09 نوفمبر 2024
السوريون في 2019 بين السّاسة والعرّافين
حدث على مشارف العام 2011 أن التونسي محمد بو عزيزي أضرم بنفسه النار، بعدما ضاقت الدنيا به وبكرامته المنتهكة، فأشعل النار في هشيم شعوب المنطقة كلها، الشعوب المقهورة المقموعة، فاقدة الحد الأدنى للحياة، ومسلوبة القيمة والكرامة والإرادة، الشعوب التي أزمن الاستبداد جاثمًا على صدورها، بعدما كان الاستعمار قد أنهكها، ولم تلحق أن تسترد أنفاسها لتنطلق في دروب النهضة المرجوة، الحلم الذي أجهض في بداياته.
ثماني سنوات والنيران لم تنطفئ، والشعوب التي انطلقت في درب الحرية تخلّى العالم عنها، وبقيت يتيمةً تواجه مصيرًا فوق مستوى التوقع والاحتمال. ثماني سنوات كنا فيها نلهث وراء الخبر والصورة، راهنين أنفسنا للشاشات والمنابر كلها، كاتمين أنفاسنا غير مصدّقين ما جرى وما يجري. أدهشتنا هذه الشعوب حدّ الذهول، على الرغم مما كنا نتبجح بمعرفته من قواعد المنطق وأبسطها، تلك التي تقول إن المقدمات تعطي النتائج، وكنا نعرف أن كل المقدمات متوفرة كي تنفجر صدور الناس وينتفضوا لأجل كرامتهم الإنسانية، وأن ساعة الصفر لا بدّ آتية، ومع هذا لم نصدّق.
وما لم نصدّقه أيضًا المفاجآت والأخطار التي حاقت بحراك الشعوب، خصوصا الشعب السوري، بعدما اجتمعت عشرات الدول لتقول إنها "أصدقاء الشعب السوري"، فإذا بهذا الشعب بلا أصدقاء ولا إخوة ولا أشقاء، كان مصيره القتل والتجويع والتشريد والموت الآخر في دروب تغريبته القاسية، في وقتٍ استباحت أرضه القوى الضالعة في الحرب عليه، أصالة أو وكالة، وصارت سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ بقوة السلاح الذي ارتهنت السياسة إليه، فكان القول له بالدرجة الأولى والأخيرة.
وبقينا معلقين أنظارنا وأرواحنا على الشاشات، نتابع تصريحًا هنا وخبرًا هناك، ونرصد حركةً
هنا ولفتة هناك، ونحاول التحليل، وقراءة ما يجري وما بين السطور، فنكاد لا نفهم، أو إذا هيّئ لنا أننا فهمنا وأصابتنا لوثة فرح وأمل غامضيْن نخترع لهما المبرّرات، من خلال فهمنا الذي غالبًا ما يكون ناجمًا عن إسقاط رغباتنا على الواقع. يطل علينا المحنكون الذين لا شغل لديهم غير المتاجرة بالكلام، المحللون والنشطاء السياسيون الذين احتلوا الشاشات، واحتلوا المشهد السياسي، فيدلقوا أمام أرواحنا المتألمة أطنانًا من الكلام المحبوك بحرفيةٍ عاليةٍ، يحمل شحناتٍ متنوعةً من التضليل البارع في صياغة الضمائر العامة والوعي العام، كما ينبغي للأجندات أن تفعل، فإذا بكل تحليلاتنا وتوقعاتنا وآمالنا الخائبة تصير هباء، ونمعن في الخيبة والخذلان والقلق والخوف، وإذا بمناعاتنا التي حاولنا حمايتها في زمن الحمم البركانية الحارقة تتصدّع، وتوشك على الانهيار. ومنا كثيرون ممن انهارت مناعاتهم أمام هول الكارثة والتضليل والرصد والشحن العنصري البغيض، شحن النزعات الفئوية المدمرة الطائفية والقومية تحديدًا، فكيف للسوري أن يصدّق المنطق، بعدما كانت النتائج كلها خلال ثماني سنوات بعكس المنطق الإنساني، وبعكس أحلام الشعب، وبعكس طموحاته، وبعكس عشمه بالذين استلموا دفتي القيادة والمصير، فلم يكونوا أوفياء ولا عاقلين، ولم يكونوا أكثر من نموذج يتناسخ وينافس بعضه بعضا في قتال وحشي أتى على الحجر والبشر، في صراعٍ عنوانه الأوحد الوصول إلى العرش.
بعد ثماني سنوات، وفي الأيام الأخيرة للعام 2018، والذي يتوج المسيرة الشرسة المترعة بالدمار والموت. ينبئ العام الجديد بأن لا شيء تغير في الواقع، غير أن السوري لم يعد كما كان، أُلقي في أتون حربٍ تركته بلا وطن، أو وطنٍ مقسّمٍ منهار يستجدي إعادة إعماره، فيُلقى به إلى بازارات المساومة الرخيصة، والكل يساوم ويعقد الصفقات. والسوريون بلا مأوى، ثمانون بالمئة منهم تحت خط الفقر، شبابهم تبدّدوا وتبددت معهم طاقات الإبداع والبناء والتطوير. سورية بلا أطفال أسوياء، سورية الباقية صارت مرتعًا للاستثمارات الجشعة التي تحولها إلى سوق كبيرة، يعمل أبناؤها السوريون فيها خدمًا ليس أكثر، والأمثلة كثيرة تكاد لا تعد. صارت المدن السورية، ما عدا التي لم يُبت بمصيرها بعد، فتلك لها وضعها الآخر الذي لا يبشر بخير، مطاعم وفنادق ومقاهي وأندية ليلية ومراقص ومحلات تجارية ومولات فقط، ينشئها تجار الحرب ومرتزقتها لرفاهية فئةٍ قليلةٍ ممن كوّنوا ثرواتهم بطرق رخيصة ملوثة بدم السوريين، والبقية خدم في هذه المشاريع، ليؤمنوا خبز أولادهم ليس أكثر، بينما قضي على ما كان فيها من مصانع ومشاريع طامحة. اقتصاد الحرب غيّر المشهد برمته، وأكبر شاهد هذا الصراع غير العادل بين الليرة والدولار، الليرة المصابة بالشلل والعجز يغصبونها على النهوض، وهي تصرخ من عجزها.
لم يبقَ أمام السوريين غير أن يلهثوا خلف العرافين والمنجّمين، علّ في نبوءاتهم ما يبرّد نيران صدورهم، ويجعلهم يعيشون على حلمٍ، ولو لبعض حين، بعدما أحال الواقع أحلامهم إلى نار وجمر تحت رمادها كلما خبت، فها هي العرّافة البلغارية العمياء فانغا، التي توفيت عام 1996 عن 85 عامًا، تركت في نبوءاتها للعام 2019 وما ينتظر العالم فيه أن يكون عام أزمة اقتصادية عالمية، وانهيار النظام القديم. سيفقد ناسٌ كثيرون مدخراتهم وعملهم. ويمكن تسمية 2019 سنة الاضطرابات الكبيرة. وفي المقام الأول، سيؤثر على أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والدول المتضامنة معها، وبحسب تنبؤاتها، سيتعرّض الرئيس
الروسي، فلاديمير بوتين، لمحاولة اغتيال من فريق أمنه الخاص. أما المنجم الفرنسي ميشيل دو نوسترادام، الملقب بنوستراداموس، والذي عاش في القرن السادس عشر، ويُقال إنه استطاع، في كتابه التنبؤات، التنبؤ بأحداثٍ عديدة، بدءًا من حريق لندن الكبير عام 1666 والثورة الفرنسية عام 1789 وتولي نابليون بونابرت حكم فرنسا، مرورًا بصعود الزعيم النازي أدولف هتلر واغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، ووصولًا إلى أحداث "11 سبتمبر"، فإن العالم، في العام الجديد 2019، سيخوض حربًا عالمية ثالثة مدمرة بين قوتين عظيمتين، ومن المتوقع أن يستمر هذا الصراع 27 عامًا. وهذه تنبؤات مخيفة للعالم، خصوصا إذا نظرنا نظرة شمولية للأحداث التي يمور بها، والشعب السوري جزء من هذا العالم، بل أصبح في قلب المشكلة بالنسبة لأوروبا. ولكن من المؤكد أيضًا أن هذا الشعب لا يتمنى إلا الخير للبشرية جمعاء، على الرغم مما حصل معه، وأنه دفع فاتورة حروب الآخرين. ولكن هناك تنبؤات أخرى لعرّافين عرب، يعايشون الأحداث اليوم، منهم الفلكي محمد ياسين، الذي يتنبأ للرئيس الروسي، بوتين، بعملية مواجهة سياسية ودبلوماسية وبـ"لعبة ذكية كبيرة يسقط صفقة القرن بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره كوشنر"، وبأن الرئيس السوري بشار الأسد ينتصر، في كامل حربه في العاصمة دمشق، وكل ريفها ودوائرها، وطرقات حمص ودرعا والساحل نحو طرطوس، لكن مفاجأة أميركية تحصل تخلط الأوراق، ولا يكون منتظرًا أن تحصل في هذا الشكل، وهذا التصريح كان في شهر مارس/ آذار الماضي. ويحصل تصادم إيراني – أميركي، يكاد يؤدّي إلى حرب، ولكن يتم إطفاء الحريق الصدامي فورًا، وتحصل في إيران بعد أشهر مظاهراتٌ عديدة، لأسباب معيشية واقتصادية.
هذه أمثلة عن تنبؤات العرّافين التي تعيد الشعب السوري إلى المربع الأول، مربع الأوهام والانقسام بالأحلام والطموحات، وتدفعه إلى دوامات التضليل، بينما تمر السنين ويرصف السوريون أعمارهم طبقاتٍ من القهر والتشرد والتيه، ويزداد جبروت الجبارين، وتغول الفاسدين والمفسدين، ويستمر العالم في الاستثمار به وبمصيره، ليبقى الشعب السوري مرتهنًا لخيار وحيد: أن يكون بين مطرقة الساسة وسندان العرّافين. ولدى الساسة كذبٌ كثير حتى لو صدقوا، ولدى العرّافين جزء من الحقيقة مهما كذبوا. هذا جزء من حكاية "الشرق الأوسط الجديد"، ومأساة الشعوب في ظل الاستبداديْن، المحلي والعالمي.
ثماني سنوات والنيران لم تنطفئ، والشعوب التي انطلقت في درب الحرية تخلّى العالم عنها، وبقيت يتيمةً تواجه مصيرًا فوق مستوى التوقع والاحتمال. ثماني سنوات كنا فيها نلهث وراء الخبر والصورة، راهنين أنفسنا للشاشات والمنابر كلها، كاتمين أنفاسنا غير مصدّقين ما جرى وما يجري. أدهشتنا هذه الشعوب حدّ الذهول، على الرغم مما كنا نتبجح بمعرفته من قواعد المنطق وأبسطها، تلك التي تقول إن المقدمات تعطي النتائج، وكنا نعرف أن كل المقدمات متوفرة كي تنفجر صدور الناس وينتفضوا لأجل كرامتهم الإنسانية، وأن ساعة الصفر لا بدّ آتية، ومع هذا لم نصدّق.
وما لم نصدّقه أيضًا المفاجآت والأخطار التي حاقت بحراك الشعوب، خصوصا الشعب السوري، بعدما اجتمعت عشرات الدول لتقول إنها "أصدقاء الشعب السوري"، فإذا بهذا الشعب بلا أصدقاء ولا إخوة ولا أشقاء، كان مصيره القتل والتجويع والتشريد والموت الآخر في دروب تغريبته القاسية، في وقتٍ استباحت أرضه القوى الضالعة في الحرب عليه، أصالة أو وكالة، وصارت سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ بقوة السلاح الذي ارتهنت السياسة إليه، فكان القول له بالدرجة الأولى والأخيرة.
وبقينا معلقين أنظارنا وأرواحنا على الشاشات، نتابع تصريحًا هنا وخبرًا هناك، ونرصد حركةً
بعد ثماني سنوات، وفي الأيام الأخيرة للعام 2018، والذي يتوج المسيرة الشرسة المترعة بالدمار والموت. ينبئ العام الجديد بأن لا شيء تغير في الواقع، غير أن السوري لم يعد كما كان، أُلقي في أتون حربٍ تركته بلا وطن، أو وطنٍ مقسّمٍ منهار يستجدي إعادة إعماره، فيُلقى به إلى بازارات المساومة الرخيصة، والكل يساوم ويعقد الصفقات. والسوريون بلا مأوى، ثمانون بالمئة منهم تحت خط الفقر، شبابهم تبدّدوا وتبددت معهم طاقات الإبداع والبناء والتطوير. سورية بلا أطفال أسوياء، سورية الباقية صارت مرتعًا للاستثمارات الجشعة التي تحولها إلى سوق كبيرة، يعمل أبناؤها السوريون فيها خدمًا ليس أكثر، والأمثلة كثيرة تكاد لا تعد. صارت المدن السورية، ما عدا التي لم يُبت بمصيرها بعد، فتلك لها وضعها الآخر الذي لا يبشر بخير، مطاعم وفنادق ومقاهي وأندية ليلية ومراقص ومحلات تجارية ومولات فقط، ينشئها تجار الحرب ومرتزقتها لرفاهية فئةٍ قليلةٍ ممن كوّنوا ثرواتهم بطرق رخيصة ملوثة بدم السوريين، والبقية خدم في هذه المشاريع، ليؤمنوا خبز أولادهم ليس أكثر، بينما قضي على ما كان فيها من مصانع ومشاريع طامحة. اقتصاد الحرب غيّر المشهد برمته، وأكبر شاهد هذا الصراع غير العادل بين الليرة والدولار، الليرة المصابة بالشلل والعجز يغصبونها على النهوض، وهي تصرخ من عجزها.
لم يبقَ أمام السوريين غير أن يلهثوا خلف العرافين والمنجّمين، علّ في نبوءاتهم ما يبرّد نيران صدورهم، ويجعلهم يعيشون على حلمٍ، ولو لبعض حين، بعدما أحال الواقع أحلامهم إلى نار وجمر تحت رمادها كلما خبت، فها هي العرّافة البلغارية العمياء فانغا، التي توفيت عام 1996 عن 85 عامًا، تركت في نبوءاتها للعام 2019 وما ينتظر العالم فيه أن يكون عام أزمة اقتصادية عالمية، وانهيار النظام القديم. سيفقد ناسٌ كثيرون مدخراتهم وعملهم. ويمكن تسمية 2019 سنة الاضطرابات الكبيرة. وفي المقام الأول، سيؤثر على أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والدول المتضامنة معها، وبحسب تنبؤاتها، سيتعرّض الرئيس
هذه أمثلة عن تنبؤات العرّافين التي تعيد الشعب السوري إلى المربع الأول، مربع الأوهام والانقسام بالأحلام والطموحات، وتدفعه إلى دوامات التضليل، بينما تمر السنين ويرصف السوريون أعمارهم طبقاتٍ من القهر والتشرد والتيه، ويزداد جبروت الجبارين، وتغول الفاسدين والمفسدين، ويستمر العالم في الاستثمار به وبمصيره، ليبقى الشعب السوري مرتهنًا لخيار وحيد: أن يكون بين مطرقة الساسة وسندان العرّافين. ولدى الساسة كذبٌ كثير حتى لو صدقوا، ولدى العرّافين جزء من الحقيقة مهما كذبوا. هذا جزء من حكاية "الشرق الأوسط الجديد"، ومأساة الشعوب في ظل الاستبداديْن، المحلي والعالمي.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024