02 نوفمبر 2024
شهوة روسية متعاظمة للانفراد بسورية
جاء الطلب الروسي بسحب القوات الأجنبية من سورية بمنزلة خريطة طريق للاستراتيجية الروسية الراهنة والمستقبلية إزاء هذا البلد المنكوب. وقد اختار الكرملين وجود رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في سوتشي، 17 مايو/ أيار الجاري، للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، للإعلان عن هذا التوجه، للإيحاء بأن الأمر متفق عليه بين الطرفين، أو صادر عنهما، فيما يدل بيان الكرملين عن اللقاء على أن طلب سحب القوات الأجنبية روسي، وهو أمرٌ مفهوم من الناحية الواقعية، فموسكو بوصفها قوة دولية في وضع يسمح لها نظرياً بإعلان هذا الطلب، خلافاً للحكم السوري الذي يعاني ما يعانيه من تضاؤل القوات النظامية المسلحة، ومن انهيار اقتصادي، ومن سيطرة قوى غير سورية على أجزاء واسعة من البلاد، إضافة إلى قوى سورية، مثل الأكراد في الرقة وبعض مناطق الشمال، ولفصائل المعارضة في إدلب ودرعا وأجزاء من ريفي حماة وحلب.
في اليوم التالي للقاء سوتشي، كشف المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون "التسوية السورية"، ألكسندر لافريننييف، أن تصريح الرئيس بوتين، "عن سحب القوات الأجنبية من سورية يخص جميع الجهات باستثناء روسيا". وأوضح "إن هذا التصريح يخص كل المجموعات العسكرية الأجنبية التي توجد على أراضي سورية، بمن فيهم الأميركيون والأتراك وحزب الله والإيرانيون". وشدد لافرينتييف على أن حديث بوتين في هذا الشأن يمثل "رسالة سياسية"، لكنه دعا إلى عدم النظر إليه، باعتباره بداية لعملية انسحاب القوات الأجنبية من سورية. وأضاف المسؤول الروسي: "هذه المسألة معقدة للغاية، لأنه يجب تنفيذ هذه الإجراءات جماعيا، وينبغي أن تبدأ هذه العملية بالتوازي مع سير إحلال الاستقرار، لأن الجانب العسكري يقترب من نهايته، والمواجهة تشهد حاليا مرحلة نهائية"..
وعلى ضوء هذه الإيضاحات، يتبين أن الرؤية الروسية هذه ترقى إلى مرتبة مبادئ أساسية،
وخريطة طريق، تم وضعها من جانبٍ واحد هو الجانب الروسي، وتتعلق بالأطراف الأجنبية صاحبة النفوذ في سورية الممزقة. مع احتساب روسيا دولة غير أجنبية! وقد تم ربط هذه الخطة بعملية سياسية، تقفز عن المرجعية المتفق عليها (مرجعية جنيف)، وتعتمد مخرجات أستانة وسوتشي بديلا فعليا معتمدا وثابتا روسياً عن جنيف. وتتمحور حول وضع دستور جديد، تليها انتخابات في وقت غير محدد، وبتغطية من المبعوث الأممي، دي ميستورا الذي يزداد التصاقا بالرؤية الروسية، والابتعاد عن فحوى التفويض الدولي الممنوح له.
وترى موسكو أن الظروف أصبحت ناضجة تقريبا لهذا الطرح، بعد الانتصارات العسكرية في منطقة العاصمة دمشق، باقتلاع المعارضة وسكان الغوطة الشرقية، وبعد تدمير المخيم الأكبر للاجئين (اليرموك) وتشريد أهله، وبعد مفاوضات مع تنظيم داعش، أدت إلى ترحيله إلى السويداء (لماذا إلى هناك)؟ غير أن ظروفا إقليمية ودولية راهنة رأت فيها موسكو فرصة مواتية لهذا الطرح الذي يشمل أساساً ثلاث دول هي أميركا وتركيا وإيران.
بما يخص أميركا، فقد سبق للرئيس، دونالد ترامب، أن عبّر عن رغبة البيت الأبيض بسحب القوات الأميركية من سورية. وأمام اعتراض جهات أميركية نافذة منها المؤسسات العسكرية والأمنية، وأطراف أوروبية خليجية وعربية، كون الانسحاب سيعزّز الوجود الإيراني، فقد وافق ترامب على تأجيل تنفيذ هذه الخطوة، ولكن ليس إلى أمد طويل. وقد جرت اتصالاتٌ، كما رشح من تقارير عديدة، من أجل إحلال قوات عربية وإسلامية محل القوات الأميركية، غير أن هذه الاتصالات لم تثمر عن نتيجة ملموسة. وقد سارعت موسكو حينها إلى إعلان الرفض القاطع لإيفاد أية قوات جديدة.
وقد جاء إعلان ترامب عن الانسحاب، ثم إرجاء التنفيذ إلى أمد غير طويل، ليزعزع أي منظور سياسي لوجود القوات والخبراء الأميركيين، وليوحي بأن هذا الوجود اضطراري ومؤقت، وأن الأولوية هي لدعم حلفاء واشنطن (الحركة الكردية المسلحة) وأن الإجهاز المرتقب على "داعش" سيجعل هذا الوجود بلا غاية أو هدف. وبما أن الاستراتيجية الروسية تقوم، في جانب أساس منها، على مواجهة أي تمدّد أميركي في العالم، وبما أن الطرف الأميركي نفسه ليس واثقاً من جدوى وجود قواته، فقد رأى الكرملين أن الظرف قد نضج لمطالبة القوات الأميركية بالانسحاب، والإيحاء بأن قرار ترامب اللاحق حين يصدر، فإنه يستجيب للطلب الروسي! بما يمثل تفوقاً سياسياً ودبلوماسيا روسياً على واشنطن، وحيث ينعقد المجد الروسي على تحقيق مثل هذا الهدف الذي يثبت أن الإمبريالية الروسية الصاعدة مؤهلة لهزيمة الإمبريالية الأميركية المتآكلة في بعض "الساحات".
ونقطة الضعف في هذه الاستراتيجية أن أي انسحاب أميركي قريب لا يلقى قبولا في المؤسسات الأميركية، ولدى الحلفاء الأوروبيين (لفرنسا قوات لم تأت موسكو على ذكرها) والعرب. أما الورقة الرابحة في هذه الاستراتيجية فهي موافقة موسكو على الحد من النفوذ الإيراني بالتدريج، ولكن ليس بالطريقة "الاستئصالية" التي عبّر عنها الوزير الأميركي، مايك بومبيو.
بما يتعلق بتركيا، اختار الكرملين انشغال الرئاسة التركية بانتخابات مصيرية في 24 يونيو/ حزيران المقبل، وبمواجهة المضاعفات الاقتصادية والنفسية لهبوط مفاجئ للعملة التركية، كي يتقدّم بهذا الطرح، علماً أن الرؤية التركية حيال الوضع السوري، راهنا ومستقبلا، تزداد تشوشا، وذلك بفعل منح الأولوية المطلقة لمحاربة الحركة المسلحة، ونتيجة الارتماء التركي في الحضن الروسي من خلال "أستانة" و"سوتشي"، وثمرة لتقييد الحركة التركية بصورة شبه تامة ازاء المعارضة المسلحة، وكما وقع في الحملة على الغوطة الشرقية ومن قبل على حلب. وإذ لم يصدر رد فعل يذكر من أنقرة على مطالبتها بالانسحاب، فالواضح أنها ستتعرّض لضغوط روسية شديدة في المرحلة المقبلة، خصوصا أن تركيا ضحّت، على مدى العامين الماضيين، بحلفائها الأوروبيين، فيما تشهد علاقتها بواشنطن مزيدا من النفور والاضطراب، فيما الحملات الانتخابية لمنافسي الرئيس رجب طيب أردوغان (محرم إينجه عن الحزب الجمهوري) تحبذ مبدأ الانسحاب التركي. وضمن مفهوم الصفقات الذي تعتمده موسكو، فإن تحجيم الحركة الكردية المسلحة سيكون الهدية التي ستتلقاها أنقرة في مقابل إبداء استعدادها لسحب قواتها والبدء به. ويُنتظر على طريقة القضم المتتابع الذي تعتمده موسكو أن تتم مطالبة أنقرة بسحب فصائل المعارضة المسلحة، وذلك في مقابل سحب مليشيات إيران وحرسها الثوري وجيش مستشاريها.
وواقع الحال أنه على الرغم من التفاهم العميق والمديد بين موسكو وطهران، حيال المسألة السورية، فإن الفوضى التي تنشرها المليشيا الإيرانية، وإفراطها في بث الفكر المذهبي،
وإضعاف المؤسسات السورية، فإن موسكو ترى أن طهران، في هذه الآونة، هي في أضعف حالاتها سياسيا، فأميركا انسحبت من الاتفاق النووي، والاحتلال الإسرائيلي لا يتوقف عن دك منشآت ومواقع إيرانية وسط شلل إيراني ظاهر، نتيجة الذعر من اختلاط الأوراق والأولويات، ويشهد أنصار إيران تراجعاً لنفوذهم في العراق، كما دلّت الانتخابات النيابية الأخيرة، والعقوبات تتتالى على إيران، معطوفا عليها استمرار وتيرة الاحتجاجات الداخلية. أما حزب الله في لبنان، فعلى الرغم من تقدم الثنائي الشيعي في الانتخابات النيابية، إلا أن وصم الحزب وقادته بالإرهاب يتوالى، وكذلك جهود تجفيف موارده المالية، بما يمنح الفرصة لموسكو بمطالبة طهران بوقف الاجتياح المنفلت وغير المنظم هنا وهناك في الشرق الأوسط، وبالذات في سورية.
والهدف النهائي هو إلحاق سورية بمركزيّة روسية، وكما كان حال دول أوروبا الشرقية في سنوات المنظومة السوفياتية. وبحيث تكون لموسكو الكلمة العليا في تقرير شؤون هذا البلد، وبغير منافسة خارجية من أحد، أو اعتراض داخلي من أحد، ومن أجل تجديد صياغة النظام لبلد مُهدّم، وفق المعايير "الديمقراطية" الروسية التي رأينا مثالاً لها في الانتخابات الروسية في مارس/ آذار الماضي.
في اليوم التالي للقاء سوتشي، كشف المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون "التسوية السورية"، ألكسندر لافريننييف، أن تصريح الرئيس بوتين، "عن سحب القوات الأجنبية من سورية يخص جميع الجهات باستثناء روسيا". وأوضح "إن هذا التصريح يخص كل المجموعات العسكرية الأجنبية التي توجد على أراضي سورية، بمن فيهم الأميركيون والأتراك وحزب الله والإيرانيون". وشدد لافرينتييف على أن حديث بوتين في هذا الشأن يمثل "رسالة سياسية"، لكنه دعا إلى عدم النظر إليه، باعتباره بداية لعملية انسحاب القوات الأجنبية من سورية. وأضاف المسؤول الروسي: "هذه المسألة معقدة للغاية، لأنه يجب تنفيذ هذه الإجراءات جماعيا، وينبغي أن تبدأ هذه العملية بالتوازي مع سير إحلال الاستقرار، لأن الجانب العسكري يقترب من نهايته، والمواجهة تشهد حاليا مرحلة نهائية"..
وعلى ضوء هذه الإيضاحات، يتبين أن الرؤية الروسية هذه ترقى إلى مرتبة مبادئ أساسية،
وترى موسكو أن الظروف أصبحت ناضجة تقريبا لهذا الطرح، بعد الانتصارات العسكرية في منطقة العاصمة دمشق، باقتلاع المعارضة وسكان الغوطة الشرقية، وبعد تدمير المخيم الأكبر للاجئين (اليرموك) وتشريد أهله، وبعد مفاوضات مع تنظيم داعش، أدت إلى ترحيله إلى السويداء (لماذا إلى هناك)؟ غير أن ظروفا إقليمية ودولية راهنة رأت فيها موسكو فرصة مواتية لهذا الطرح الذي يشمل أساساً ثلاث دول هي أميركا وتركيا وإيران.
بما يخص أميركا، فقد سبق للرئيس، دونالد ترامب، أن عبّر عن رغبة البيت الأبيض بسحب القوات الأميركية من سورية. وأمام اعتراض جهات أميركية نافذة منها المؤسسات العسكرية والأمنية، وأطراف أوروبية خليجية وعربية، كون الانسحاب سيعزّز الوجود الإيراني، فقد وافق ترامب على تأجيل تنفيذ هذه الخطوة، ولكن ليس إلى أمد طويل. وقد جرت اتصالاتٌ، كما رشح من تقارير عديدة، من أجل إحلال قوات عربية وإسلامية محل القوات الأميركية، غير أن هذه الاتصالات لم تثمر عن نتيجة ملموسة. وقد سارعت موسكو حينها إلى إعلان الرفض القاطع لإيفاد أية قوات جديدة.
وقد جاء إعلان ترامب عن الانسحاب، ثم إرجاء التنفيذ إلى أمد غير طويل، ليزعزع أي منظور سياسي لوجود القوات والخبراء الأميركيين، وليوحي بأن هذا الوجود اضطراري ومؤقت، وأن الأولوية هي لدعم حلفاء واشنطن (الحركة الكردية المسلحة) وأن الإجهاز المرتقب على "داعش" سيجعل هذا الوجود بلا غاية أو هدف. وبما أن الاستراتيجية الروسية تقوم، في جانب أساس منها، على مواجهة أي تمدّد أميركي في العالم، وبما أن الطرف الأميركي نفسه ليس واثقاً من جدوى وجود قواته، فقد رأى الكرملين أن الظرف قد نضج لمطالبة القوات الأميركية بالانسحاب، والإيحاء بأن قرار ترامب اللاحق حين يصدر، فإنه يستجيب للطلب الروسي! بما يمثل تفوقاً سياسياً ودبلوماسيا روسياً على واشنطن، وحيث ينعقد المجد الروسي على تحقيق مثل هذا الهدف الذي يثبت أن الإمبريالية الروسية الصاعدة مؤهلة لهزيمة الإمبريالية الأميركية المتآكلة في بعض "الساحات".
ونقطة الضعف في هذه الاستراتيجية أن أي انسحاب أميركي قريب لا يلقى قبولا في المؤسسات الأميركية، ولدى الحلفاء الأوروبيين (لفرنسا قوات لم تأت موسكو على ذكرها) والعرب. أما الورقة الرابحة في هذه الاستراتيجية فهي موافقة موسكو على الحد من النفوذ الإيراني بالتدريج، ولكن ليس بالطريقة "الاستئصالية" التي عبّر عنها الوزير الأميركي، مايك بومبيو.
بما يتعلق بتركيا، اختار الكرملين انشغال الرئاسة التركية بانتخابات مصيرية في 24 يونيو/ حزيران المقبل، وبمواجهة المضاعفات الاقتصادية والنفسية لهبوط مفاجئ للعملة التركية، كي يتقدّم بهذا الطرح، علماً أن الرؤية التركية حيال الوضع السوري، راهنا ومستقبلا، تزداد تشوشا، وذلك بفعل منح الأولوية المطلقة لمحاربة الحركة المسلحة، ونتيجة الارتماء التركي في الحضن الروسي من خلال "أستانة" و"سوتشي"، وثمرة لتقييد الحركة التركية بصورة شبه تامة ازاء المعارضة المسلحة، وكما وقع في الحملة على الغوطة الشرقية ومن قبل على حلب. وإذ لم يصدر رد فعل يذكر من أنقرة على مطالبتها بالانسحاب، فالواضح أنها ستتعرّض لضغوط روسية شديدة في المرحلة المقبلة، خصوصا أن تركيا ضحّت، على مدى العامين الماضيين، بحلفائها الأوروبيين، فيما تشهد علاقتها بواشنطن مزيدا من النفور والاضطراب، فيما الحملات الانتخابية لمنافسي الرئيس رجب طيب أردوغان (محرم إينجه عن الحزب الجمهوري) تحبذ مبدأ الانسحاب التركي. وضمن مفهوم الصفقات الذي تعتمده موسكو، فإن تحجيم الحركة الكردية المسلحة سيكون الهدية التي ستتلقاها أنقرة في مقابل إبداء استعدادها لسحب قواتها والبدء به. ويُنتظر على طريقة القضم المتتابع الذي تعتمده موسكو أن تتم مطالبة أنقرة بسحب فصائل المعارضة المسلحة، وذلك في مقابل سحب مليشيات إيران وحرسها الثوري وجيش مستشاريها.
وواقع الحال أنه على الرغم من التفاهم العميق والمديد بين موسكو وطهران، حيال المسألة السورية، فإن الفوضى التي تنشرها المليشيا الإيرانية، وإفراطها في بث الفكر المذهبي،
والهدف النهائي هو إلحاق سورية بمركزيّة روسية، وكما كان حال دول أوروبا الشرقية في سنوات المنظومة السوفياتية. وبحيث تكون لموسكو الكلمة العليا في تقرير شؤون هذا البلد، وبغير منافسة خارجية من أحد، أو اعتراض داخلي من أحد، ومن أجل تجديد صياغة النظام لبلد مُهدّم، وفق المعايير "الديمقراطية" الروسية التي رأينا مثالاً لها في الانتخابات الروسية في مارس/ آذار الماضي.