30 أكتوبر 2024
المغرب.. ما وراء العامية في المقرّرات الدراسية
أثار إدماج كلمات وتعابير من "الدارجة" (العامية) المغربية في الكتب المدرسية الخاصة بسلك الابتدائي، تزامنا مع بداية الموسم الدراسي الجديد، نقاشا واسعا على المواقع الاجتماعية في المغرب، وأحيا هذا النقاش الجدل الذي لم يختف قط في المغرب بشأن المفارقات التي يعيشها المغربي بين لغات التلقين والتدريس، ولغات التواصل اليومي، ولغات الإدارة والمؤسسات الرسمية، فالمغربي يتلقى تدريسه بالعربية أو الفرنسية، وأحيانا بالإنكليزية أو الإسبانية، ويتواصل في البيت والشارع بالدارجة المغربية أو بالأمازيغية، وعندما يتعامل مع الإدارة يجد نفسه مضطرا إلى استعمال الفرنسية، ولمّا تخاطبه مؤسسات رسمية أو وسائل إعلام رسمية يجد نفسه أمام خطابٍ مُصاغ بعربيةٍ فصحى.
انعكست حالة الانفصام اللغوي هذه على مستوى التعليم في المغرب الذي يسجل تراجعا مستمرا في السنوات الأخيرة، على الرغم من محاولات الإصلاح الكثيرة التي باءت بالفشل. وبدلا من معالجة أزمة التعليم التي تعتبر بنيويةً مرتبطة بغياب إرادة سياسية حقيقية تسعى إلى أن تجعل من التعليم سلّما للترقية الاجتماعية، اختار بعضُهم توجيه سهام نقده إلى اللغة العربية، وتحميلها مسؤولية الفشل الذي يلاحق المدرسة المغربية. وفي هذا السياق، جاء اللجوء إلى "الدارجة"، أو العامية المغربية، بمثابة الوصفة السحرية التي يمكن أن تحمل الحلّ لمشكلات التعليم المزمنة في المغرب.
وينطلق المدافعون عن "إشراك" الدارجة، أو "إدماجها"، أو "استعمالها" بديلا من العربية في التلقين والتدريس، من أنها تعتبر اللغة الأم بالنسبة لأبناء غالبية الأسر المغربية. وعدا عن أن التدريس باللغة الأم يعتبر من الحقوق التي ينصّ عليها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، فإن
التلقين الأولي باللغة الأم يساعد على الاستيعاب والفهم أسرع وأحسن من استعمال لغاتٍ أخرى.
أما الذين اعترضوا على إدماج كلمات وتعابير من "الدارجة" في مقرّرات أبنائهم الدراسية، فيرون في القرار محاولةً لإقصاء اللغة العربية، وتبخيسا لمستوى التعليم المتدنّي أصلا، وحصر إدراك الطفل المغربي وقدرته التواصلية في لهجةٍ عاميةٍ لا امتداد لها خارج حدود المغرب، وخارج قاموس ومعارف لغة دارجة شفاهية.
أوجد هذا النقاش بين المعارضين والمؤيدين للقرار اصطفافا حادّا بين المنافحين عن العربية، باعتبارها حمالة قيم وتاريخ وحضارة وهوية، وأنصار اللهجة المغربية، وهؤلاء قسمان، قسم تدفعهم غيرتهم على اللغة العامية المغربية، وقسم يختبئون وراء الدفاع عن العامية انتصارا للغة الفرنسية، وما تحمله من قيم، وما تمثله من نمط عيش، وما تجسّده داخل المجتمع المغربي من مركز اجتماعي وامتياز رمزي على حساب اللاهجين بألسن أخرى غير لغة موليير.
وبعيدا عن هذا الاصطفاف، ثمّة عدة ملاحظات لا بد من تسجيلها لفهم خلفيات قرار إدماج اللهجة المغربية العامية في مقرّرات دراسية، وتوقيت القرار وتداعياته، وربما أهدافه الكامنة وغير المعلن عنها.
أولا، لم يناقش القرار داخل البرلمان، ولم يقرّه مجلس وزاري برئاسة الملك، كما لم يصادق عليه مجلس الحكومة، بل تبرّأ رئيس الحكومة منه، وطلب من وزير التربية والتعليم أن يقدّم توضيحاته للرأي العام، ووعد بمراجعة المقرّرات الدراسية التي سيثبت أن تعابير أو كلمات دارجة أدمجت فيها، على حين غرة، وفي غفلة من الجميع، فالقرار لم يطرح للنقاش العمومي، ولم يُستشر فيه المختصون والخبراء، وإنما تم تهريبه بليل!
ثانيا، الدستور المغربي ينصّ على أن اللغة الرسمية في المغرب هي اللغة العربية، ويعتبر اللغة الأمازيغية لغة وطنية، ولا وجود فيه لذكر اللهجة العامية. لكن الواقع شيء آخر، لأن كلتا اللغتين العربية والأمازيغية (واللهجة العامية) تتراجعان في الواقع أمام سطوة اللغة الفرنسية التي تهيمن على مجالات المال والأعمال والإدارة والإعلام.
ثالثا، النقاش الذي يثيره اليوم القرار الذي يُراد فرضه عن طريق الأمر الواقع، يركز فقط على الجانب اللغوي والبيداغوجي، ويغفل ما هو أهم، أي الخلفيات السياسية والإيديولوجية لهذا القرار الذي لا يمكن أن يكون بريئا.
رابعا، الاصطفاف الذي يريده بعض المنافحين عن اللغة العربية الفصحى والمدافعين عن العامية المغربية نقاش مغلوط، يهدف إلى التمويه وصرف الانتباه عن النقاش الجوهري بشأن خلفيات القرار وأبعاده السياسية والفكرية والإيديولوجية، لأن اللغة العربية والعامية المغربية تتعايشان منذ قرون، والعامية المغربية تستقي مرجعية أغلب مفردات قاموسها من اللغة العربية. وكلاهما تعرفان التهميش نفسه أمام سطوة اللغة الفرنسية.
خامسا، الاستنجاد بالعامية المغربية لإنقاذ التعليم المغربي من حالة الإفلاس التي يعيشها لن يزيد سوى في تكريس الأزمة وتعميقها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالعامية المغربية ليست لغة، وليست لها قواعد تنظمها، وهي مزيج من المفردات المستقاة من كشكولٍ من اللغات التي تعامل أو يتعامل بها المغاربة. وعدا عن أنها لهجة متحرّكة تتغيّر مفرداتها وتعابيرها بسرعة، فهي ليست لهجة موحدة في المغرب، وإنما هناك لهجات مغربية تختلف من منطقةٍ إلى أخرى.
سادسا، ليست اللهجة المغربية طارئة على التعليم في المغرب، فهي حاضرةٌ إلى جانب العربية والفرنسية واللغات الأخرى، عندما يُستعان بها في الشرح أو النقاش، وعندما تستعمل لغة تواصل يومي داخل الفصول والمدارس والمعاهد والجامعات.
سابعا، الذين ينتقدون قصور اللغة العربية، ويصمونها بالتخلف والتعقيد وعدم مواكبة تطور العصر، هم أنفسهم أشد المدافعين عن صيانة اللغة الفرنسية، أكثر من أهلها وفي بلدها، والحريصون على نقاء أسلوبها واحترام نحوها وصرفها وإملائها ونطق مخارج حروفها!
ثامنا، استهداف اللغة العربية، لا يعود فقط إلى صرامة قواعدها، وإنما إلى ما تحمله من قيم. فاللغة، في حد ذاتها، ليست وعاءً فارغا، وإنما هي حمّالة فكر ومرآة للحضارة والثقافة والهوية. ومن يستهدفها إنما يوجّه سيف نقده إلى كل ما تمثله من قيم وفكر وحضارة وتاريخ وهوية.
تاسعا، عندما أقر المغرب سياسة التعريب، في بداية استقلاله عن فرنسا، بداية منتصف القرن الماضي، كان الهدف المعلن عنه هو رد الاعتبار للغة العربية، ومحاربة هيمنة الفرنسية
باعتبارها إرثا استعماريا تجب تصفيته، لكن ما اتضح بعد مرور عقود طويلة من سياسة التعريب هو تقوية اللغة الفرنسية التي بقيت لغة النخبة، وتعميم اللغة العربية على باقي أفراد المجتمع نوعا من الحاجز الفاصل داخل بنيان طبقي، يكرّس تفوق النخبة المفرنسة على باقي أفراد الشعب المعرّب، أو الأمازيغي، أو الدارج على حد سواء. لكن بعد فتح الباب أمام جزء من الحركة الإسلامية للمشاركة في الحياة السياسية، سينقلب السحر على الساحر، فقاعدة الإسلاميين من حملة قيم اللغة العربية، وفكرها وتراثها، وهي التي تعلموا وقرأوا بها، وبالتالي أصبحت العربية، في نظر خصوم الإسلاميين، هدفا استراتيجيا لوقف المد الإسلامي على المدى الطويل، من خلال استهداف مناهج التعليم التي تستعمل لغة تسهّل ترويج قيمهم وفكرهم وإيديولوجيتهم.
عاشرا، قبل خمس سنوات، قال المفكر المغربي عبد الله العروي، مدافعا عن العربية، إن اعتماد "الدارجة" للتعلم في المغرب سيؤدي إلى تقوقع المغربي على نفسه داخل جزيرة اسمها المغرب، وأكثر من ذلك سيؤدي إلى التفريط في تراثٍ عمرُه مئات القرون، ويشترك فيه ثلاثمائة مليون ناطقة وناطق بلغة الضاد التي تطوّر نفسها يوميا لتنافس اللغات العالمية. وعلى المستوى الاجتماعي، قال المؤرخ المغربي محذّرا: النتيجة ستكون إنتاج يد عاملة رخيصة وأمية فكرية خاضعة، لأنها لن تتعلم إلا ما سيجعلها يدا طيّعة عند مشغّلها!
انعكست حالة الانفصام اللغوي هذه على مستوى التعليم في المغرب الذي يسجل تراجعا مستمرا في السنوات الأخيرة، على الرغم من محاولات الإصلاح الكثيرة التي باءت بالفشل. وبدلا من معالجة أزمة التعليم التي تعتبر بنيويةً مرتبطة بغياب إرادة سياسية حقيقية تسعى إلى أن تجعل من التعليم سلّما للترقية الاجتماعية، اختار بعضُهم توجيه سهام نقده إلى اللغة العربية، وتحميلها مسؤولية الفشل الذي يلاحق المدرسة المغربية. وفي هذا السياق، جاء اللجوء إلى "الدارجة"، أو العامية المغربية، بمثابة الوصفة السحرية التي يمكن أن تحمل الحلّ لمشكلات التعليم المزمنة في المغرب.
وينطلق المدافعون عن "إشراك" الدارجة، أو "إدماجها"، أو "استعمالها" بديلا من العربية في التلقين والتدريس، من أنها تعتبر اللغة الأم بالنسبة لأبناء غالبية الأسر المغربية. وعدا عن أن التدريس باللغة الأم يعتبر من الحقوق التي ينصّ عليها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، فإن
أما الذين اعترضوا على إدماج كلمات وتعابير من "الدارجة" في مقرّرات أبنائهم الدراسية، فيرون في القرار محاولةً لإقصاء اللغة العربية، وتبخيسا لمستوى التعليم المتدنّي أصلا، وحصر إدراك الطفل المغربي وقدرته التواصلية في لهجةٍ عاميةٍ لا امتداد لها خارج حدود المغرب، وخارج قاموس ومعارف لغة دارجة شفاهية.
أوجد هذا النقاش بين المعارضين والمؤيدين للقرار اصطفافا حادّا بين المنافحين عن العربية، باعتبارها حمالة قيم وتاريخ وحضارة وهوية، وأنصار اللهجة المغربية، وهؤلاء قسمان، قسم تدفعهم غيرتهم على اللغة العامية المغربية، وقسم يختبئون وراء الدفاع عن العامية انتصارا للغة الفرنسية، وما تحمله من قيم، وما تمثله من نمط عيش، وما تجسّده داخل المجتمع المغربي من مركز اجتماعي وامتياز رمزي على حساب اللاهجين بألسن أخرى غير لغة موليير.
وبعيدا عن هذا الاصطفاف، ثمّة عدة ملاحظات لا بد من تسجيلها لفهم خلفيات قرار إدماج اللهجة المغربية العامية في مقرّرات دراسية، وتوقيت القرار وتداعياته، وربما أهدافه الكامنة وغير المعلن عنها.
أولا، لم يناقش القرار داخل البرلمان، ولم يقرّه مجلس وزاري برئاسة الملك، كما لم يصادق عليه مجلس الحكومة، بل تبرّأ رئيس الحكومة منه، وطلب من وزير التربية والتعليم أن يقدّم توضيحاته للرأي العام، ووعد بمراجعة المقرّرات الدراسية التي سيثبت أن تعابير أو كلمات دارجة أدمجت فيها، على حين غرة، وفي غفلة من الجميع، فالقرار لم يطرح للنقاش العمومي، ولم يُستشر فيه المختصون والخبراء، وإنما تم تهريبه بليل!
ثانيا، الدستور المغربي ينصّ على أن اللغة الرسمية في المغرب هي اللغة العربية، ويعتبر اللغة الأمازيغية لغة وطنية، ولا وجود فيه لذكر اللهجة العامية. لكن الواقع شيء آخر، لأن كلتا اللغتين العربية والأمازيغية (واللهجة العامية) تتراجعان في الواقع أمام سطوة اللغة الفرنسية التي تهيمن على مجالات المال والأعمال والإدارة والإعلام.
ثالثا، النقاش الذي يثيره اليوم القرار الذي يُراد فرضه عن طريق الأمر الواقع، يركز فقط على الجانب اللغوي والبيداغوجي، ويغفل ما هو أهم، أي الخلفيات السياسية والإيديولوجية لهذا القرار الذي لا يمكن أن يكون بريئا.
رابعا، الاصطفاف الذي يريده بعض المنافحين عن اللغة العربية الفصحى والمدافعين عن العامية المغربية نقاش مغلوط، يهدف إلى التمويه وصرف الانتباه عن النقاش الجوهري بشأن خلفيات القرار وأبعاده السياسية والفكرية والإيديولوجية، لأن اللغة العربية والعامية المغربية تتعايشان منذ قرون، والعامية المغربية تستقي مرجعية أغلب مفردات قاموسها من اللغة العربية. وكلاهما تعرفان التهميش نفسه أمام سطوة اللغة الفرنسية.
خامسا، الاستنجاد بالعامية المغربية لإنقاذ التعليم المغربي من حالة الإفلاس التي يعيشها لن يزيد سوى في تكريس الأزمة وتعميقها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالعامية المغربية ليست لغة، وليست لها قواعد تنظمها، وهي مزيج من المفردات المستقاة من كشكولٍ من اللغات التي تعامل أو يتعامل بها المغاربة. وعدا عن أنها لهجة متحرّكة تتغيّر مفرداتها وتعابيرها بسرعة، فهي ليست لهجة موحدة في المغرب، وإنما هناك لهجات مغربية تختلف من منطقةٍ إلى أخرى.
سادسا، ليست اللهجة المغربية طارئة على التعليم في المغرب، فهي حاضرةٌ إلى جانب العربية والفرنسية واللغات الأخرى، عندما يُستعان بها في الشرح أو النقاش، وعندما تستعمل لغة تواصل يومي داخل الفصول والمدارس والمعاهد والجامعات.
سابعا، الذين ينتقدون قصور اللغة العربية، ويصمونها بالتخلف والتعقيد وعدم مواكبة تطور العصر، هم أنفسهم أشد المدافعين عن صيانة اللغة الفرنسية، أكثر من أهلها وفي بلدها، والحريصون على نقاء أسلوبها واحترام نحوها وصرفها وإملائها ونطق مخارج حروفها!
ثامنا، استهداف اللغة العربية، لا يعود فقط إلى صرامة قواعدها، وإنما إلى ما تحمله من قيم. فاللغة، في حد ذاتها، ليست وعاءً فارغا، وإنما هي حمّالة فكر ومرآة للحضارة والثقافة والهوية. ومن يستهدفها إنما يوجّه سيف نقده إلى كل ما تمثله من قيم وفكر وحضارة وتاريخ وهوية.
تاسعا، عندما أقر المغرب سياسة التعريب، في بداية استقلاله عن فرنسا، بداية منتصف القرن الماضي، كان الهدف المعلن عنه هو رد الاعتبار للغة العربية، ومحاربة هيمنة الفرنسية
عاشرا، قبل خمس سنوات، قال المفكر المغربي عبد الله العروي، مدافعا عن العربية، إن اعتماد "الدارجة" للتعلم في المغرب سيؤدي إلى تقوقع المغربي على نفسه داخل جزيرة اسمها المغرب، وأكثر من ذلك سيؤدي إلى التفريط في تراثٍ عمرُه مئات القرون، ويشترك فيه ثلاثمائة مليون ناطقة وناطق بلغة الضاد التي تطوّر نفسها يوميا لتنافس اللغات العالمية. وعلى المستوى الاجتماعي، قال المؤرخ المغربي محذّرا: النتيجة ستكون إنتاج يد عاملة رخيصة وأمية فكرية خاضعة، لأنها لن تتعلم إلا ما سيجعلها يدا طيّعة عند مشغّلها!