10 ابريل 2019
عن صعود الشعبوية في السودان
على وقْع خُطب الرئيس السوداني، عمر البشير، في الملتقيات التنظيمية لعضوية حزبه، والخاصة بدعم ترشيحه لولاية ثالثة في انتخابات 2020، يُستغرب وضعها في منطقةٍ وسطى بين القبول والرفض، على الرغم من تذمّر الشعب من سوء الحال، والضائقة المعيشية وانعدام الحريات. وتعود هذه الحيرة إلى أنّ الخطاب الشعبوي الذي اكتسى بشعارات الحركات القومية يعبّر، بشكلٍ صريح، عن اختزال الشعب في كياناتٍ تنتمي إلى الحزب الحاكم. وتوسّع الأمر إلى أن وصل إلى إقامة ندوة بأسماء منشقين عن الحركات المتمرّدة التي حملت السلاح في وجه النظام، وقتلت الأبرياء في إقليم دارفور وجبال النوبة، أملاً في الائتلاف مع النظام، واقتسام السلطة والثروة، مثلما حدث مع مندغمي المعارضة، بشقيها المدني والمسلّح، في الأعوام الماضية.
يمكن قراءة ذلك بشكلٍ عام في إطار نزعة الشعبوية التي انزعجت منها المجتمعات الديمقراطية في الغرب، في الآونة الأخيرة. جاء ذلك على أثر تراجع الأيديولوجيات الكبرى، كالليبرالية والاشتراكية، وعدم السيطرة على هذه النزعة إلى أن تمظهرت، أخيراً، في فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولكن ما بال الحذر يتصاعد في بلدٍ مثل السودان، لم يخبر الديمقراطية إلّا ثلاث مراتٍ قصيرة، تم وأدها في مهدها. سبب هذا القلق هو تجسير الهوة بين العوامل الاجتماعية والسـياسية العميقة بإقامة فعاليات المجتمع، بأمر من حكومات المحليات، تأييداً لدعم ترشيح البشير. ومنها حشد العمال والمزارعين وأتباع الطرق الصوفية والإدارات الأهلية.
أما المحرّك لهذا الدعم للمرشح الرئاسي، في ظلّ غياب بقية الأحزاب والمرشحين، فهو الخوف من فقدان المناصب، فقد صرّح عدد من رجال الدولة من قبل أن يُترك أمر دعم الترشيح، إلى حين صياغة دستور دائم للبلاد، وكانت النتيجة أن أُبعدوا من دوائر الحكم. وما كان على
البشير إلّا أن أغلق هذا الباب بتصريحه أنّ الدستور الدائم للبلاد لن يتشكّل إلّا في انتخابات 2020، بعد أن يجيزه البرلمان، تمهيداً لعرضه على استفتاء شعبي. ومنذ تلك اللحظة، لم تُطرح مقترحات بتعديل الدستور. وعلى الرغم من حصول السودان على استقلاله منذ أكثر من 62 عاماً، إلّا أنّ البلاد لم تتوصل بعد إلى دستور دائم، وظلّت تحكم بالدساتير الانتقالية والمؤقتة، نسبة لتقلبّات الحكم بين ثلاثة أنظمة ديمقراطية قصيرة، ومثلها عسكرية طويلة.
لم يكن هذا الأسلوب الشعبوي ليفرض نفسه بقوة، لولا وجود ثلاثة عوامل مؤثّرة. الأول أنّ الحكومة الحالية جاءت بأيديولوجية إسلامية، عندما وضع الزعيم الإسلامي البارز، حسن الترابي، يده في يد العسكر لتنفيذ انقلاب 1989، وكانت الحركة الإسلامية، حتى ذلك الوقت، نخبوية تستقطب طلاب الجامعات وخرّيجيها. في تلك الفترة، امتزج الفكر النخبوي الذي يمثله الترابي مع الشعبوي الذي يمثله العسكر، فدخلت البلاد بهذه الحمولة الأيديولوجية المختلطة في حرب الجنوب، بشكلٍ اختلف عما كان يدور من قبلها في عهود سابقة منذ الاستقلال عام 1956. وبعد أكثر من ستة عقود من تأسيسها، وبعد تحوّل الحركة الإسلامية، من حركة فكرية إلى خليط من الفكرية والشعبوية، على يد جبهة الإنقاذ، تم ركل الفكري منها بعيداً. ورويداً رويداً عملت الحكومة على فك الارتباط بينها وبين الحركة الإسلامية والتبرؤ منها لعدم صبرها على من جاء بها إلى سدّة الحكم، وعدم صمودها فيما بعد إزاء الموجة العالمية ضدها. وهنا ظهرت معضلة النظام في فقد المقدّس الذي كانت تستخدمه في السياسة، لخداع عامة الشعب، حتى صدّقوا الشعارات المرفوعة حينها (هي لله.. لا للسلطة ولا للجاه).
العامل الثاني الذي ساهم في صعود نجم الشعبويين هو إزالة التكنوقراطيين من أجهزة الدولة، وتصفيتهم من الخدمة المدنية فيما اصطلح عليه بالصالح العام منذ بدايات "الإنقاذ"، ليحلّ
محلهم الشعبويون. والآن، بعد أن انكشف الغطاء عن ذلك كله، بما ظهر من فساد واستغلال للسلطة والثروة وتفشّي المحسوبية، ليس من خطاب عقلاني يمكن أن يستميل الشعب غير العودة بهم إلى خطاب العواطف.
العامل الثالث رغبة النظام في تقويض النخبة التي تحلّق باهتمامها في العوامل السياسية والفكرية، بواسطة الجماهير التي تنحصر مخاوفها في عوامل وجودية، كالحالة الاقتصادية والمعيشية، وما أوجدته ظروف الحروب والاستبداد والبطالة. وإذا كانت الشعبوية في الغرب تنمو في جو من الحرية والانفتاح السياسي، فإنّها في ظل النظام السوداني، ومجتمعه المحكوم بالانقلاب العسكري، تنشأ عند هامش الحرية المصنوع، حتى تبدو كأنّها إرادة الجماهير الأصيلة.
بهذه الخطابات الشعبوية، يناهض البشير النخبة والتكنوقراط، في معزل عن المضمون السياسي، ويستثير المشاعر لتجييش الرأي العام، بينما لا يدخل الشعب في نقاشٍ جادّ لأغلب المعضلات الاقتصادية وقضايا الحكم، فعندما خاض البشير الانتخابات الماضية عام 2015، كان يصوّر منافسيه نخبةً فاسدة، وحينما تسنّى له الحكم، رفض الاعتراف بشرعيّة المعارضة، وحينما دعا قوى المعارضة إلى الحوار كان ذلك بصفتهم صابئين آيبين، فتم ادخالهم فيما سميّت حكومة الوفاق الوطني، في موالاة اقتسام المناصب. وقد كان السيف المسلّط على رقاب هؤلاء أنّ من لا يؤيّد "الإنقاذ"، ويوافق على حكم البشير، فهو ليس من الشعب. وبهذا نجح الشعبويون في ظلّ ضعف المعارضة. ويظهر هذا العداء للنُخب وللمؤسّسة والتعدّدية بشكلٍ خاص، عندما يوهم البشير من يقفون معه بأنّهم الشعب الحقيقي، حتى إذا قامت الانتخابات، تحجب ما يحدث على الأرض. وهذا هو الطقس الحقيقي للنظم الشعبوية التي يطول بقاؤها، على الرغم من معاناة الشعب، وإدراكه ذلك، بالإضافة إلى غياب سيادة القانون والحريات.
تعمل الشعبوية على إبقاء الشعب السوداني في مستوى الوجود الأدنى، المتمثّل في الهتافات والحماسة والطاعة، من دون أي فهمٍ عميقٍ للواقع السياسي. وبهذا يتراجع دور العقلانيين لصالح الشعبويين. وهنا تقع المسؤولية على عاتق الشعب، بنخبه ومثقفيه ومعارضته وقطاعاته العامّة، والذي يقف متفرّجاً على المتاجرة بحشده، طلباً للخلاص من واقع مشكلاتٍ حقيقيةٍ، لا يمكن حلها بعلوّ الصوت والتطبيل.
يمكن قراءة ذلك بشكلٍ عام في إطار نزعة الشعبوية التي انزعجت منها المجتمعات الديمقراطية في الغرب، في الآونة الأخيرة. جاء ذلك على أثر تراجع الأيديولوجيات الكبرى، كالليبرالية والاشتراكية، وعدم السيطرة على هذه النزعة إلى أن تمظهرت، أخيراً، في فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولكن ما بال الحذر يتصاعد في بلدٍ مثل السودان، لم يخبر الديمقراطية إلّا ثلاث مراتٍ قصيرة، تم وأدها في مهدها. سبب هذا القلق هو تجسير الهوة بين العوامل الاجتماعية والسـياسية العميقة بإقامة فعاليات المجتمع، بأمر من حكومات المحليات، تأييداً لدعم ترشيح البشير. ومنها حشد العمال والمزارعين وأتباع الطرق الصوفية والإدارات الأهلية.
أما المحرّك لهذا الدعم للمرشح الرئاسي، في ظلّ غياب بقية الأحزاب والمرشحين، فهو الخوف من فقدان المناصب، فقد صرّح عدد من رجال الدولة من قبل أن يُترك أمر دعم الترشيح، إلى حين صياغة دستور دائم للبلاد، وكانت النتيجة أن أُبعدوا من دوائر الحكم. وما كان على
لم يكن هذا الأسلوب الشعبوي ليفرض نفسه بقوة، لولا وجود ثلاثة عوامل مؤثّرة. الأول أنّ الحكومة الحالية جاءت بأيديولوجية إسلامية، عندما وضع الزعيم الإسلامي البارز، حسن الترابي، يده في يد العسكر لتنفيذ انقلاب 1989، وكانت الحركة الإسلامية، حتى ذلك الوقت، نخبوية تستقطب طلاب الجامعات وخرّيجيها. في تلك الفترة، امتزج الفكر النخبوي الذي يمثله الترابي مع الشعبوي الذي يمثله العسكر، فدخلت البلاد بهذه الحمولة الأيديولوجية المختلطة في حرب الجنوب، بشكلٍ اختلف عما كان يدور من قبلها في عهود سابقة منذ الاستقلال عام 1956. وبعد أكثر من ستة عقود من تأسيسها، وبعد تحوّل الحركة الإسلامية، من حركة فكرية إلى خليط من الفكرية والشعبوية، على يد جبهة الإنقاذ، تم ركل الفكري منها بعيداً. ورويداً رويداً عملت الحكومة على فك الارتباط بينها وبين الحركة الإسلامية والتبرؤ منها لعدم صبرها على من جاء بها إلى سدّة الحكم، وعدم صمودها فيما بعد إزاء الموجة العالمية ضدها. وهنا ظهرت معضلة النظام في فقد المقدّس الذي كانت تستخدمه في السياسة، لخداع عامة الشعب، حتى صدّقوا الشعارات المرفوعة حينها (هي لله.. لا للسلطة ولا للجاه).
العامل الثاني الذي ساهم في صعود نجم الشعبويين هو إزالة التكنوقراطيين من أجهزة الدولة، وتصفيتهم من الخدمة المدنية فيما اصطلح عليه بالصالح العام منذ بدايات "الإنقاذ"، ليحلّ
العامل الثالث رغبة النظام في تقويض النخبة التي تحلّق باهتمامها في العوامل السياسية والفكرية، بواسطة الجماهير التي تنحصر مخاوفها في عوامل وجودية، كالحالة الاقتصادية والمعيشية، وما أوجدته ظروف الحروب والاستبداد والبطالة. وإذا كانت الشعبوية في الغرب تنمو في جو من الحرية والانفتاح السياسي، فإنّها في ظل النظام السوداني، ومجتمعه المحكوم بالانقلاب العسكري، تنشأ عند هامش الحرية المصنوع، حتى تبدو كأنّها إرادة الجماهير الأصيلة.
بهذه الخطابات الشعبوية، يناهض البشير النخبة والتكنوقراط، في معزل عن المضمون السياسي، ويستثير المشاعر لتجييش الرأي العام، بينما لا يدخل الشعب في نقاشٍ جادّ لأغلب المعضلات الاقتصادية وقضايا الحكم، فعندما خاض البشير الانتخابات الماضية عام 2015، كان يصوّر منافسيه نخبةً فاسدة، وحينما تسنّى له الحكم، رفض الاعتراف بشرعيّة المعارضة، وحينما دعا قوى المعارضة إلى الحوار كان ذلك بصفتهم صابئين آيبين، فتم ادخالهم فيما سميّت حكومة الوفاق الوطني، في موالاة اقتسام المناصب. وقد كان السيف المسلّط على رقاب هؤلاء أنّ من لا يؤيّد "الإنقاذ"، ويوافق على حكم البشير، فهو ليس من الشعب. وبهذا نجح الشعبويون في ظلّ ضعف المعارضة. ويظهر هذا العداء للنُخب وللمؤسّسة والتعدّدية بشكلٍ خاص، عندما يوهم البشير من يقفون معه بأنّهم الشعب الحقيقي، حتى إذا قامت الانتخابات، تحجب ما يحدث على الأرض. وهذا هو الطقس الحقيقي للنظم الشعبوية التي يطول بقاؤها، على الرغم من معاناة الشعب، وإدراكه ذلك، بالإضافة إلى غياب سيادة القانون والحريات.
تعمل الشعبوية على إبقاء الشعب السوداني في مستوى الوجود الأدنى، المتمثّل في الهتافات والحماسة والطاعة، من دون أي فهمٍ عميقٍ للواقع السياسي. وبهذا يتراجع دور العقلانيين لصالح الشعبويين. وهنا تقع المسؤولية على عاتق الشعب، بنخبه ومثقفيه ومعارضته وقطاعاته العامّة، والذي يقف متفرّجاً على المتاجرة بحشده، طلباً للخلاص من واقع مشكلاتٍ حقيقيةٍ، لا يمكن حلها بعلوّ الصوت والتطبيل.