13 نوفمبر 2024
كورونا والاستثناء الألماني
مهما حاول المرء أن يتجنّب الحديث في موضوع الاستثناءات، إلا أنه لن يستطع ان ينفي وجودها مهما فعل، خصوصا إذا صادفك النموذج الألماني، الذي قدّم، في مواجهة تفشّي وباء كورونا، مثالا آخر على قدراته الاستثنائية في إدارة الأزمات بكفاءة، غبطته عليها أكثر الدول تقدّما. ومع أنها جاءت متأخرة بين المحطات الأوروبية التي حل بها الوباء، كانت ألمانيا من أوائل الدول التي تعلن السيطرة عليه، وبأقل عدد وفيات مقارنة بغيرها. إذ لم تتجاوز نسبة الوفيات 3% بين المصابين، مقارنة بـ 13% في كل من بريطانيا وإيطاليا، و12% في فرنسا و10% في إسبانيا، ونحو 6% في الولايات المتحدة.
هناك أسباب عديدة مكّنت ألمانيا من التفوق في التعامل مع الجائحة، أهمها الاستعداد المبكّر لمواجهتها، فيما كان الآخرون يضعون رؤوسهم في الرمال أملا في تجنّبها، واهتمامها كذلك ببناء نظام صحي متطور مقارنة بجاراتها الأوروبيات. وفي الوقت الذي تقلصت فيه ميزانيات القطاع الصحي في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا خلال العقدين الماضيين، ظلت ألمانيا تخصص أكثر من 10% من ناتجها الإجمالي القومي للقطاع الصحي (نحو 400 مليار يورو) في مقابل 1,4% فقط على الدفاع والتسليح. وبمقارنة بسيطة في عدد وحدات العناية المركّزة (السلاح الأهم في محاربة كورونا) يتضح حجم الفجوة التي تفصل ألمانيا عن نظيراتها الأوروبيات، إذ تملك ألمانيا 29,2 وحدة لكل مائة ألف من السكان مقارنة ببريطانيا (6,6) وفرنسا (9,7) وإيطاليا (12,5). وعلى مستوى أسرّة المستشفيات تملك ألمانيا ثمانية أسرّة لكل ألف من السكان، في حين تملك بريطانيا 2,3 وإيطاليا وإسبانيا 2,9 وفرنسا ستة أسرّة لكل ألف من السكان.
ليس أن ألمانيا تملك أفضل قطاع صحي في أوروبا فحسب، بل كانت إدارتها الأزمة ملفتة أيضا، فالتناغم بين الحكومة الاتحادية التي تقودها المستشارة أنجيلا ميركل وحكام الولايات بدا في أفضل حالاته. ومقارنةً بالصراع والانقسام والاستقطاب وغلبة المصالح الحزبية في الولايات المتحدة مثلا، لم نسمع في ألمانيا تجاذباتٍ أو خلافات كالتي ميّزت علاقة الرئيس ترامب والحكومة الفيدرالية بحكام الولايات، بل ارتصف الجميع وراء ميركل لمواجهة الأزمة. وانعكس الانضباط الحكومي على المستوى الشعبي أيضا، حيث التزم الناس طواعية بإجراءات السلامة من التباعد الاجتماعي إلى الإغلاق إلى الالتزام بالمنازل، ما يعكس ثقة مطلقة بقدرة الحكومة على إدارة الأزمة وتحقيق الصالح العام. وقد أدى ذلك إلى انخفاض معدّلات العدوى إلى نحو 0.7 لكل شخص في مقابل 3-4 أشخاص في بقية الدول الأوروبية.
فوق ذلك، كانت ألمانيا من الدول القلائل في العالم الرأسمالي التي حققت توازنا بين الحاجة إلى المنافسة وتوطين الصناعة. قلة هي الشركات الألمانية التي هاجرت إلى الصين وغيرها من دول العالم الثالث في العقود الثلاثة الماضية، بحثا عن اليد العاملة الرخيصة لتقليص التكاليف والاستمرار في المنافسة. عندما حلّت الأزمة، كانت ألمانيا وحدها من بين دول الغرب الصناعي القادرة على تصنيع كل المستلزمات الضرورية لمواجهة الوباء من أجهزة التنفس الصناعي إلى الكمّامات وغيرها، وبالتالي لم تجد نفسها رهينة للخارج كما الآخرين.
لهذه الأسباب، تمكّنت ألمانيا من السيطرة على تفشّي الوباء، وتتجه الآن إلى استعادة نشاطها الاقتصادي، قبل أيٍّ من نظيراتها الأوروبيات. هذا لا ينفي طبعا أن ألمانيا سوف تواجه مثل غيرها تحدّياتٍ اقتصاديةً كبيرة مثل ارتفاع مستوى البطالة، وانكماش الناتج المحلي، وانخفاض الناتج الصناعي، فألمانيا دولة صناعية كبيرة تعتمد بشدة على التصدير، وهي تأتي فقط بعد الصين في حجم الصادرات التي بلغت عام 2019 نحو 1,6 تريليون، أي 37% من الناتج الإجمالي القومي. ولكن ألمانيا سوف تتمكّن، على الأرجح، من التغلب على هذه المعضلة أيضا، بسبب السياسات الاقتصادية - الاجتماعية لدولة الرفاه التي تملكها. في ذكرى مرور 70 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية عام 2015، عبّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، بمرارة عن حقيقة الاستثناء الألماني بقوله: "بعد سبعة عقود من هزيمتهم أمام الحلفاء وفشلهم في الهيمنة على أوروبا، ها هم المنتصرون يستجدون المهزوم لقيادتهم نحو المستقبل".
ليس أن ألمانيا تملك أفضل قطاع صحي في أوروبا فحسب، بل كانت إدارتها الأزمة ملفتة أيضا، فالتناغم بين الحكومة الاتحادية التي تقودها المستشارة أنجيلا ميركل وحكام الولايات بدا في أفضل حالاته. ومقارنةً بالصراع والانقسام والاستقطاب وغلبة المصالح الحزبية في الولايات المتحدة مثلا، لم نسمع في ألمانيا تجاذباتٍ أو خلافات كالتي ميّزت علاقة الرئيس ترامب والحكومة الفيدرالية بحكام الولايات، بل ارتصف الجميع وراء ميركل لمواجهة الأزمة. وانعكس الانضباط الحكومي على المستوى الشعبي أيضا، حيث التزم الناس طواعية بإجراءات السلامة من التباعد الاجتماعي إلى الإغلاق إلى الالتزام بالمنازل، ما يعكس ثقة مطلقة بقدرة الحكومة على إدارة الأزمة وتحقيق الصالح العام. وقد أدى ذلك إلى انخفاض معدّلات العدوى إلى نحو 0.7 لكل شخص في مقابل 3-4 أشخاص في بقية الدول الأوروبية.
فوق ذلك، كانت ألمانيا من الدول القلائل في العالم الرأسمالي التي حققت توازنا بين الحاجة إلى المنافسة وتوطين الصناعة. قلة هي الشركات الألمانية التي هاجرت إلى الصين وغيرها من دول العالم الثالث في العقود الثلاثة الماضية، بحثا عن اليد العاملة الرخيصة لتقليص التكاليف والاستمرار في المنافسة. عندما حلّت الأزمة، كانت ألمانيا وحدها من بين دول الغرب الصناعي القادرة على تصنيع كل المستلزمات الضرورية لمواجهة الوباء من أجهزة التنفس الصناعي إلى الكمّامات وغيرها، وبالتالي لم تجد نفسها رهينة للخارج كما الآخرين.
لهذه الأسباب، تمكّنت ألمانيا من السيطرة على تفشّي الوباء، وتتجه الآن إلى استعادة نشاطها الاقتصادي، قبل أيٍّ من نظيراتها الأوروبيات. هذا لا ينفي طبعا أن ألمانيا سوف تواجه مثل غيرها تحدّياتٍ اقتصاديةً كبيرة مثل ارتفاع مستوى البطالة، وانكماش الناتج المحلي، وانخفاض الناتج الصناعي، فألمانيا دولة صناعية كبيرة تعتمد بشدة على التصدير، وهي تأتي فقط بعد الصين في حجم الصادرات التي بلغت عام 2019 نحو 1,6 تريليون، أي 37% من الناتج الإجمالي القومي. ولكن ألمانيا سوف تتمكّن، على الأرجح، من التغلب على هذه المعضلة أيضا، بسبب السياسات الاقتصادية - الاجتماعية لدولة الرفاه التي تملكها. في ذكرى مرور 70 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية عام 2015، عبّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، بمرارة عن حقيقة الاستثناء الألماني بقوله: "بعد سبعة عقود من هزيمتهم أمام الحلفاء وفشلهم في الهيمنة على أوروبا، ها هم المنتصرون يستجدون المهزوم لقيادتهم نحو المستقبل".