04 نوفمبر 2024
عن العدالة الانتقالية في تونس
مع غموض مآلات مسار العدالة الانتقالية في تونس، إثر قرار مجلس النواب عدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، واعتبار يوم 31 مايو/ أيار الماضي آخر أجل لأعمالها، وعلى الرغم من بيان رئاسة الحكومة والهيئة بشأن أهمية التعاون بينهما من أجل إدراك أهداف العدالة الانتقالية، كما نص عليها الدستور وقانون العدالة الانتقالية نفسه، ظلت الأمور ملتبسة، ولا أحد يعرف مصير الهيئة، خصوصا في قضايا مثل: التقرير النهائي، التعويض، الأرشيف.. وعلى الرغم من هذا كله تواصل الهيئة أشغالها، معتبرة أن القانون لا يمنح لمجلس النواب أي سلطة عليها، بل كفل لها صلاحية التمديد لنفسها، شرط تعليله وإبلاغ مجلس النواب فقط.
مرّت هيئة الحقيقة والكرامة أخيراً، تحت كل هذا الضغط والتشكيك، إلى السرعة القصوى، وأحالت، في أيام معدودة، عشرات الملفات إلى الدوائر القضائية التي أحدثت في المحاكم التونسية، لتتبع ملفات العدالة الانتقالية المتعلقة بتهم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والتعذيب، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.. إلخ.
ضمن هذا السعي الحثيث إلى استكمال أهدافها، انعقدت أولى جلسات المحكمة الخاصة بقضية الضحية كمال المطماطي، وتعود بداياتها إلى أكتوبر/ تشرين الأول 1991، حيث اختطفه أعوان الأمن في مدينة قابس (جنوب) من أمام عمله، وهو مهندس في شركة الكهرباء والغاز الوطنية، بشبهة الانتماء إلى حركة الاتجاه الإسلامي آنذاك (النهضة حاليا). اختفى، وظلت عائلته تبحث عنه بين السجون ومقرات الأمن نحو عقدين. توفي الرجل منذ الأيام الأولى لاعتقاله تحت تعذيب وحشي، شهد بفظاعته طبيبٌ من رفاقه الموقوفين معه ناله التعذيب نفسه، ونجا بأعجوبةٍ، ليكون الشاهد الدقيق على تفاصيل ما تعرّض له الضحية، فقد عاين هذا الطبيب وفاة الرجل، وكانت شهادته يوم المحاكمة بليغة وقرينة دامغة على التعذيب المروّع.
ظلت العائلة تعتقد أن ابنها حي، بل كانت تحمل له "القفّة" (كيس تقليدي يحتوي أكلات تسلم لإدارة السجن لتسليمها للسجين) ثلاث سنوات، كما صرحت والدة الفقيد، والأنكى أن أعوان
السجن كانوا يستلمون الكيس، ويوهمونها أن ابنها المتوفى أكل ما فيه. وإمعانا في الإذلال والتمويه، كان منزل العائلة يخضع، بين حين وآخر، إلى مداهماتٍ، بتعلّة أن ابنهم متخف تارةً، وفار من السجن تارة أخرى، وأن العائلة تتستّر عليه وتخفيه. واستمر الأمر كذلك حتى 2009، لما اكتشفت العائلة أن ابنها توفي منذ سنوات. وتسرب لاحقا من أقارب الجلادين أن جثته دفنت في أحد خرسانات جسر في قابس، ثم لم يعثر عليها.
عقدت الجلسة التي انتظرها أهالي الضحايا والحقوقيون ونشطاء المجتمع المدني، وغاب عنها المتهمون الأربعة عشر الذين منهم الرئيس الأسبق، ووزير الداخلية آنذاك، علاوة على قيادات أمنية عليا. لم يعتذر الجلادون، ولم يتقدّم أي منهم في الجلسات العلنية التي نظمتها الهيئة المختصة بالعدالة الانتقالية، بشهاداتهم، بل تحصنوا بأجهزتهم المنيعة ونقاباتهم القوية. ولذلك ستكون العدالة التونسية أمام اختبارٍ مهم، لعل أدنى معانيه قدرتها على إنفاذ العدالة وإنصاف الضحايا ومحاسبة الجلادين، ووضع حدٍّ للإفلات من العقاب.
تورّطت أجهزة الأمن التونسية، في أكثر من نصف قرن، في انتهاكاتٍ طاولت اليوسفيين (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي اغتيل لاحقا في سويسرا)، واليساريين والنشطاء الحقوقيين والنقابيين والإسلاميين. وعلى الرغم من ذلك، تبجح عديدون منهم بحصولهم على ترقياتٍ سخيةٍ بعد الثورة. صدرت أحكام صادمة في حق بعضهم، حين ناول عدم سماع الدعوى في قضايا مرفوعة تتعلق بالتعذيب والقتل والاغتصاب.
كان الرأي العام ينتظر أن يعتذر الجلادون عما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات شنيعة، ثم لم يحدث ذلك، ولم يساهم هذا السلوك في تلطيف مشاعر الألم، بل قد يكون أجّجها، خصوصاً أن الإصلاحات التي يفترض أن تقطع مع ممارسة التعذيب داخل أجهزة الأمن، تعثرت، بل أخفقت. وتفيد تقارير وطنية وأممية بأن ممارسة التعذيب عادت في مراكز أمنية كثيرة. وينص الدستور التونسي على أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، وهذا مكسبٌ استندت إليه هيئة الحقيقة والكرامة، لتحيل تلك الملفات على دوائر قضائية تدرب فيها القضاة أشهرا عديدة، باعتبارها من أشكال القضاء الخاص.
نقلت صحافية تونسية من المعنيات بملف العدالة الانتقالية من داخل المحكمة تفاصيل ذات دلالة عميقة، أن القاضي سأل أم الضحية وزوجته: ماذا تنتظران من العدالة؟ أجابت والدته: لا شيء، سيدي القاضي، سوى العثور على جثته، ودفن ما تبقى منها إكراما له. أما ابنته التي تركها حين القبض عليه، وعمرها خمسة أشهر، فقالت، والدموع في عينيها: لم أنطق مطلقا لفظ بابا طوال حياتي. أريد هذه المرة أن أقول بابا، وأنا أمام جثمانه.
مرّت هيئة الحقيقة والكرامة أخيراً، تحت كل هذا الضغط والتشكيك، إلى السرعة القصوى، وأحالت، في أيام معدودة، عشرات الملفات إلى الدوائر القضائية التي أحدثت في المحاكم التونسية، لتتبع ملفات العدالة الانتقالية المتعلقة بتهم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والتعذيب، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.. إلخ.
ضمن هذا السعي الحثيث إلى استكمال أهدافها، انعقدت أولى جلسات المحكمة الخاصة بقضية الضحية كمال المطماطي، وتعود بداياتها إلى أكتوبر/ تشرين الأول 1991، حيث اختطفه أعوان الأمن في مدينة قابس (جنوب) من أمام عمله، وهو مهندس في شركة الكهرباء والغاز الوطنية، بشبهة الانتماء إلى حركة الاتجاه الإسلامي آنذاك (النهضة حاليا). اختفى، وظلت عائلته تبحث عنه بين السجون ومقرات الأمن نحو عقدين. توفي الرجل منذ الأيام الأولى لاعتقاله تحت تعذيب وحشي، شهد بفظاعته طبيبٌ من رفاقه الموقوفين معه ناله التعذيب نفسه، ونجا بأعجوبةٍ، ليكون الشاهد الدقيق على تفاصيل ما تعرّض له الضحية، فقد عاين هذا الطبيب وفاة الرجل، وكانت شهادته يوم المحاكمة بليغة وقرينة دامغة على التعذيب المروّع.
ظلت العائلة تعتقد أن ابنها حي، بل كانت تحمل له "القفّة" (كيس تقليدي يحتوي أكلات تسلم لإدارة السجن لتسليمها للسجين) ثلاث سنوات، كما صرحت والدة الفقيد، والأنكى أن أعوان
عقدت الجلسة التي انتظرها أهالي الضحايا والحقوقيون ونشطاء المجتمع المدني، وغاب عنها المتهمون الأربعة عشر الذين منهم الرئيس الأسبق، ووزير الداخلية آنذاك، علاوة على قيادات أمنية عليا. لم يعتذر الجلادون، ولم يتقدّم أي منهم في الجلسات العلنية التي نظمتها الهيئة المختصة بالعدالة الانتقالية، بشهاداتهم، بل تحصنوا بأجهزتهم المنيعة ونقاباتهم القوية. ولذلك ستكون العدالة التونسية أمام اختبارٍ مهم، لعل أدنى معانيه قدرتها على إنفاذ العدالة وإنصاف الضحايا ومحاسبة الجلادين، ووضع حدٍّ للإفلات من العقاب.
تورّطت أجهزة الأمن التونسية، في أكثر من نصف قرن، في انتهاكاتٍ طاولت اليوسفيين (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي اغتيل لاحقا في سويسرا)، واليساريين والنشطاء الحقوقيين والنقابيين والإسلاميين. وعلى الرغم من ذلك، تبجح عديدون منهم بحصولهم على ترقياتٍ سخيةٍ بعد الثورة. صدرت أحكام صادمة في حق بعضهم، حين ناول عدم سماع الدعوى في قضايا مرفوعة تتعلق بالتعذيب والقتل والاغتصاب.
كان الرأي العام ينتظر أن يعتذر الجلادون عما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات شنيعة، ثم لم يحدث ذلك، ولم يساهم هذا السلوك في تلطيف مشاعر الألم، بل قد يكون أجّجها، خصوصاً أن الإصلاحات التي يفترض أن تقطع مع ممارسة التعذيب داخل أجهزة الأمن، تعثرت، بل أخفقت. وتفيد تقارير وطنية وأممية بأن ممارسة التعذيب عادت في مراكز أمنية كثيرة. وينص الدستور التونسي على أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، وهذا مكسبٌ استندت إليه هيئة الحقيقة والكرامة، لتحيل تلك الملفات على دوائر قضائية تدرب فيها القضاة أشهرا عديدة، باعتبارها من أشكال القضاء الخاص.
نقلت صحافية تونسية من المعنيات بملف العدالة الانتقالية من داخل المحكمة تفاصيل ذات دلالة عميقة، أن القاضي سأل أم الضحية وزوجته: ماذا تنتظران من العدالة؟ أجابت والدته: لا شيء، سيدي القاضي، سوى العثور على جثته، ودفن ما تبقى منها إكراما له. أما ابنته التي تركها حين القبض عليه، وعمرها خمسة أشهر، فقالت، والدموع في عينيها: لم أنطق مطلقا لفظ بابا طوال حياتي. أريد هذه المرة أن أقول بابا، وأنا أمام جثمانه.