06 نوفمبر 2024
خيارات تركيا الصعبة
لا يجوز التقليل من حجم الخسارة التي لحقت بحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، التي جرت في تركيا يوم الأحد الماضي. ولكن لا ينبغي أيضاً التهويل والمبالغة في قراءة نتائجها. فمن جهةٍ، تعد خسارة بلديات كبرى، وفي مقدمتها إسطنبول وأنقرة، ضربةً موجعةً للحزب الذي وصل إلى السلطة من خلال المحليات، واستمر فيها سبعة عشر عاماً بفضل تفوقه في تقديم الخدمات، وقد تشكل هذه فعلياً بداية تراخي قبضته على السلطة، التي أمسك بها بقوة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016، وتكرّست بإقرار النظام الرئاسي ربيع 2018. ولكن، من جهة أخرى، كانت هذه النتيجة متوقعة، في ظل الوضع الاقتصادي المتراجع، وتعاظم التحديات في السياسة الخارجية، وتدهور العلاقة مع الولايات المتحدة، ورغبة الناخب التركي في التغيير. وكانت المؤشرات الاقتصادية أخيراً تشير إلى تراجعات كبيرة، وكانت تأثيراتها ستظهر بأي حال في صناديق الاقتراع. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن الناتج الإجمالي القومي لتركيا لم يزد عام 2018 عن 713 مليار دولار، نزولاً من 851 ملياراً في العام الذي سبقه. وبدل أن تتقدم تركيا على سلم الاقتصادات العالمية تراجعت مكانتها، من الاقتصاد رقم 17 في العالم إلى الاقتصاد رقم 19، بعد سلسلة أزمات جديدها تراجع سعر صرف الليرة والارتفاع الكبير في أسعار السلع والموادّ الغذائية.
يتهم حزب العدالة والتنمية أطرافاً خارجية بالمسؤولية، ومحاولة إسقاطه، وهذا صحيح. ولكن هناك عوامل داخلية لا تقل أهمية ترتبط بأسلوب حكمه، وخطابه الشعبوي، والتدخلات السياسية في القرارات الاقتصادية. وعلى الأرجح، سوف يستوعب الحزب الدرس، ويحاول تغيير المسار، ولا سيما أنه ما زال ممسكاً بالرئاسة والحكومة، وله أغلبية نيابية مريحة، ولديه أربع سنوات حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة، من أجل المراجعة والعودة.
ولكن هذا الأمر لن يكون أكثر ما يشغل الرئيس أردوغان في المرحلة المقبلة، فهناك السياسة الخارجية، وتطورات العلاقة مع الغرب، وخيارات تركيا الاستراتيجية الكبرى، ففي اليوم نفسه الذي فقد فيه حزب العدالة والتنمية سيطرته على البلديات الكبرى في البلاد، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية وقف كل الشحنات المتعلقة بمعدّات توريد طائرات إف 35 إلى تركيا، حتى تتراجع الأخيرة عن شراء منظومة إس 400 الدفاعية من روسيا. ولم يعد هذا الموضوع تفصيلاً في العلاقات التركية - الأميركية، فواشنطن ترى أن شراء السلاح من روسيا ليس مجرد عملية تجارية أو صفقة تسلح عادية، بل تقع في قلب خيارات تركيا الاستراتيجية الكبرى، وأن أنقرة، بإصرارها على شراء المنظومة الروسية، ربما قرّرت فعلاً الذهاب باتجاه شراكة استراتيجية مع روسيا، لا يستقيم معها استمرار علاقاتها مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل عام.
واضح أن التنافس الروسي - الأميركي على تركيا بلغ مداه، وأصبح الاختيار بحاجة إلى قرار، ذلك أن تركيا، كما بات واضحاً، لا يمكنها البقاء في "الناتو" وتطوير علاقة استراتيجية مع روسيا في الآن معاً، خصوصاً في ضوء التوتر المتصاعد بين الحلف والأخيرة في البلطيق وشرق أوكرانيا وغيرهما. وقد يكون هذا القرار الأصعب الذي على أردوغان اتخاذه منذ وصوله إلى الحكم عام 2003، فإلغاء صفقة إس 400 ستوجه ضربة كبيرة لعلاقاته الناشئة مع فلاديمير بوتن، وستكون لذلك انعكاسات مهمة على التفاهمات معه في سورية، التي تنظر لها أنقرة الآن باعتبارها قضية أمنها القومي الأولى. أما الاستمرار في الصفقة، فسوف يرتب عليها غضباً أميركياً يأتي على شكل حظر بيع أسلحة، وضغوط اقتصادية، وقد يصل إلى حد تخيير تركيا بين عضويتها في "الناتو" وعلاقتها بروسيا.
وهذا لا يعني طبعاً أن تركيا في موقف ضعف، بدليل هذه المنافسة الشرسة على كسبها، وخصوصاً أن روسيا أبدت استعداداً لتعويضها عن طائرات إف 35 الأميركية بطائرات سوخوي 57 التي تحمل مزايا مماثلة، لكن الأمور ليست ببساطة إبدال سلعةٍ بسلعةٍ أخرى، فتركيا أمام مفترق طرق خطير، إذ باتت بعدما صار مطلوباً منها أن تحسم خياراتها، في قلب صراعٍ مرير قد يؤدي إلى تهشيمها.
يتهم حزب العدالة والتنمية أطرافاً خارجية بالمسؤولية، ومحاولة إسقاطه، وهذا صحيح. ولكن هناك عوامل داخلية لا تقل أهمية ترتبط بأسلوب حكمه، وخطابه الشعبوي، والتدخلات السياسية في القرارات الاقتصادية. وعلى الأرجح، سوف يستوعب الحزب الدرس، ويحاول تغيير المسار، ولا سيما أنه ما زال ممسكاً بالرئاسة والحكومة، وله أغلبية نيابية مريحة، ولديه أربع سنوات حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة، من أجل المراجعة والعودة.
ولكن هذا الأمر لن يكون أكثر ما يشغل الرئيس أردوغان في المرحلة المقبلة، فهناك السياسة الخارجية، وتطورات العلاقة مع الغرب، وخيارات تركيا الاستراتيجية الكبرى، ففي اليوم نفسه الذي فقد فيه حزب العدالة والتنمية سيطرته على البلديات الكبرى في البلاد، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية وقف كل الشحنات المتعلقة بمعدّات توريد طائرات إف 35 إلى تركيا، حتى تتراجع الأخيرة عن شراء منظومة إس 400 الدفاعية من روسيا. ولم يعد هذا الموضوع تفصيلاً في العلاقات التركية - الأميركية، فواشنطن ترى أن شراء السلاح من روسيا ليس مجرد عملية تجارية أو صفقة تسلح عادية، بل تقع في قلب خيارات تركيا الاستراتيجية الكبرى، وأن أنقرة، بإصرارها على شراء المنظومة الروسية، ربما قرّرت فعلاً الذهاب باتجاه شراكة استراتيجية مع روسيا، لا يستقيم معها استمرار علاقاتها مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل عام.
واضح أن التنافس الروسي - الأميركي على تركيا بلغ مداه، وأصبح الاختيار بحاجة إلى قرار، ذلك أن تركيا، كما بات واضحاً، لا يمكنها البقاء في "الناتو" وتطوير علاقة استراتيجية مع روسيا في الآن معاً، خصوصاً في ضوء التوتر المتصاعد بين الحلف والأخيرة في البلطيق وشرق أوكرانيا وغيرهما. وقد يكون هذا القرار الأصعب الذي على أردوغان اتخاذه منذ وصوله إلى الحكم عام 2003، فإلغاء صفقة إس 400 ستوجه ضربة كبيرة لعلاقاته الناشئة مع فلاديمير بوتن، وستكون لذلك انعكاسات مهمة على التفاهمات معه في سورية، التي تنظر لها أنقرة الآن باعتبارها قضية أمنها القومي الأولى. أما الاستمرار في الصفقة، فسوف يرتب عليها غضباً أميركياً يأتي على شكل حظر بيع أسلحة، وضغوط اقتصادية، وقد يصل إلى حد تخيير تركيا بين عضويتها في "الناتو" وعلاقتها بروسيا.
وهذا لا يعني طبعاً أن تركيا في موقف ضعف، بدليل هذه المنافسة الشرسة على كسبها، وخصوصاً أن روسيا أبدت استعداداً لتعويضها عن طائرات إف 35 الأميركية بطائرات سوخوي 57 التي تحمل مزايا مماثلة، لكن الأمور ليست ببساطة إبدال سلعةٍ بسلعةٍ أخرى، فتركيا أمام مفترق طرق خطير، إذ باتت بعدما صار مطلوباً منها أن تحسم خياراتها، في قلب صراعٍ مرير قد يؤدي إلى تهشيمها.