01 نوفمبر 2024
الجزائر.. دروس الانتقال والثورة الملهمة
مرّت على الثورات العربية أحوالٌ أدت إلى تراجعها ومحاصرتها، ما جعل المضادين للثورة يتصدرون المشهد، وتتوارى تلك الثورات أو تكاد، إلا أن أحداثا مهمة وقعت، على الرغم من هذه الحال التي تشير إلى نظمٍ تمثل ذلك الحلف الخطير الذي يحمل ما سمي صفقة القرن من مستبدين ومضادين للثورة، ومن قوى إقليمية وغربية داعمة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب. تُمكن تسمية هذا الحلف بحق حلف الاستبداد والاستعباد. وفي الناحية الأخرى طرف آخر، يمثل إرادات الشعوب وحركات مقاومة للمغتصب الصهيوني، تعبر عن أشواق التغيير والمقاومة. وعلى الرغم من محاصرة هذا الحلف وضعف قواه ضمن موازين قوى مختلة، إلا أنه لا يزال يمثل حركةً تقف حجر عثرة في مواجهة "صفقة القرن" والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وبرزت في الأفق مظاهرات احتجاجية كبرى، طافت مناطق شتى من السودان ومن الجزائر. وعلى الرغم من أهمية حركة السودان في مواجهة العسكر، وكذلك توظيف الدين، فإن الحركة الكبرى تمثلت في تلك الاحتجاجات الواسعة في الجزائر، والتي تطورت في خطاها، وتسارعت أحداثها وتصاعدت وتيرتها، لتؤكد أن ثورة الجزائر ملهمة.
إذا كانت الثورات العربية في موجتها الأولى قد شكلت حالة تغيير كبرى في مفتتح القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة، وعلى الرغم من أن الثورات المضادة عاجلت تلك الثورات في مصر وليبيا وسورية واليمن، إلا أن هذه الثورات ظلت تعبر عن رمزية آمال التغيير في المنطقة، وزخم الثورات في الطلب على عملية التغيير، فقد مثلت ثورة تونس الشرارة، ومثلت ثورة مصر حالةً تُمكن محاكاتها، وجاءت الثورات الأخرى بعدها، إلا أن انكفاء حدث في الحالة المصرية، في الانقلاب العسكري السافر الذي تدثر بغطاء شعبي، وغير موازين القوى
وحركة التغيير ومسارات الفعل الثوري. وبدا هؤلاء المضادّون للثورة يكسبون معركة كبرى، واستطاعوا بذلك أن يضموا مصر إلى حلفٍ مناوئ للتغيير، وإلى حلف الاستبداد والاستعباد. ولكن الثورة الجزائرية فتحت باب التغيير مرة أخرى، وشكلت إرهاصا في موجة ثانية من الثورات العربية، وحملت، بقدر أو بآخر، وعيا احتجاجيا، على الرغم من أن بعضهم قد ارتكن إلى العشرية السوداء التي اصطنعت حالة الخوف، وصادرت أي فعل تغييري في الجزائر، من جراء فداحة هذه التضحيات الكبرى التي دفع ثمنها باهظا شعب الجزائر، وكأن الجزائر ضحّت بما فاق المليون شهيد في حرب التحرير، وضحت كذلك بالكثير بعد عشرية سوداء، أرادت أن تُحكم حلقة الخوف من أي تغيير، ومن أي فعل احتجاجي.
تمثل إذاً ثورة الجزائر ثورة ملهمة، لتفتح بذلك استئناف الأمل بالتغيير، والقيام بكل ما من شأنه استرداد إرادة الشعوب في التعبير عن آمالها وأشواقها في عمليات تغييرٍ جذري كبرى، ذلك أن الاستبداد حينما يتحرّك صوب مساراتٍ تحمل مزيدا من الاستخفاف المتصاعد، فإنها تشكل تحدّيا، بهذا الاستخفاف الذي يصل إلى ذروته، لإرادة الشعوب واستنفارات طاقاتها. إمعان هؤلاء الذين عزموا على تمرير العهدة الخامسة على هذا النحو الذي أشار، في رمزيةٍ مزريةٍ، إلى أن شعباً بحجم شعب الجزائر يمكن أن تحكمه بجسدٍ لا يقوى على الحراك؛ وبصورة تحل محل صاحب السلطة تسير بين الناس، وتفعل فعلها، وكأن لسان حال هؤلاء يتكلم "نحن نستطيع أن نحكمكم ولو حتى بصورة"، أو كما يسمونه أهل الجزائر "كادر"، أي بصورةٍ في إطار. ومثل ذلك أكبر عملية استخفاف، تذكّرنا باستخفافٍ آخر، شهدناه في شتى الثورات العربية السابقة؛ مثل القولة الشهيرة التي تعلقت بحسني مبارك المخلوع، حينما قال "خليهم يتسلوا". هؤلاء المتنفذون الذين يحكمون ويتحكمون من وراء ستار في الجزائر يسيرون على الخطى والمنوال نفسَيهما؛ يقولون في المقابل مستخفين "نحكم حتى بصورة". هنا كان الاستنفار لعمليات احتجاج كبرى، سادت الجزائر بكل فئاتها، وتعددت قواها الحية التي تمثل إرادة شعب الجزائر الذي خاض معركة تحرير تسطر في التاريخ، فإذ به يخوض الآن معركة أخرى، تتعلق بالتغيير الكبير ضمن ثورةٍ راشدة واعدة، الثورة الملهمة.
ولكي تكون كذلك، لا بد من تحديد إشكاليات المراحل الانتقالية بوجه عام، وفي الجزائر خصوصا، وكيف يمكن لحراك الجزائر أن يستفيد من خبرة إدارة المراحل الانتقالية في تجارب سبقتها، تتعلم من سلبياتها وتعتمد إيجابياتها، نريدها "الثورة الملهمة"، بما تعطيه من أملٍ في الموجة الثانية للثورات العربية، فتحفز التقاط أنفاسها واستئناف عملها. عليها أن تتبصر
إشكالاتٍ ترتبط بالحراك الثوري ذاته، بما يعبر عن حالةٍ متداخلة. الثورة بطبيعتها تحمل في جوفها ثلاث ثورات: الثورة الحقيقية التي تتعلق بآمال التغيير وأشواقه داخل المنظومة القائمة، ثم الثورة المضادة (أو المضادون للثورة، وهو التعبير الأدق)، وهذه هي الكتلة الثانية: وهؤلاء موجودون قبل الثورة: السلطة/ الدولة العميقة/ الذين قامت عليهم الثورة، وهي بالنسبة لهؤلاء معركة حياة أو موت، بحكم ما ارتكبوه في حق الشعوب، تستخدم في تلك المعركة كل الأدوات الدنيئة، ثم هناك ثورة التوقعات التي تعبر عن مطالب الناس لها مطالب وضرورات. لا يظن بعضهم أن الناس سيتكلمون فقط في المطالب السياسية، ولكن هناك المطالب المعيشية. تفشل الثورات بمعظمها، عندما يغلب عليها المعنى السياسي الضيق (بإشكالات السلطة) ويغيب عنها المعنى السياسي الواسع (بمعنى معاش الناس).
يرتبط الحراك الثوري بمشكلات أخرى، علاقة المجموعات والقوى الثورية المختلفة ببعضها: خرائط القوى، واختراقاتها، وإلى أي مدى يمكن أن تستمر في الحراك الثوري، وإلى أي مدى يمكن أن تتخلف وتذهب إلى الثورة المضادة. إدارة التعدّد والاختلاف والتنوع والتوافق ملفات مهمة، تترابط مع بعضها. هذه المسائل يجب أن تدار بحنكة، التجربة المصرية لم يكن في ذهنها تلك الثورات الثلاث والتعامل المتوازن معها، وتناولها معا باليقظة الواجبة والمهمات العاجلة.
الثورات يجب أن تكون لها ملفات محددة تخرجها من حالة السيولة المفروضة عليها، بفتح كل الملفات، (مثلاً مسألة تطبيق الشريعة)، فكرة اتفاق الحد الأدنى التي ترتبط بطبيعة الثورات، تستند إلى اتفاق الحد الأدنى المطلوبة حمايته من تصوراتٍ أخرى، تأتي في الطريق لتبدّد الطاقات وتحرف المسارات.
حراك المنصات المتنوعة؛ المتحرّكة والنوعية، مهمة؛ من حيث التكوين والتأسيس، ومن حيث الإدارة والعمل معاً في أطر تنسيقية وشبكية. وبشأن التعامل مع مؤسسات الدولة؛ لا بد من الاتجاه إلى عمل مجموعة مهمة، تقوم بما تمكن تسميتها استراتيجية الخطاب المتنوع، والمتجه إلى الجميع، فلا يستثني أحدا، ولا يهمل أي تكوين أو يقصيه، المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ومؤسسات المجتمع المدني، وكل تلك المؤسسات في حاجة إلى خطاب شديد التنوع لخدمة الحالة الثورية. ويرتبط بهذا في موضوع الخرائط النفسية للشعب الجزائري وتكويناته المختلفة، أو رسم الخرائط المتعلقة بالشعب والقوى السياسية، وعلاقاتها والنقابات وأدوارها، وحتى خرائط المشكلات والقضايا، كل تلك خرائط مهمة، لا بد أن تستند إلى قاعدة معلوماتية، غاية في الأهمية.
وهناك المسألة المتعلقة بالخيارات والمشروع الانتقالي، وضرورة تمييزه عن المشروع السياسي المتكامل والشامل. وللمشروع الانتقالي مواصفات وسمات، وهو يعالج حالة الاستثناء بما
تستحقه، والأمر يتعلق بالدستور، كما يتعلق بالانتخابات، ومن المهم ألا يتم الدخول في لعبة الانتخابات والاستقطابات في المرحلة الانتقالية. ثم الإطار الإقليمي والإطار الدولي واختلاف المصالح وسيناريوهات التعامل معها، وتلك البيئة المعقدة في أطرافها وتفاعلاتها، وضمن إدراك جمعي تأسيسي. لا يتمكن الخارج من الداخل إلا بمقدار ما يمكن له الداخل، وهو ما يمثل الإدراك الواعي، بحيث لا يسمح بالتفافاتٍ هنا أو هناك.
ثورة الجزائر، بما مثلت من حالة ملهمة، عليها أن تمارس مسيرة الرشد والتوافق السياسي، في ظل ذلك الوعي المهم الذي يتعلق بإدارة المرحلة الانتقالية، وتجنب أزماتها الكبرى التي قد تعصف بأصل الثورة، وتسهل عملية حصارها، أو احتوائها، بشكل أو بآخر. ومن هنا، تكتمل دائرة إلهام هذه الثورة الملهمة ورشدها، إذا ما استطاعت أن تدير حالة الانتقال وحالة الاستثناء، ضمن رؤى واعدة، لا تفرّط في ثوابت الحراك الثوري، وتمضي في طريقها إلى مواجهة كل محاولات الالتفاف عليها، أو تفريغها من مضمونها. هناك خيط واحد في الثورات يجب ألا يُفْقَد؛ وهو الظهير الشعبي، وهذا يتعلق بقوانين الاصطفاف السياسي، ثم تصور الحالة الثورية باعتبارها معركة النفس الطويل.
إذا كانت الثورات العربية في موجتها الأولى قد شكلت حالة تغيير كبرى في مفتتح القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة، وعلى الرغم من أن الثورات المضادة عاجلت تلك الثورات في مصر وليبيا وسورية واليمن، إلا أن هذه الثورات ظلت تعبر عن رمزية آمال التغيير في المنطقة، وزخم الثورات في الطلب على عملية التغيير، فقد مثلت ثورة تونس الشرارة، ومثلت ثورة مصر حالةً تُمكن محاكاتها، وجاءت الثورات الأخرى بعدها، إلا أن انكفاء حدث في الحالة المصرية، في الانقلاب العسكري السافر الذي تدثر بغطاء شعبي، وغير موازين القوى
تمثل إذاً ثورة الجزائر ثورة ملهمة، لتفتح بذلك استئناف الأمل بالتغيير، والقيام بكل ما من شأنه استرداد إرادة الشعوب في التعبير عن آمالها وأشواقها في عمليات تغييرٍ جذري كبرى، ذلك أن الاستبداد حينما يتحرّك صوب مساراتٍ تحمل مزيدا من الاستخفاف المتصاعد، فإنها تشكل تحدّيا، بهذا الاستخفاف الذي يصل إلى ذروته، لإرادة الشعوب واستنفارات طاقاتها. إمعان هؤلاء الذين عزموا على تمرير العهدة الخامسة على هذا النحو الذي أشار، في رمزيةٍ مزريةٍ، إلى أن شعباً بحجم شعب الجزائر يمكن أن تحكمه بجسدٍ لا يقوى على الحراك؛ وبصورة تحل محل صاحب السلطة تسير بين الناس، وتفعل فعلها، وكأن لسان حال هؤلاء يتكلم "نحن نستطيع أن نحكمكم ولو حتى بصورة"، أو كما يسمونه أهل الجزائر "كادر"، أي بصورةٍ في إطار. ومثل ذلك أكبر عملية استخفاف، تذكّرنا باستخفافٍ آخر، شهدناه في شتى الثورات العربية السابقة؛ مثل القولة الشهيرة التي تعلقت بحسني مبارك المخلوع، حينما قال "خليهم يتسلوا". هؤلاء المتنفذون الذين يحكمون ويتحكمون من وراء ستار في الجزائر يسيرون على الخطى والمنوال نفسَيهما؛ يقولون في المقابل مستخفين "نحكم حتى بصورة". هنا كان الاستنفار لعمليات احتجاج كبرى، سادت الجزائر بكل فئاتها، وتعددت قواها الحية التي تمثل إرادة شعب الجزائر الذي خاض معركة تحرير تسطر في التاريخ، فإذ به يخوض الآن معركة أخرى، تتعلق بالتغيير الكبير ضمن ثورةٍ راشدة واعدة، الثورة الملهمة.
ولكي تكون كذلك، لا بد من تحديد إشكاليات المراحل الانتقالية بوجه عام، وفي الجزائر خصوصا، وكيف يمكن لحراك الجزائر أن يستفيد من خبرة إدارة المراحل الانتقالية في تجارب سبقتها، تتعلم من سلبياتها وتعتمد إيجابياتها، نريدها "الثورة الملهمة"، بما تعطيه من أملٍ في الموجة الثانية للثورات العربية، فتحفز التقاط أنفاسها واستئناف عملها. عليها أن تتبصر
يرتبط الحراك الثوري بمشكلات أخرى، علاقة المجموعات والقوى الثورية المختلفة ببعضها: خرائط القوى، واختراقاتها، وإلى أي مدى يمكن أن تستمر في الحراك الثوري، وإلى أي مدى يمكن أن تتخلف وتذهب إلى الثورة المضادة. إدارة التعدّد والاختلاف والتنوع والتوافق ملفات مهمة، تترابط مع بعضها. هذه المسائل يجب أن تدار بحنكة، التجربة المصرية لم يكن في ذهنها تلك الثورات الثلاث والتعامل المتوازن معها، وتناولها معا باليقظة الواجبة والمهمات العاجلة.
الثورات يجب أن تكون لها ملفات محددة تخرجها من حالة السيولة المفروضة عليها، بفتح كل الملفات، (مثلاً مسألة تطبيق الشريعة)، فكرة اتفاق الحد الأدنى التي ترتبط بطبيعة الثورات، تستند إلى اتفاق الحد الأدنى المطلوبة حمايته من تصوراتٍ أخرى، تأتي في الطريق لتبدّد الطاقات وتحرف المسارات.
حراك المنصات المتنوعة؛ المتحرّكة والنوعية، مهمة؛ من حيث التكوين والتأسيس، ومن حيث الإدارة والعمل معاً في أطر تنسيقية وشبكية. وبشأن التعامل مع مؤسسات الدولة؛ لا بد من الاتجاه إلى عمل مجموعة مهمة، تقوم بما تمكن تسميتها استراتيجية الخطاب المتنوع، والمتجه إلى الجميع، فلا يستثني أحدا، ولا يهمل أي تكوين أو يقصيه، المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ومؤسسات المجتمع المدني، وكل تلك المؤسسات في حاجة إلى خطاب شديد التنوع لخدمة الحالة الثورية. ويرتبط بهذا في موضوع الخرائط النفسية للشعب الجزائري وتكويناته المختلفة، أو رسم الخرائط المتعلقة بالشعب والقوى السياسية، وعلاقاتها والنقابات وأدوارها، وحتى خرائط المشكلات والقضايا، كل تلك خرائط مهمة، لا بد أن تستند إلى قاعدة معلوماتية، غاية في الأهمية.
وهناك المسألة المتعلقة بالخيارات والمشروع الانتقالي، وضرورة تمييزه عن المشروع السياسي المتكامل والشامل. وللمشروع الانتقالي مواصفات وسمات، وهو يعالج حالة الاستثناء بما
ثورة الجزائر، بما مثلت من حالة ملهمة، عليها أن تمارس مسيرة الرشد والتوافق السياسي، في ظل ذلك الوعي المهم الذي يتعلق بإدارة المرحلة الانتقالية، وتجنب أزماتها الكبرى التي قد تعصف بأصل الثورة، وتسهل عملية حصارها، أو احتوائها، بشكل أو بآخر. ومن هنا، تكتمل دائرة إلهام هذه الثورة الملهمة ورشدها، إذا ما استطاعت أن تدير حالة الانتقال وحالة الاستثناء، ضمن رؤى واعدة، لا تفرّط في ثوابت الحراك الثوري، وتمضي في طريقها إلى مواجهة كل محاولات الالتفاف عليها، أو تفريغها من مضمونها. هناك خيط واحد في الثورات يجب ألا يُفْقَد؛ وهو الظهير الشعبي، وهذا يتعلق بقوانين الاصطفاف السياسي، ثم تصور الحالة الثورية باعتبارها معركة النفس الطويل.