10 نوفمبر 2024
الكرة في ملعب السبسي والبرلمان
انطلق الجدل في تونس بشأن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، ولن يتوقف لفترة قد تطول، فبعض مقترحات التقرير بدت صادمة وشديدة الالتصاق بالدين وبالتراث الفقهي. لهذا من الطبيعي أن ينصب النقد على أعضاء اللجنة، للتشكيك في أهليتهم وولائهم للوطن واعتبارهم "مكلفين بهدم الإسلام وقيمه". وسيبقى هذا المنحى في الجدال متواصلا إلى أن يتغلب العقل والحكمة، وتتمكّن الأطراف القادرة على إدارة حوار مسؤول وناضج، من شأنه أن يفضي، حسب مؤشراتٍ عديدة، إلى توافق نوعي جديد. وما حصل عند صياغة دستور 2014، حين اهتزّ الشارع، ونظمت المسيرات، وكتبت العرائض، وبدا كأن البلاد تسير، بخطى سريعة، نحو الحرب الأهلية، لكن الحصيلة كانت مفاجئة ومهمة ونوعية.
وجهت انتقادات كثيرة لهذه المبادرة، كان بعضها في محله وأخرى خارجة عن السياق، من أهم هذه الاعتراضات، وأكثرها وجاهةً وشيوعا تتعلق بالتوقيت، فالظروف الاقتصادية والسياسية التي تمر بها البلاد، لا تسمح بمناخ هادئ يوفر شروط إدارة نقاش معمق لمسائل تضمنها التقرير، وتهدف إلى تغير العلاقات الاجتماعية والقيم الجماعية بشكل بنيوي، في سياق قائم، كل ما فيه يؤكّد، يوما بعد يوم، بأن عناصر التأزم والقلق أكثر بكثير من عناصر الوضوح والاطمئنان.
فعلا، تبدو تونس اليوم مرهقة على أكثر من صعيد، حيث لم تعرف الاستقرار منذ ثورتها المنقوصة قبل سبع سنوات خلت، ما يعود إلى عدم تمكّن نخبها من تغيير الأوضاع السيئة التي ثار عليها الشعب. ولهذا كلما حاولت أن تلفت نظر المواطنين إلى مسائل أخرى ذات علاقة بالحريات، إلا وبدا كأنك تخاطبه باللغة الصينية. وبدل أن يتجاوب معك، ويناقشك بهدوء تراه ينفجر في وجهك، ويستعرض أمامك من جديد تفاصيل المعاناة التي يعيشها صباحا مساء ويوم الأحد. إنه مثل البركان الذي بقي قرونا صامتا وهادئا، لكنه، في لحظةٍ ما، قد ينفجر ليحول السكون إلى عاصفةٍ مدمرة تحرق الأخضر واليابس. ولهذا تجد أذن المواطن غير مهيأة لسماع الحقوقيين، عندما يكون هاجسه الرئيسي هو الخوف من الحاضر والمستقبل. وبذلك يكون هذا المواطن مستعدّا، في مثل هذه اللحظات، أن يضع الجميع في كيس واحد ويلقي به وبهم في بئر عميقة.
هذا أكبر تحدٍّ يواجه الذين يريدون تغيير الواقع، في ظرف يكون فيه المواطنون يمرّون بلحظة غير مناسبة، وليست لديهم القابلية للفهم والتفاعل، لأن المشكلات الحارقة هي التي تطرد أو تحجب المشكلات الأخرى التي تبدو لهم أقل أهميةً، ولم تتوفر لها شروط التنزيل للطرح والتداول في شأنها.
العامل الثاني الذي لا يمكن التقليل من أهميته يخص الجانب الديني الذي غالبا ما يستخف به بعض الذين يريدون تجاوزه في أذهانهم ليجدوه صامدا وجاثما أمامهم عندما يقفون على أرض الواقع، ويتوجهون إلى مواطنيهم ليخاطبوهم في الأمر. وهنا يجدون أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر. إما أن يرفضوا الحديث عن الدين بشكل مباشر وصريح، بحجة أن الإسلام في وادٍ والحريات والحقوق في وادٍ آخر، وهذا في حد ذاته ورطةٌ ثقافيةٌ وسياسيةٌ من الحجم الثقيل. أو القول بعدم التعارض، وهنا يحتاج هؤلاء إلى شغلٍ ليس يسيرا لإثبات ذلك. وقد بينت الوقائع أن هذه الأرض، أرض الإصلاح الديني، ليست محروثةً بالقدر المطلوب، حتى في بلدٍ مثل تونس، ذي التراث الإصلاحي الطويل. فالتلبيس لا يزال قائما، والجهود في الاتجاه المعاكس لا تزال مستمرة على قدم وساق.
الكرة الآن في ملعب رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، صاحب المبادرة، والمدعو حاليا إلى التفاعل مع كل التطورات. هل سيستمر في التعهد بما صرّح به في شهر أغسطس/ آب الماضي، وأن يخوض معركة البرلمان التي ستكون حاسمةً في هذا الشأن، وهو المعروف بإصراره الذي قد يصل إلى درجة العناد، أم سيتريث ويناور قليلا، ويأخذ بالاعتبار الواقع الراهن، وردود الفعل الصاخبة من بعض الأطراف، وأن يراهن على ما يمكن أن يمرّ في هذا التوقيت السياسي والثقافي الصعب والمعقد لتونس اليوم.
وجهت انتقادات كثيرة لهذه المبادرة، كان بعضها في محله وأخرى خارجة عن السياق، من أهم هذه الاعتراضات، وأكثرها وجاهةً وشيوعا تتعلق بالتوقيت، فالظروف الاقتصادية والسياسية التي تمر بها البلاد، لا تسمح بمناخ هادئ يوفر شروط إدارة نقاش معمق لمسائل تضمنها التقرير، وتهدف إلى تغير العلاقات الاجتماعية والقيم الجماعية بشكل بنيوي، في سياق قائم، كل ما فيه يؤكّد، يوما بعد يوم، بأن عناصر التأزم والقلق أكثر بكثير من عناصر الوضوح والاطمئنان.
فعلا، تبدو تونس اليوم مرهقة على أكثر من صعيد، حيث لم تعرف الاستقرار منذ ثورتها المنقوصة قبل سبع سنوات خلت، ما يعود إلى عدم تمكّن نخبها من تغيير الأوضاع السيئة التي ثار عليها الشعب. ولهذا كلما حاولت أن تلفت نظر المواطنين إلى مسائل أخرى ذات علاقة بالحريات، إلا وبدا كأنك تخاطبه باللغة الصينية. وبدل أن يتجاوب معك، ويناقشك بهدوء تراه ينفجر في وجهك، ويستعرض أمامك من جديد تفاصيل المعاناة التي يعيشها صباحا مساء ويوم الأحد. إنه مثل البركان الذي بقي قرونا صامتا وهادئا، لكنه، في لحظةٍ ما، قد ينفجر ليحول السكون إلى عاصفةٍ مدمرة تحرق الأخضر واليابس. ولهذا تجد أذن المواطن غير مهيأة لسماع الحقوقيين، عندما يكون هاجسه الرئيسي هو الخوف من الحاضر والمستقبل. وبذلك يكون هذا المواطن مستعدّا، في مثل هذه اللحظات، أن يضع الجميع في كيس واحد ويلقي به وبهم في بئر عميقة.
هذا أكبر تحدٍّ يواجه الذين يريدون تغيير الواقع، في ظرف يكون فيه المواطنون يمرّون بلحظة غير مناسبة، وليست لديهم القابلية للفهم والتفاعل، لأن المشكلات الحارقة هي التي تطرد أو تحجب المشكلات الأخرى التي تبدو لهم أقل أهميةً، ولم تتوفر لها شروط التنزيل للطرح والتداول في شأنها.
العامل الثاني الذي لا يمكن التقليل من أهميته يخص الجانب الديني الذي غالبا ما يستخف به بعض الذين يريدون تجاوزه في أذهانهم ليجدوه صامدا وجاثما أمامهم عندما يقفون على أرض الواقع، ويتوجهون إلى مواطنيهم ليخاطبوهم في الأمر. وهنا يجدون أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر. إما أن يرفضوا الحديث عن الدين بشكل مباشر وصريح، بحجة أن الإسلام في وادٍ والحريات والحقوق في وادٍ آخر، وهذا في حد ذاته ورطةٌ ثقافيةٌ وسياسيةٌ من الحجم الثقيل. أو القول بعدم التعارض، وهنا يحتاج هؤلاء إلى شغلٍ ليس يسيرا لإثبات ذلك. وقد بينت الوقائع أن هذه الأرض، أرض الإصلاح الديني، ليست محروثةً بالقدر المطلوب، حتى في بلدٍ مثل تونس، ذي التراث الإصلاحي الطويل. فالتلبيس لا يزال قائما، والجهود في الاتجاه المعاكس لا تزال مستمرة على قدم وساق.
الكرة الآن في ملعب رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، صاحب المبادرة، والمدعو حاليا إلى التفاعل مع كل التطورات. هل سيستمر في التعهد بما صرّح به في شهر أغسطس/ آب الماضي، وأن يخوض معركة البرلمان التي ستكون حاسمةً في هذا الشأن، وهو المعروف بإصراره الذي قد يصل إلى درجة العناد، أم سيتريث ويناور قليلا، ويأخذ بالاعتبار الواقع الراهن، وردود الفعل الصاخبة من بعض الأطراف، وأن يراهن على ما يمكن أن يمرّ في هذا التوقيت السياسي والثقافي الصعب والمعقد لتونس اليوم.