11 نوفمبر 2024
الدراما الرمضانية التونسية .. أسئلة السياسة والتاريخ
كادت الدراما الرمضانية في تونس أن تصبح من "طقوس" رمضان، شأن غيرها في دول عربية أخرى، ينتظرها جمهور واسع، ويستعدّ "لرؤيتها" وفق شعائر دقيقة: رصدها مسبقاً من خلال حيل التسريبات والإعلان عنها مسبقاً، خلق الحاجة إليها وانتظارها، متابعتها وفق أجندة دقيقة تعيد إنتاج الجدل حولها حتى تغدو حديث/ موضوع الرأي العام لاحقاً... وتختم تلك الأعمال بتكريم أبطالها والاحتفاء بهم مع العيد.
بعد تبعية طالت عقوداً لدراما رمضانية عربية مصرية، ثم سورية، "استقلّت" البلاد بإنتاجها الدرامي، حتى مثّل ذلك حلقة في تونسة متأخرة، ولكنها لا تقلّ رمزيةً عن بقية التوْنسات الأخرى عند بعضهم: تونسة الأمن، تونسة التعليم.. إلخ. عدّ هذا الانسلاخ عن الفضاء الدرامي المصري تحديداً مهماً لدى بعضهم، حيث غدا المجتمع التونسي، بقضاياه الحقيقية أو المتخيلة، وحتى المتوهمة، موضوعاً للدراما الرمضانية. يشاهد المجتمع ذاته بعيونه المفتحة أحياناً، والنائمة أو المنوّمة أحياناً أخرى، على قضاياه وصوره: تتسلط عيون المخرجين التونسيين، من خلال كاميراتهم على ذاكرة البلاد وتحوّلاتها ومآلاتها اللاحقة.
وإذا كانت أولى تجارب الإنتاج الدرامي تعود إلى الستينيات، حينما كانت النخبة الوطنية تبني الدولة، فإن الأمر ظل رمزياً في ظل ندرة الأعمال التي تم إنتاجها، فضلاً عن الصبغة التعليمية التي كانت خلفها. كان إنتاج بعض الأعمال (أطلق عليها التونسيون آنذاك في اللهجة المحلية
"رواية") منخرطاً في أساليب النظام السياسي وطرائقه، فقد كان الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، يسعى إلى تمرير مكاسب كان يفاخر بها: تحرير المرأة، التنظيم العائلي، حق الإجهاض، مكافحة الأمية. كان "محل شاهد" أول تلك الأعمال، وهو "سيتكوم" سابق لأوانه.. إلخ. يقدّم فيه زوجان نقاشاً يدور حول فنون إعادة تقسيم الأدوار العائلية، وفق رؤية تستبطن توجهات بورقيبة وخيارات الدولة آنذاك. غير أن بداية الإنتاج الحقيقي كانت مع بداية التسعينيات، في تزامن مع قدوم الرئيس السابق بن علي. كانت الدراما أحد رهاناته من أجل إيجاد "مشروعية ثقافية" ما لدى أوسع فئات اجتماعية تتابع المسلسلات الرمضانية، وهي المنحدرة من أوساط اجتماعية متوسطة الدخل والتعليم. اندرج ذلك ضمن انفتاح على أجناس موسيقية وثقافية كان بورقيبة يعتبرها فناً وضيعاً: الموسيقى الشعبية التي تستعمل آلة المزود وغيرها. تم إنتاج النوبة (يعرض حالياً مسلسل يحمل هذا الاسم)، والحضرة، وهي جنس من الموسيقى الروحانية التي تنشر في أوساط شعبية تحتفي بالأولياء الصالجين.
منذ تلك الفترة، تراكمت أعمال درامية بادر بإنتاجها القطاع العام (التلفزة التونسية)، قبل أن تتم خصخصة ذلك لاحقاً في سياقاتٍ ما زالت تُثير أسئلة عديدة، لها علاقة بشبهات فساد. هجر الناس تدريجياً خلال رمضان القنوات العربية، وما تعرض من أعمال، لكي يُقبلوا بنسب متفاوتة على "دراماتهم" التونسية التي اشتغلت على تيماتٍ عديدة، وبأساليب فنية مختلفة، فتمكنت من تشكيل عوالم عديدة: تقابل فيها الريف والمدينة، الخير والشر، الجشع والزهد، النبل والوضاعة. تحرّكت هذه القيم في نسيج مكثف محكم من أحداثٍ تحبكها الدراما ضمن وقائع وشخوص وإرادات ورهانات جسّدها ممثلون، شدّوا الناس بدرجاتٍ متفاوتةٍ إلى الشاشة الصغيرة. كانت هذه التوجهات تسطر بحثاً عن مشروعيةٍ ثقافيةٍ تبحث عن قبول أدبي للنظام الجديد.
بعد الثورة، استفاد هذا القطاع من مناخ الحرية، وراهنت عليه شركات الإنتاج الخاص التي على
الرغم من ضيق السوق الوطنية، جازفت وصارعت درامات أخرى، تدبلجت وخلقت ذائقة فنية ما (الدراما التركية...)، فقد الحقل الدرامي قواعد لعبه، وتحللت المقاييس التي قد تكون تحكّمت فيها، حتى إن بعضهم يتحدّث عن فوضى عارمة، لم تخلُ من اتهاماتٍ بتجيير المنتحلين (ممثلين ومخرجين ومنتجين...)، وترسيخ صورةٍ لا صلة لها بأشواق التونسيين وتطلعاتهم في مرحلةٍ مفصليةٍ من تاريخ بلادهم، إذ ظلت معظم هذه الأعمال مشدودةً إلى تيمات قديمة دعمتها، بل أملتها لوبيات مالية وثقافية فرنكفونية.
قد لا يعكس الإنتاج الدرامي المجتمع التونسي، وهذا ليس مطلوباً منه تحديداً. ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن للدراما الرمضانية تحديداً صلاتٌ ظاهرة، وأخرى خفية، مع هذا الواقع الذي يبنيه الناس أكثر من وجوده الموضوعي. تعالت في السنوات الأخيرة أصواتٌ ليست دوماً "محافظة" تثير "موجة الهتك" التي تسلّطها بعض الأعمال الدرامية على المنظومة القيمية، حين يتم الاحتفاء بالعنف وازدراء المرأة، علاوة على انتهاكاتٍ لحقوق بعض الفئات الاجتماعية، على غرار الأطفال والمعينات المنزليات والمهاجرين. يستدلّ بعضهم في مجرى ذلك بالمواقف الصادرة عن بعض الجمعيات النسوية، أو الهيئات التعديلية التي استهجنت بعض الأعمال، إذ ظلت مواضيع الإنتاج الدرامي، في مجملها، بعيدة عن اهتمامات التونسيين، سجينة دوائر ضيقة تحتفي بشخصياتٍ مرضيةٍ عدوانيةٍ، عبثية وسادية في أحوال كثيرة، حتى عبّرت جمعيات وأصوات عديدة عن خشيتها من أن يكون لهذا أثر في ارتفاع نسب الانحراف والجريمة. ربما لا تثبت النظريات العلمية الحديثة وجود علاقة سببية بين هذين المتغيرين، ولكن هذا يُنتج مزاجاً من التطبيع الهادئ مع العنف والعدوانية.
واحتدم الجدل خلال رمضان هذا العام حول عملين: "قلب الذيب" الذي يثير قضية الكفاح
المسلح، حيث بدا مسلسلاً يعتمد تاريخ الحركة الوطنية (المقاومة المسلحة)، ليقدم رواية سوريالية عن رفاق السلاح ومصالحات مبكرة مع المستعمر وخيانات المقاومين بعضهم بعضاً التي تصل إلى هتك الشرف. ومسلسل "النوبة" الذي يتناول جنساً موسيقياً شعبياً عرف ذروته خلال التسعينيات، بعد أن ناهضه الرئيس بورقيبة، وضيّق عليه، لينتشر لاحقاً مع قدوم بن علي، حيث سيغدو فناً معترفاً به "رفيعاً"، بعد أن كان وضيعاً كما أشرنا سابقاً. يشير المسلسل، من حين إلى آخر، إلى محنة الإسلاميين بكثير من الموضوعية والحسّ المرهف. وقد أخرج العمل عبد الحميد بوشناق (نجل الفنان لطفي بوشناق).
وبقطع النظر عن دقة هذه التحفظات، ومدى صواب الأطروحة التي ترى في الدراما مرآة عاكسة للواقع والتاريخ، فقد تمكّن الإنتاج، على اختلاف مشاربه ومدارسه الجمالية والفنية، من أن ينتج نجوماً وأسماء، ويطرح على النخب قضايا عديدة، على غرار علاقة الإنتاج الدرامي بالذاكرة، التاريخ تحديداً، والقيم والسياسة.
وإذا كانت أولى تجارب الإنتاج الدرامي تعود إلى الستينيات، حينما كانت النخبة الوطنية تبني الدولة، فإن الأمر ظل رمزياً في ظل ندرة الأعمال التي تم إنتاجها، فضلاً عن الصبغة التعليمية التي كانت خلفها. كان إنتاج بعض الأعمال (أطلق عليها التونسيون آنذاك في اللهجة المحلية
منذ تلك الفترة، تراكمت أعمال درامية بادر بإنتاجها القطاع العام (التلفزة التونسية)، قبل أن تتم خصخصة ذلك لاحقاً في سياقاتٍ ما زالت تُثير أسئلة عديدة، لها علاقة بشبهات فساد. هجر الناس تدريجياً خلال رمضان القنوات العربية، وما تعرض من أعمال، لكي يُقبلوا بنسب متفاوتة على "دراماتهم" التونسية التي اشتغلت على تيماتٍ عديدة، وبأساليب فنية مختلفة، فتمكنت من تشكيل عوالم عديدة: تقابل فيها الريف والمدينة، الخير والشر، الجشع والزهد، النبل والوضاعة. تحرّكت هذه القيم في نسيج مكثف محكم من أحداثٍ تحبكها الدراما ضمن وقائع وشخوص وإرادات ورهانات جسّدها ممثلون، شدّوا الناس بدرجاتٍ متفاوتةٍ إلى الشاشة الصغيرة. كانت هذه التوجهات تسطر بحثاً عن مشروعيةٍ ثقافيةٍ تبحث عن قبول أدبي للنظام الجديد.
بعد الثورة، استفاد هذا القطاع من مناخ الحرية، وراهنت عليه شركات الإنتاج الخاص التي على
قد لا يعكس الإنتاج الدرامي المجتمع التونسي، وهذا ليس مطلوباً منه تحديداً. ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن للدراما الرمضانية تحديداً صلاتٌ ظاهرة، وأخرى خفية، مع هذا الواقع الذي يبنيه الناس أكثر من وجوده الموضوعي. تعالت في السنوات الأخيرة أصواتٌ ليست دوماً "محافظة" تثير "موجة الهتك" التي تسلّطها بعض الأعمال الدرامية على المنظومة القيمية، حين يتم الاحتفاء بالعنف وازدراء المرأة، علاوة على انتهاكاتٍ لحقوق بعض الفئات الاجتماعية، على غرار الأطفال والمعينات المنزليات والمهاجرين. يستدلّ بعضهم في مجرى ذلك بالمواقف الصادرة عن بعض الجمعيات النسوية، أو الهيئات التعديلية التي استهجنت بعض الأعمال، إذ ظلت مواضيع الإنتاج الدرامي، في مجملها، بعيدة عن اهتمامات التونسيين، سجينة دوائر ضيقة تحتفي بشخصياتٍ مرضيةٍ عدوانيةٍ، عبثية وسادية في أحوال كثيرة، حتى عبّرت جمعيات وأصوات عديدة عن خشيتها من أن يكون لهذا أثر في ارتفاع نسب الانحراف والجريمة. ربما لا تثبت النظريات العلمية الحديثة وجود علاقة سببية بين هذين المتغيرين، ولكن هذا يُنتج مزاجاً من التطبيع الهادئ مع العنف والعدوانية.
واحتدم الجدل خلال رمضان هذا العام حول عملين: "قلب الذيب" الذي يثير قضية الكفاح
وبقطع النظر عن دقة هذه التحفظات، ومدى صواب الأطروحة التي ترى في الدراما مرآة عاكسة للواقع والتاريخ، فقد تمكّن الإنتاج، على اختلاف مشاربه ومدارسه الجمالية والفنية، من أن ينتج نجوماً وأسماء، ويطرح على النخب قضايا عديدة، على غرار علاقة الإنتاج الدرامي بالذاكرة، التاريخ تحديداً، والقيم والسياسة.