي"، عاد المؤرخون إلى النبش في دوافع صدام لإطلاق إعلانه، وفيما إذا كان ذلك نتيجة قناعةٍ مبدئيةٍ بمضامين الإعلان المذكور، أم كان مجرد "خدعة" قد يلعبها السياسيون ورجال الحكم، لتحويل الأنظار عما يبيّتونه من خطط، ولإيجاد أجواء يريدونها لتمرير سيناريو معين، وما تزال الآراء منقسمةً حول ذلك، وإن كانت الوقائع ترجّح الربط بين إطلاق "الإعلان القومي" والأحداث التي أعقبته.
على أية حال، رحل الرجل بعدما تحول إعلانه القومي إلى ورقة لم يعد أحد من القادة العرب يعتد بها، وانصرف الناس عنها، بعد أن داهمتهم كوارث التشرذم والفرقة، إلى درجة أنهم دخلوا في حروبٍ أهلية، ومنازعات طائفية، وتقاتلوا وتنابزوا إلى درجة القطيعة، ليس بين بلد عربي وآخر، إنما أيضاً بين أتباع طائفة وأخرى، أو عرق وآخر، وأضحى التدخل مشروعاً ومشرعاً أمام الجميع، وبدت الحاجة أكثر إلى إطلاق "إعلانات وطنية" تحرّم الحروب والتقاتل بين أبناء البلد الواحد. لكن يبقى ذلك كله في إطار التمنّي الذي لا يغني ولا يسمن.
لاحقاً، أطلق صدام إعلانه القومي في "تحريم اللجوء إلى القوات المسلحة من أية دولة عربية ضد أية دولة عربية أخرى، وفض أية منازعات يمكن أن تنشأ بين الدول العربية بالوسائل السلمية، وفي ظل مبادئ العمل القومي المشترك/ والمصلحة العربية العليا". نظر عديدون إلى الإعلان على أنه محاولة جادة لوقف التدهور في العلاقات العربية - العربية، وإيجاد جو من الثقة بين القادة العرب، يسمح بإيجاد صيغة عملية للتضامن في مواجهة الأخطار التي تحيق بالأمة. بعد شهور ذهب صدام إلى إيران "دفاعاً عن البوابة الشرقية"، ووقف الخليجيون وراءه مالاً، وسلاحاً، ومساندة في المحافل الدولية. بعد ثماني سنوات، تجرّع الخميني كأس السم، ووافق على وقف القتال، وعاد الجيشان، الإيراني والعراقي، إلى قواعدهما، وبدأت مرحلة بلسمة الجراح.
هنا تنفس صدّام والقادة الخليجيون الصعداء، وبدا الجميع، وقد غمرتهم النشوة، بعدما أوشكت أن تنهكهم سنوات الحرب، والتفت صدام إلى الملك فهد بن عبد العزيز، ليقلده أرفع أوسمة الدولة، وليوقعا معاً اتفاقيةً نصّت على عدم استخدام القوة بين البلدين، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. في حينها، انتبه فهد إلى أنه لم يسبق لدولتين عربيتين أن وقعتا بينهما اتفاقيةً كهذه، لأن الأصل بين العرب دائماً هو في عدم استخدام القوة في حالة نشوب خلافٍ أو اختلافٍ في وجهات النظر، أجاب صدام أن الاتفاقية ضرورية، لأن أطرافاً تسعى إلى الدس والوقيعة بين البلدين.
تالياً، فعل صدام الشيء نفسه مع أمير الكويت، جابر الأحمد، وبدا وكأن صفحة الخلافات بين
لم يراجع البعثيون خطيئتهم التاريخية تلك، إلا بعد أن فرضت عليهم دول خليجية إدانة الغزو على نحو معلن، وإظهار حسن نيتهم تجاه الكويت في مقابل العمل على تسويقهم عربياً ودولياً، وجاءت المراجعة على استحياء في بضعة سطور خجولة، أخفت مقادير من الأسى الممزوج بالندم على فعلةٍ لم تجد مكاناً لها في أدبيات الرواد الأول.
بعد أربعة عقود على "الإعلان القومي"، عاد المؤرخون إلى النبش في دوافع صدام لإطلاق إعلانه، وفيما إذا كان ذلك نتيجة قناعةٍ مبدئيةٍ بمضامين الإعلان المذكور، أم كان مجرد "خدعة" قد يلعبها السياسيون ورجال الحكم، لتحويل الأنظار عما يبيّتونه من خطط، ولإيجاد أجواء يريدونها لتمرير سيناريو معين، وما تزال الآراء منقسمةً حول ذلك، وإن كانت الوقائع ترجّح الربط بين إطلاق "الإعلان القومي" والأحداث التي أعقبته.
على أية حال، رحل الرجل بعدما تحول إعلانه القومي إلى ورقة لم يعد أحد من القادة العرب يعتد بها، وانصرف الناس عنها، بعد أن داهمتهم كوارث التشرذم والفرقة، إلى درجة أنهم دخلوا في حروبٍ أهلية، ومنازعات طائفية، وتقاتلوا وتنابزوا إلى درجة القطيعة، ليس بين بلد عربي وآخر، إنما أيضاً بين أتباع طائفة وأخرى، أو عرق وآخر، وأضحى التدخل مشروعاً ومشرعاً أمام الجميع، وبدت الحاجة أكثر إلى إطلاق "إعلانات وطنية" تحرّم الحروب والتقاتل بين أبناء البلد الواحد. لكن يبقى ذلك كله في إطار التمنّي الذي لا يغني ولا يسمن.