09 نوفمبر 2024
يحمون الذاكرة الفلسطينية أيضاً
خير ياسين، رجا أبو رية، خديجة شواهنة، رأفت الزهيري، حسن طه، خضر خلايلة، هم شهداء احتجاجات يوم عظيم من أيام شعب فلسطين الصامد في أرضه التي قامت عليها دولة إسرائيل، بالنهب والضم والطرد في 1948، لمّا أقدمت هذه على مصادرة دونماتٍ في سخنين وعرّابة وغيرهما. وارتقى، أمس الجمعة شهداء، في ذكرى تلك الجريمة، في "يوم الأرض" ذاك قبل 42 عاما، محمد النجار ووحيد أبو سمور ومحمود أبو معمر ومحمد أبو عمر وأحمد عودة وجهاد قرنية ومحمود سعدي وإبراهيم أبو شعر وعبد الفتاح بهجت وعبد القادر الحواجري وحمدان أبو عمشة وجهاد أبو جاموس ونادر الصباغ وناجي عبدالله. قضوا برصاص المعتدي نفسه، جيش الاحتلال الذي لا يعرف غير القتل مهنةً له. كانت التظاهرات الشعبية ذلك النهار في 1976 سلمية، في إضراب عام ومسيرات حاشدة، وكانت مسيرة نهار أمس، عند حدود قطاع غزة مع الأراضي المحتلة في 1948، سلمية أيضا، بمشاركة آلاف الفلسطينيين، غالبيتهم من الفتية والشبان الذين عرفوا معاني اللجوء والطرد من بلداتهم ومدنهم وقراهم الأصلية من ذويهم وكبار عائلاتهم. وبذلك، يصبح الجوهري في فعاليات "مسيرة العودة وكسر الحصار"، التي بدأت أمس، والمرتقب استمرارها إلى يوم ذكرى النكبة في منتصف مايو/ أيار المقبل، هو حماية الأساسي في الصراع مع إسرائيل، أي الوجود على الأرض، بلا مهادنة أو مساومة.
يذكّرنا مشهد السائرين إلى حيث أمكنتهم الأولى، آلافا من سكان غزة، ومشاهد التظاهرات ضد الاحتلال في بعض الضفة الغربية، وكذا مسيرات حرّاس الداخل الفلسطيني لإحياء ذكرى يوم الأرض، وقد زارت فاعلياتٌ منهم قبور شهداء ذلك النهار، تذكّر هذه كلها بالحقيقة التي يُراد إهمالها، وهي أن النضال الفلسطيني، كفاحا مسلحا وحفاظا على الهوية ضد المحو والتغييب، كان من أجل إعادة اللاجئين إلى ديارهم، وتحرير حيفا وعكا والناصرة، وعموم الأرض التي أرادها الصهاينة الأوائل لدولتهم التي لم يعترض هيرتزل أن تقوم في أوغندا. وتذكّرنا مشاهد نهار أمس، وهو يومٌ عظيمٌ جديدٌ في مسار الكفاح الفلسطيني المديد والصعب، بأن في وسع الفلسطينيين أن يكونوا بدنا واحدا ويحملوا رايةً واحدة، إذا ما صارت مقاومة إسرائيل، ولا شيء غيرها، الهم الأساس، والموضوع المركزي، وإذا ما استعادت القضية الفلسطينية عناوينها الأولى، بعد أن خيض كثيرا في أسئلة السلطة والتنازع عليها بين هنا وهناك، بين هذه وتلك، بين هذا وذاك، كما شوهد ويُشاهد منذ أزيد من عقد، في غضون الانقسام المخزي.
صحيحٌ أن الفلسطينيين مولعون بالرموز، بالتناجي الوجداني، بالفلكلوري والموروث، بالغنائيات. ولعل هذا ما يجعلهم منشدّين دائما إلى هذه الذكرى وتلك الذكرى، للاستيحاء من كل واحدة ما يلزم من كلامٍ وإنشاءٍ يُرضي الذات الجريحة، ويغطّي على عجزٍ مقيم وقائم. ولكن ما حدث نهار أمس غير ذلك، إلى حد كبير، وإنْ يبدو مشحونا بتعبيراتٍ رمزيةٍ ماثلةٍ في "ذكرى يوم الأرض". ليس الفلسطينيون مغرمين بالموت إلى الحد الذي يأخذون شبابهم إليه، عندما يتوجه آلافٌ منهم إلى حزامٍ حدودي مع قطاع غزة، يقابل جيش الاحتلال ودولته التي ليس هناك ما هو أيسر عليها من استخدام الرصاص. ولكن أقدار الفلسطينيين هكذا، أن يكونوا منذورين لشهوة القتل عند عدوهم المتوحش الذي يستأنس المتحدث باسم جيشه، أفيخاي أدرعي، عشية مسيرة أمس، بفتاوى مشايخ سعوديين عن حرمة المظاهرات باعتبارها من أمور الكفار. ثم في ظهيرة أمس، يغادر سماجته هذه، ويكذب قدّام مشاهدي "الجزيرة" إن إسرائيل تحافظ على أمنها وسيادتها.
كيف سيبني الفلسطينيون في أرضهم هناك، الموحدة الوجدان، في القطاع والضفة والداخل، حركيتهم بعد الذي صار أمس؟ ما الذي ستتجه إليه الفعاليات النضالية والكفاحية، المدنية والشعبية، في أفق المخطط له ضمن تظاهرات "مسيرة العودة وكسر الحصار"؟ سؤالان برسم من هم أدرى بالإجابة عنها، والأدرى بشعاب المسألة كلها، فليس من الأخلاق أن يُصدر واحدنا، منا نحن البعيدين عنهم، المقيمين على همهم ووجدانهم، "ينبغياتٍ" إليهم، ليفعلوا هذا ولا يفعلوا ذاك.. لا، هم الذين يقدّمون لنا الدروس، بالثبات في الوطن، وبحماية العزيمة، وقبل ذلكما وبعدهما، بحماية الذاكرة الفلسطينية أولا ودائما.