13 أكتوبر 2024
خطاب الكراهية بين الفكر والممارسة
حسان الأسود
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
ما بين فتوى الخميني بوجوب قتل الكاتب البريطاني (الهندي)، سلمان رشدي، التي أصدرها في 14 فبراير/ شباط عام 1989، بسبب روايته "آيات شيطانيّة"، وإلغاء قناة تيرب الرياضيّة الإيرانية نقل مباراة كرة قدم بين فريقي بايرن ميونخ وأوغسبورغ بسبب قيادة المباراة من الحكم (السيدة) بيبيانا شتاين هاوس، تاريخ طويلٌ وثقيل الظلّ من التعصّب والتطرّف في السلوك الإيراني تجاه الآخرين، أياً كانوا، عرباً كرداً وحتى من الفرس المخالفين للنظام بالعقيدة أو المنهج.
ولعلّ الحكم على المحامية الإيرانية المدافعة عن حقوق الإنسان نسرين سوتوده، بالحبس 33 عاماً، إضافة إلى عقوبة الجلد 148 جلدة بتهمة ارتكابها جريمة السفور في الأماكن العامة، من أحدث جرائم النظام الثيوقراطي الإيراني في هذا المجال، وهو يعطي صورة واضحة عن طريقة تعامل هذه الأنظمة مع كلّ من يختلف معها في نمط التفكير، ومع كلّ من يخرج عن فكرها الشمولي المتطرّف.
لا تختلف طريقة تعامل أنظمة حكم كثيرة في المنطقة مع هذه العقليّة، فإجراءات التحقيق والمحاكمة التي يخضع لها الداعية السعودي سلمان العودة، المشوبة بعلامات استفهامٍ كثيرة، والتي تفتقد لأدنى درجات الحياد والنزاهة والشفافية وصيانة حقوق المتّهم الأساسية، لا تختلف، من حيث الجوهر، مع المحاكمات الصوريّة التي تجري في مصر أو في سورية أو في العراق أو غيرها من دول المنطقة.
يغرق الباحث عن أشكال هذه السلوكيات، المغرقة في التخلّف والعنصريّة والاستبداد وتفاصيلها، في بحورٍ منها، بسبب كثرتها وتنوّعها، لكن ما يثير الدهشة أن تسترضي حكومات بعض الدول المسؤولين في هذه البلدان، وتستقبلهم أو تزورهم، كما حصل في يناير/ كانون الثاني من عام
2016 من تغطيةٍ للتماثيل العارية في متحف كابيتوليني في روما، في أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده في المتحف رئيس وزراء إيطاليا، ماتيو رينزي، مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، وكما حصل من زيارة زعماء دول العالم، قبل أسابيع، للسيسي، على الرغم من إعدام قضائه تسعة من شباب مصر بتهم كيدية، وضمن محاكماتٍ هزلية، اعتمدت أدلّة مُنتزعة تحت الإكراه والتعذيب.
الحقيقة أنّ شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها حكومات بعض الدول المحسوبة على النظُم الديمقراطيّة، في مواجهة حكومات الدول المحسوبة على النظم الاستبدادية، لا تختلف، من حيث طبيعة الاستخدام، مع شعارات مكافحة الإرهاب التي ترفعها الأخيرة في مواجهة شعوبها، والتي تتلطّى خلفها في الدفاع عن شرعيتها المفقودة.
المصالح الاقتصاديّة، ومصالح الشركات العملاقة العابرة للقارّات والأمم والجنسيات، أي مصالح رأس المال، هي التي تتحكّم بالسياسات الدولية، بما فيها العلاقات بين الأنظمة والحكومات المختلفة، ولذلك نجد زعماء دولٍ كثيرين يقفزون فوق القيم الإنسانيّة والمبادئ الأخلاقيّة، عندما يتعلّق الأمر بمصالح بلدانهم الاقتصادية والأمنية. وتتمثّل النتائج المباشرة لهذا السلوك بازدياد التطرّف في جميع أنحاء المعمورة، وبانعدام الثقة المتزايد بالسياسة وبالقوانين والمعاهدات الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان، وهذا يزيد من حالات الاحتقان والتعصّب والكراهية بين البشر.
لم يكن خطاب الكراهية حكراً، في أيّ يومٍ، على فئة قوميّة أو عرقيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، أو حتّى طبقة، بالمعنى الماركسي لتقسيم المجتمعات، كذلك التطرّف والتعصّب والإرهاب، فهذه المفاهيم والسلوكيّات ليست منجزاً حديثاً ولا حصريّاً، بل هي قديمة قدم الإنسان أوّلاً، وهي مرتبطةٌ، بشكل أو بآخر، بعوامل سياسية واجتماعية واقتصاديّة وتاريخيّة كثيرة، ثانياً.
وكان من بين الظروف المساعدة على نشوء الفكر النازي والفاشي، مثلاً، الصراع على مصادر الطاقة والثروات الباطنيّة بين القوى الاستعماريّة المختلفة، والحرب العالميّة الأولى المتمثّلة بتقاسم تركة السلطنة العثمانيّة، وانهيار الإمبراطوريّة النمساوية المجرية وتفتتها، والخلفيات التاريخيّة للصراع الكاثوليكي البروتستانتي الأرثوذكسي في القارّة العجوز.
تترافق مع الهزّات الكبرى في التاريخ البشري صراعاتٌ فكريّة كبرى أيضاً، فما بين فكر نيتشه وفكر سارتر، نشأت الوجوديّة. وما بين فكر شيلر ماخر وفكر هيرمان وتز، نشأت الفردانيّة والشخصانيّة، حيث جاءتا كردّ فعل فكري فلسفي على شراهة رأس المال، ونموّ الاقتصاد الهائل بعد الثورة الصناعية، وما أحدثه من آثار رهيبة على أنماط حياة البشر وطرائق تفكيرهم، وكذلك نتيجة للشعور بضرورة إعادة الاعتبار للإنسان الذي طحنته رحى الحربين
العالميتين، بينما مثّلت إضافة هيرمان وتز على الفلسفة الشخصانيّة ذروة التفوّق الأميركي الذي سيدمغ برأيه أوروبا والعالم بأسره بطابعه الخاص.
في هذا السياق، يكون خطاب الكراهية والسلوك الفعلي، المعبّر عنه بالأفعال الإرهابيّة الإجراميّة، نتيجةً حتميّة لسياسات دول وأنظمة وجماعات متعدّدة، متنوّعة المذاهب والاتجاهات. يندرج تحت هذا الخطاب تعريف الأميركيين حربهم في فيتنام، وتعريف السوفييت حربهم في أفغانستان، وتعريف ملالي إيران فكرة محاربة الاستكبار العالمي من خلال تصدير الثورة، وتعريف أنظمة الاستبداد الشمولية حربها ضدّ طموحات شعوبها، وتعريف تنظيم القاعدة، وخليفته تنظيم داعش، نفسيهما ممثليّن للجهاد العالمي.
يمثل الإعلام، بشكل أو بآخر، المرآة التي تعكس طبيعة العلاقات السائدة بين البشر، وباعتبار أنّه لا يوجد إعلام محايد، لأنه لا حياد في هذا العالم، فإنّه من الطبيعي أن نرى الاستثمار في الإسلاموفوبيا لتحرير كوامن من العقد والخرافات عند شرائح واسعة من بعض المجتمعات، لتحقيق غاياتٍ سياسيّة بالدرجة النهائيّة.
كان لاستثمار الروس، مثلاً، في مسألة اللجوء، تأثير واضح على نموّ الأحزاب اليمينيّة والأحزاب المتطرّفة في أوروبا، فقد دخلت كثير منها البرلمانات أول مرّة، بعد الحرب العالميّة الثانية، كما أنّ بعضها بات الآن في سدّة الحكم. الاستثمار في إثارة الغرائز من خلال اختلاق أوهام ومخاوف لا تستند إلى حقائق ثابتة، أسهل بكثير من فتح باب الجدل المعرفي للوصول إلى الحقائق بالعلم والتجريب والبحث المنهجي.
ما حصل يوم الجمعة الماضي (15/3/2019)، من هجوم إرهابي عنصري حاقد على مجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤدّون صلاتهم في دور العبادة في إحدى مدن نيوزيلندا، لا يخرج عن خط سير وحركة خطاب الكراهية المتنقّل بين أربع جهات الأرض. إذا قدّر لهذا الخطاب أن يتنامى ويزدهر، وهو ما يبدو أننا مقدمون عليه، سيكون من أكبر الكوارث المهدّدة للأمن والسلم، ليس في أوروبا فحسب، بل في العالم أجمع، وسيأتي على ما راكمه العمل الإنساني المشترك، أعواماً طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، من إرث كبير في مجال حماية حقوق الإنسان وكرامته.
لا تختلف طريقة تعامل أنظمة حكم كثيرة في المنطقة مع هذه العقليّة، فإجراءات التحقيق والمحاكمة التي يخضع لها الداعية السعودي سلمان العودة، المشوبة بعلامات استفهامٍ كثيرة، والتي تفتقد لأدنى درجات الحياد والنزاهة والشفافية وصيانة حقوق المتّهم الأساسية، لا تختلف، من حيث الجوهر، مع المحاكمات الصوريّة التي تجري في مصر أو في سورية أو في العراق أو غيرها من دول المنطقة.
يغرق الباحث عن أشكال هذه السلوكيات، المغرقة في التخلّف والعنصريّة والاستبداد وتفاصيلها، في بحورٍ منها، بسبب كثرتها وتنوّعها، لكن ما يثير الدهشة أن تسترضي حكومات بعض الدول المسؤولين في هذه البلدان، وتستقبلهم أو تزورهم، كما حصل في يناير/ كانون الثاني من عام
الحقيقة أنّ شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها حكومات بعض الدول المحسوبة على النظُم الديمقراطيّة، في مواجهة حكومات الدول المحسوبة على النظم الاستبدادية، لا تختلف، من حيث طبيعة الاستخدام، مع شعارات مكافحة الإرهاب التي ترفعها الأخيرة في مواجهة شعوبها، والتي تتلطّى خلفها في الدفاع عن شرعيتها المفقودة.
المصالح الاقتصاديّة، ومصالح الشركات العملاقة العابرة للقارّات والأمم والجنسيات، أي مصالح رأس المال، هي التي تتحكّم بالسياسات الدولية، بما فيها العلاقات بين الأنظمة والحكومات المختلفة، ولذلك نجد زعماء دولٍ كثيرين يقفزون فوق القيم الإنسانيّة والمبادئ الأخلاقيّة، عندما يتعلّق الأمر بمصالح بلدانهم الاقتصادية والأمنية. وتتمثّل النتائج المباشرة لهذا السلوك بازدياد التطرّف في جميع أنحاء المعمورة، وبانعدام الثقة المتزايد بالسياسة وبالقوانين والمعاهدات الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان، وهذا يزيد من حالات الاحتقان والتعصّب والكراهية بين البشر.
لم يكن خطاب الكراهية حكراً، في أيّ يومٍ، على فئة قوميّة أو عرقيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، أو حتّى طبقة، بالمعنى الماركسي لتقسيم المجتمعات، كذلك التطرّف والتعصّب والإرهاب، فهذه المفاهيم والسلوكيّات ليست منجزاً حديثاً ولا حصريّاً، بل هي قديمة قدم الإنسان أوّلاً، وهي مرتبطةٌ، بشكل أو بآخر، بعوامل سياسية واجتماعية واقتصاديّة وتاريخيّة كثيرة، ثانياً.
وكان من بين الظروف المساعدة على نشوء الفكر النازي والفاشي، مثلاً، الصراع على مصادر الطاقة والثروات الباطنيّة بين القوى الاستعماريّة المختلفة، والحرب العالميّة الأولى المتمثّلة بتقاسم تركة السلطنة العثمانيّة، وانهيار الإمبراطوريّة النمساوية المجرية وتفتتها، والخلفيات التاريخيّة للصراع الكاثوليكي البروتستانتي الأرثوذكسي في القارّة العجوز.
تترافق مع الهزّات الكبرى في التاريخ البشري صراعاتٌ فكريّة كبرى أيضاً، فما بين فكر نيتشه وفكر سارتر، نشأت الوجوديّة. وما بين فكر شيلر ماخر وفكر هيرمان وتز، نشأت الفردانيّة والشخصانيّة، حيث جاءتا كردّ فعل فكري فلسفي على شراهة رأس المال، ونموّ الاقتصاد الهائل بعد الثورة الصناعية، وما أحدثه من آثار رهيبة على أنماط حياة البشر وطرائق تفكيرهم، وكذلك نتيجة للشعور بضرورة إعادة الاعتبار للإنسان الذي طحنته رحى الحربين
في هذا السياق، يكون خطاب الكراهية والسلوك الفعلي، المعبّر عنه بالأفعال الإرهابيّة الإجراميّة، نتيجةً حتميّة لسياسات دول وأنظمة وجماعات متعدّدة، متنوّعة المذاهب والاتجاهات. يندرج تحت هذا الخطاب تعريف الأميركيين حربهم في فيتنام، وتعريف السوفييت حربهم في أفغانستان، وتعريف ملالي إيران فكرة محاربة الاستكبار العالمي من خلال تصدير الثورة، وتعريف أنظمة الاستبداد الشمولية حربها ضدّ طموحات شعوبها، وتعريف تنظيم القاعدة، وخليفته تنظيم داعش، نفسيهما ممثليّن للجهاد العالمي.
يمثل الإعلام، بشكل أو بآخر، المرآة التي تعكس طبيعة العلاقات السائدة بين البشر، وباعتبار أنّه لا يوجد إعلام محايد، لأنه لا حياد في هذا العالم، فإنّه من الطبيعي أن نرى الاستثمار في الإسلاموفوبيا لتحرير كوامن من العقد والخرافات عند شرائح واسعة من بعض المجتمعات، لتحقيق غاياتٍ سياسيّة بالدرجة النهائيّة.
كان لاستثمار الروس، مثلاً، في مسألة اللجوء، تأثير واضح على نموّ الأحزاب اليمينيّة والأحزاب المتطرّفة في أوروبا، فقد دخلت كثير منها البرلمانات أول مرّة، بعد الحرب العالميّة الثانية، كما أنّ بعضها بات الآن في سدّة الحكم. الاستثمار في إثارة الغرائز من خلال اختلاق أوهام ومخاوف لا تستند إلى حقائق ثابتة، أسهل بكثير من فتح باب الجدل المعرفي للوصول إلى الحقائق بالعلم والتجريب والبحث المنهجي.
ما حصل يوم الجمعة الماضي (15/3/2019)، من هجوم إرهابي عنصري حاقد على مجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤدّون صلاتهم في دور العبادة في إحدى مدن نيوزيلندا، لا يخرج عن خط سير وحركة خطاب الكراهية المتنقّل بين أربع جهات الأرض. إذا قدّر لهذا الخطاب أن يتنامى ويزدهر، وهو ما يبدو أننا مقدمون عليه، سيكون من أكبر الكوارث المهدّدة للأمن والسلم، ليس في أوروبا فحسب، بل في العالم أجمع، وسيأتي على ما راكمه العمل الإنساني المشترك، أعواماً طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، من إرث كبير في مجال حماية حقوق الإنسان وكرامته.
حسان الأسود
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
حسان الأسود
مقالات أخرى
13 سبتمبر 2024
23 اغسطس 2024
11 اغسطس 2024