17 نوفمبر 2024
الكراهية سلاحاً أبيض
حسان الأسود
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
هزّت حادثتا القتل الجماعي في مدينة إل باسو في ولاية تكساس ومدينة دايتون في ولاية أهايو، الرأي العام الأميركي. كان لفارق التوقيت بين الحادثتين الذي لم يزد عن يوم واحد أثر كبير في مضاعفة الشعور بالصدمة. واستناداً إلى تقرير أعدّته صحيفة واشنطن بوست، فإنّ عدد حوادث إطلاق النار العشوائي على جمهور غير محدد من الناس بدءاً من عام 1969 قد وصل إلى 165 حادثة، أدّت إلى مقتل نحو ألفي شخص، من بينهم 189 طفلاً ومراهقاً. وبحسبة بسيطة، يمكن القول إنّ نصيب كل عام يعادل ثلاث جرائم من هذا النوع تقريباً.
لا تندرج تحت هذا الإطار حوادث القتل الفرديّة باستخدام الأسلحة الناريّة طبعاً، التي بلغت عام 2013 وحده 33636 حالة وفاة بطلق ناريّ، أي بنسبة 10.6 لكلّ مائة ألف مواطن أميركي، ومن ضمن الـ 2596993 حالة وفاة في أميركا في ذلك العام كانت نسبة المقتولين بالأسلحة الناريّة 1.3% من المجموع العام.
لا يكاد يهدأ النقاش حول موضوع حظر امتلاك الأسلحة أو على الأقلّ تقييده في أميركا، حتى يشتعل بعد كلّ جريمة مروّعة من هذا القبيل. تعود الصعوبة في حسم هذا الجدل إلى عوامل كثيرة، ليس أقلّها شأناً مصالح شركات السلاح. ويقف التعديل الثاني من الدستور الأميركي حائلاً كبيراً أمام جهود الأفراد والهيئات الساعية إلى الحدّ من انتشار السلاح في أميركا. ينصّ هذا التعديل الذي تمّ إقراره عام 1791 على: "وجود مليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أيّة ولاية حرّة، لا يجوز التعرّض لحق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها". ولمعرفة مدى تمسّك الأميركيين بحقّهم في حمل السلاح، لا بدّ من فهم السياق العام الذي نشأت فيه أميركا ذاتها، والقيم التي رافقت هذا النشوء، منذ وصول المستعمرين الأوروبيّين الأوائل إلى هذه القارّة الجديدة.
قامت حملات كريستوفر كولومبس الاستكشافيّة على فكرة الوصول إلى الهند والصين، عبر
الإبحار غرباً، لتجنّب العبور برّاً في الأراضي التابعّة للنفوذ الإسلامي. وكان الهدف أساساً الحصول على أكبر قدر ممكن من الذهب لتمويل حملات صليبيّة جديدة لاستعادة بيت المقدس من سيطرة المسلمين. لم يكن كولومبس مجرّد باحث إيطالي درس الرياضيات والعلوم الطبيعيّة في جامعة بافيا، بل كان رجلاً متعصّباً لمذهبه الكاثوليكي، وكان مؤمناً بشدّة بفكرة العودة الثانية للسيّد المسيح من خلال قراءته الخاصّة لسِفرِ الرؤيا، كما كان على قناعةٍ بأنّ الله قد هيّأه للعب دور محوري في هذا الأمر.
ترافقت حملات كولومبوس الاستكشافيّة مع مجازر رهيبة ارتكبها بحقّ سكّان البلاد الأصليين، ولم يكن هذا الأمر بعيداً عن فكرة تفوّق الإنسان الأوروبي على أسس عرقيّة ودينيّة، وحتى مذهبيّة، وهذا ما وجدنا صدى له في أفكار شخصيّات أميركيّة كثيرة، ولعلّ أشهرها الرئيسان جورج بوش الابن ودونالد ترامب. لقد ترافقت نشأة الولايات المتحدة الأميركية مع تصاعد قيم النزعة الفرديّة، فكان المستكشفون الأوائل من الأشخاص الحالمين المغامرين الذين لا يعرفون المستحيل. ولكنّ قيم الحريّة التي كانوا يعتنقونها لم تكن مطلقة، فهي حريّة الأوروبي فقط وحريّته بأن يفعل ما يشاء، حتى لو عن طريق استعباد السكان الأصليين والأفارقة وغيرهم، أو عن طريق تدمير البيئة وهدم الحضارات للوصول إلى الذهب والثروة.
كان لطبيعة نشوء المستعمرات الأوروبيّة في القارّة الجديدة، وللحروب التي خاضتها القوى الاستعماريّة مع السكان الأصليّين من جهة، ومع بعضها بعضا من جهة ثانية، ولحرب الاستقلال التي خاضتها الولايات ضدّ الإنكليز، ثم الحرب الأهليّة الأميركيّة، الأثر الأكبر في تشكّل فكرة اقتناء السلاح وحمله وتطورها. في المقابل، كانت تتحوّل فكرة تفوّق الإنسان الأوروبي أو العرق الأبيض، حسب تطور الأوضاع عموماً، لكنّها بقيت سائدة وبقوّة حتى سبعينيّات القرن الماضي، حين بدأت تنهار قوانين الفصل العنصري تباعاً، إثر تراكم نتائج النضال الطويل والمرير للأفارقة الأميركيّين.
كان الإعدام الغوغائي، أو الإعدام من دون محاكمة، أكبر تعبير عن منهجيّة التمييز العنصري السائدة آنذاك، فما بين عامي 1950-1877 طال الإعدام الغوغائي 4000 إنسان أسود البشرة، أي بمعدّل شخص واحد كلّ أسبوع في مجمل البلاد. لم يكن منفّذو الإعدامات الغوغائيّة محميّين من الملاحقة القضائيّة فحسب، بل كانت النسبة الأكبر منهم من رجال الشرطة والقضاة. كان من الطبيعي قتل رجل أسود، لأنه لم يخاطب شرطيّاً بكلمة سيّدي، كما كان من الطبيعي تنفيذ حكم الإعدام في شخص أسود، بعد محاكمة استمرّت دقيقتين ونصف فقط وبدون حق الاستئناف، ففي عام 1894 برّر أسقف المسيسبي هذه الإعدامات قائلاً: "القوانين بطيئة جدّاً والسجون مليئة"، كما تعرّضت مغنية البلوز بيلي هوليداي، للتنكيل طوال حياتها من مكتب التحقيقات الفيدرالي، وذلك لأنها استنكرت الإعدام الغوغائي بأغنية "الفاكهة الغربيّة".
أعادت حوادث القتل العنصريّة التي اجتاحت الولايات المتحدة في عام 2015 خلال فترة حكم أوّل رئيس أسود البشرة إلى الأذهان حالة العنصريّة المتجذّرة في المجتمع الأميركي. كان أبطال هذه الجرائم عناصر من الشرطة من ذوي البشرة البيضاء وضحاياها من الشباب السود، مثل مايكل براون وإريك غارنر وجون كروفورد وتامير رايس ووالتر سكوت وفريدي غراي الذين قتلوا جميعاً على أيدي عناصر بيض من الشرطة الأميركيّة، والذين لم يرَ الادعاء العام ضرورة لإحالتهم إلى القضاء. وحسب صحيفة بريطانيّة، فإنّ حالات الاعتداء هذه وصلت إلى أكثر من 500 حالة في عام 2015 وحده.
لقد بدأ السود نضالهم ضدّ التمييز العنصري بشكل سلمي لا عنفي. ومع مرور الزمن، ظهرت
حركاتٌ رأت أنّ اللاعنف لن يؤدي إلى نتيجة في مواجهة حركة الكو كلوكس كلان، وفي مواجهة نظام كامل قائم على العنف العنصري. لذلك، كان من الطبيعي أن ينتقل استخدام السلاح إلى صفوف أبناء الضفّة الأخرى من المعادلة.
لم تكن حالات القتل الجماعي المرتكبة في إل باسو وفي دايتون الأولى، ولن تكون الأخيرة، فالعقليّة العنصريّة القائمة على فكرة تميّز بعض السكّان، بسبب لون بشرتهم، ما زالت متجذّرة في مجتمع السكّان البيض بشكل أو بآخر، وقد أثبتت الانتخابات الأميركّية في عام 2016 أنّ الناخب الأبيض من فئة الذكور كان أكبر المصوّتين لصالح الرئيس الحالي ترامب، كما إنّ الخطاب الشعبوي العنصري الذي يستخدمه هذا الرئيس يغذّي هذه الأفكار، ويعود بها إلى الواجهة، حيث سادت الكراهية العنصريّة تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها، وهو بالمناسبة ليس الرئيس الوحيد الذي يمكن تصنيفه متحيّزا عنصريّاً، بل يمكن بكلّ ثقة أن تصنّف رؤساء أميركييّن كثيرين وقفوا بكلّ قوّة ضدّ حركة الحقوق المدنيّة وحركة التحرّر التي قادها الأميركيّون السود لإلغاء التمييز العنصري ضدّهم، ولعلّ كينيدي وجونسون وريغان من أشهرهم. الفارق الوحيد اليوم أنّ وسائل الإعلام التقليديّة لم تعد قادرة على احتكار توجيه الرأي العام وتسليط الضوء على ما تريد، وحجبه عمّا لا تريد. لقد بات دور الوسائل البديلة المتمثّلة بوسائط التواصل الاجتماعي كبيراً إلى درجة عرّت الجميع، وأظهرتهم كما هم بدون رتوش الإعلام التقليدي التجميليّة.
لا تندرج تحت هذا الإطار حوادث القتل الفرديّة باستخدام الأسلحة الناريّة طبعاً، التي بلغت عام 2013 وحده 33636 حالة وفاة بطلق ناريّ، أي بنسبة 10.6 لكلّ مائة ألف مواطن أميركي، ومن ضمن الـ 2596993 حالة وفاة في أميركا في ذلك العام كانت نسبة المقتولين بالأسلحة الناريّة 1.3% من المجموع العام.
لا يكاد يهدأ النقاش حول موضوع حظر امتلاك الأسلحة أو على الأقلّ تقييده في أميركا، حتى يشتعل بعد كلّ جريمة مروّعة من هذا القبيل. تعود الصعوبة في حسم هذا الجدل إلى عوامل كثيرة، ليس أقلّها شأناً مصالح شركات السلاح. ويقف التعديل الثاني من الدستور الأميركي حائلاً كبيراً أمام جهود الأفراد والهيئات الساعية إلى الحدّ من انتشار السلاح في أميركا. ينصّ هذا التعديل الذي تمّ إقراره عام 1791 على: "وجود مليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أيّة ولاية حرّة، لا يجوز التعرّض لحق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها". ولمعرفة مدى تمسّك الأميركيين بحقّهم في حمل السلاح، لا بدّ من فهم السياق العام الذي نشأت فيه أميركا ذاتها، والقيم التي رافقت هذا النشوء، منذ وصول المستعمرين الأوروبيّين الأوائل إلى هذه القارّة الجديدة.
قامت حملات كريستوفر كولومبس الاستكشافيّة على فكرة الوصول إلى الهند والصين، عبر
ترافقت حملات كولومبوس الاستكشافيّة مع مجازر رهيبة ارتكبها بحقّ سكّان البلاد الأصليين، ولم يكن هذا الأمر بعيداً عن فكرة تفوّق الإنسان الأوروبي على أسس عرقيّة ودينيّة، وحتى مذهبيّة، وهذا ما وجدنا صدى له في أفكار شخصيّات أميركيّة كثيرة، ولعلّ أشهرها الرئيسان جورج بوش الابن ودونالد ترامب. لقد ترافقت نشأة الولايات المتحدة الأميركية مع تصاعد قيم النزعة الفرديّة، فكان المستكشفون الأوائل من الأشخاص الحالمين المغامرين الذين لا يعرفون المستحيل. ولكنّ قيم الحريّة التي كانوا يعتنقونها لم تكن مطلقة، فهي حريّة الأوروبي فقط وحريّته بأن يفعل ما يشاء، حتى لو عن طريق استعباد السكان الأصليين والأفارقة وغيرهم، أو عن طريق تدمير البيئة وهدم الحضارات للوصول إلى الذهب والثروة.
كان لطبيعة نشوء المستعمرات الأوروبيّة في القارّة الجديدة، وللحروب التي خاضتها القوى الاستعماريّة مع السكان الأصليّين من جهة، ومع بعضها بعضا من جهة ثانية، ولحرب الاستقلال التي خاضتها الولايات ضدّ الإنكليز، ثم الحرب الأهليّة الأميركيّة، الأثر الأكبر في تشكّل فكرة اقتناء السلاح وحمله وتطورها. في المقابل، كانت تتحوّل فكرة تفوّق الإنسان الأوروبي أو العرق الأبيض، حسب تطور الأوضاع عموماً، لكنّها بقيت سائدة وبقوّة حتى سبعينيّات القرن الماضي، حين بدأت تنهار قوانين الفصل العنصري تباعاً، إثر تراكم نتائج النضال الطويل والمرير للأفارقة الأميركيّين.
كان الإعدام الغوغائي، أو الإعدام من دون محاكمة، أكبر تعبير عن منهجيّة التمييز العنصري السائدة آنذاك، فما بين عامي 1950-1877 طال الإعدام الغوغائي 4000 إنسان أسود البشرة، أي بمعدّل شخص واحد كلّ أسبوع في مجمل البلاد. لم يكن منفّذو الإعدامات الغوغائيّة محميّين من الملاحقة القضائيّة فحسب، بل كانت النسبة الأكبر منهم من رجال الشرطة والقضاة. كان من الطبيعي قتل رجل أسود، لأنه لم يخاطب شرطيّاً بكلمة سيّدي، كما كان من الطبيعي تنفيذ حكم الإعدام في شخص أسود، بعد محاكمة استمرّت دقيقتين ونصف فقط وبدون حق الاستئناف، ففي عام 1894 برّر أسقف المسيسبي هذه الإعدامات قائلاً: "القوانين بطيئة جدّاً والسجون مليئة"، كما تعرّضت مغنية البلوز بيلي هوليداي، للتنكيل طوال حياتها من مكتب التحقيقات الفيدرالي، وذلك لأنها استنكرت الإعدام الغوغائي بأغنية "الفاكهة الغربيّة".
أعادت حوادث القتل العنصريّة التي اجتاحت الولايات المتحدة في عام 2015 خلال فترة حكم أوّل رئيس أسود البشرة إلى الأذهان حالة العنصريّة المتجذّرة في المجتمع الأميركي. كان أبطال هذه الجرائم عناصر من الشرطة من ذوي البشرة البيضاء وضحاياها من الشباب السود، مثل مايكل براون وإريك غارنر وجون كروفورد وتامير رايس ووالتر سكوت وفريدي غراي الذين قتلوا جميعاً على أيدي عناصر بيض من الشرطة الأميركيّة، والذين لم يرَ الادعاء العام ضرورة لإحالتهم إلى القضاء. وحسب صحيفة بريطانيّة، فإنّ حالات الاعتداء هذه وصلت إلى أكثر من 500 حالة في عام 2015 وحده.
لقد بدأ السود نضالهم ضدّ التمييز العنصري بشكل سلمي لا عنفي. ومع مرور الزمن، ظهرت
لم تكن حالات القتل الجماعي المرتكبة في إل باسو وفي دايتون الأولى، ولن تكون الأخيرة، فالعقليّة العنصريّة القائمة على فكرة تميّز بعض السكّان، بسبب لون بشرتهم، ما زالت متجذّرة في مجتمع السكّان البيض بشكل أو بآخر، وقد أثبتت الانتخابات الأميركّية في عام 2016 أنّ الناخب الأبيض من فئة الذكور كان أكبر المصوّتين لصالح الرئيس الحالي ترامب، كما إنّ الخطاب الشعبوي العنصري الذي يستخدمه هذا الرئيس يغذّي هذه الأفكار، ويعود بها إلى الواجهة، حيث سادت الكراهية العنصريّة تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها، وهو بالمناسبة ليس الرئيس الوحيد الذي يمكن تصنيفه متحيّزا عنصريّاً، بل يمكن بكلّ ثقة أن تصنّف رؤساء أميركييّن كثيرين وقفوا بكلّ قوّة ضدّ حركة الحقوق المدنيّة وحركة التحرّر التي قادها الأميركيّون السود لإلغاء التمييز العنصري ضدّهم، ولعلّ كينيدي وجونسون وريغان من أشهرهم. الفارق الوحيد اليوم أنّ وسائل الإعلام التقليديّة لم تعد قادرة على احتكار توجيه الرأي العام وتسليط الضوء على ما تريد، وحجبه عمّا لا تريد. لقد بات دور الوسائل البديلة المتمثّلة بوسائط التواصل الاجتماعي كبيراً إلى درجة عرّت الجميع، وأظهرتهم كما هم بدون رتوش الإعلام التقليدي التجميليّة.
حسان الأسود
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
حسان الأسود
مقالات أخرى
13 أكتوبر 2024
13 سبتمبر 2024
23 اغسطس 2024