01 نوفمبر 2024
الظاهرتان الدينية والاستبدادية
درس بليغ يؤديه إلينا في كتابه الضافي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" عن العلاقة بين الظاهرتين، الدينية والاستبدادية؛ عندما يطل علينا عبد الرحمن الكواكبي ببصيرة حادّة واعية تشكل نموذجا بحق في التعامل المنهجي مع ظواهر اجتماعية وسياسية وإنسانية، وتحدّد مقدمات منهج نظر بصير وعميق للظاهرة الاستبدادية الممتدة جذورا والضاربة بأطنابها في كل جنبات الاجتماعي والسياسي والثقافي والقيمي والديني والاقتصادي في تفسير شبكي للظاهرة الاستبدادية لا يتوقف عند حدودها الظاهرة، بل يغوص في أعماقها الكامنة، لا يقف عند الأعراض البادية. ولكنه يقف على الأسباب والعوامل الكامنة المسبّبة للأمراض؛ وربما وهو يعرف أن تلك العلاقة ليست فقط خفية، إلا أنها كذلك شائكة ومعقدة، لا تقبل الاختزال أو محاولات الافتعال أو أحوال الإغفال والقصور والإهمال، ولا يمكن التعامل والتعاطي مع هذه الظاهرة، بقدرٍ تغلب عليه العاطفة والوجدان المفضي إلى أشكال من الانفعال. ومن هنا كان منهج النظر الكلي والمتكامل والشبكي والمتراكم هو أسلم المسالك التي تجعل الباحث عالما عارفا، والسالك لدراسة مثل تلك العلاقات المحيطة بسياقات الظاهرة الاستبدادية أكتر يقينا وثقة واطمئنانا.
يؤكد الكواكبي مرشدا إلى البحث المتأني لتقصي حال هذه العلاقة إلى تبصّر الأمر بدراسة تاريخ الأديان، إذ "تضافرت آراء أكثر العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني، بعضهم يقول إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان؛ أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة، أو هما صنوان قويّان؛ بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنَّهما حاكمان؛ أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب"، فالبحث في الظاهرة الدينية يتطلب دراسة تاريخ الحضارات والأديان بما تشكله من ذاكرة للظاهرة: "..الفريقان مصيبان بحكمهما بالنّظر إلى مغزى أساطير الأوّلين، والقسم التّاريخي من التّوراة، والرّسائل المضافة إلى الإنجيل. ومخطئون في حقّ الأقسام التّعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم
مخطئون إذا نظروا إلى أنَّ القرآن جاء مؤيّداً للاستبداد السّياسي. وليس من العذر شيء أنْ يقولوا: نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طيِّ بلاغته، ووراء العلم بأسباب نزول آياته؛ وإنَّما نبني نتيجتنا على مقدِّمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مُستبدِّيهم بالدِّين"، فالتحذير المنهجي في دراسة الظاهرة الدينية وترتيب الأحكام والمواقف على قاعدة منها يميز بين التعاطي مع الجانب النظري ومصادرها المرجعية وبين الممارسات والخبرات التي تتوقف عند سلوكيات من يتبعون الأديان ويعتنقونها، فيصطنع هؤلاء من خلال ظلمهم وهؤلاء من خلال قابلياتهم فهما خاصا وتأويلا موافقا لسياسات الظلم والطغيان فتوطن لطبائع الاستبداد وتورث عموم الناس مصارع الاستعباد. ويصف الكواكبي حال التعاطي مع الاستبداد بالدين من خلال خطاب وممارسات لتكون عونا للمستبد؛ "يقول هؤلاء المحرِّرون: إنَّ التَّعاليم الدّينية، ومنها الكتب السَّماويّة تدعو البشر إلى خشية قوّة عظيمة لا تُدرك العقول كُنْهَها، قوّة تتهدَّد الإنسان بكلّ مصيبة في الحياة فقط، كما عند البوذية واليهودية، أو في الحياة وبعد الممات، كما عند النّصارى والإسلام، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى، وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول، ثمَّ تفتح هذه التَّعاليم أبواباً للنّجاة من تلك المخاوف نجاة وراءها نعيم مقيم، ولكنْ؛ على تلك الأبواب حجّاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للنّاس بالدّخول ما لم يعظِّموهم مع التّذلّلِ والصّغار... وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهِّبون النّاس من غضب الله وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم". إن أداء الخطاب الديني الذي يعبر عن فهم معين للتعاليم الدينية وما يتركه هذا الخطاب من آثار سلبية وممارسات سلوكية تحاول أن تجعل من الأديان ترهيبا وتهديدا، والأمر على غير ذلك، ويجعلون من الدين استبدادا، عن طريق الحجاب والكهنة والقسس؛ فيجعلون للدين وسائط وحُجاب، يقفون على أبوابها يُرهّبون عموم الناس ويُستأذَنُون. وإذا كان هذا ممن ينصبون أنفسهم حراس بوابات الدين والتدين فيمارسون استبدادا دينيا؛ فإن هذا أيضا شأن السّياسيين "يبنون.. استبدادهم على أساسٍ من هذا القبيل، فهم يسترهبون النّاس بالتّعالي الشّخصي والتّشامخ الحسّي، ويُذلِّلونهم بالقهر والقوّة وسلبِ الأموال حتَّى يجعلوهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم، يتمتَّعون بهم كأنَّهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها، ويأكلون لحومها، ويركبون ظهورها، وبها يتفاخرون.. ويرون أنَّ هذا التَّشاكل في بناء ونتائج الاستبدادَيْن؛ الدِّيني والسّياسي...ويقررون أنَّ هذا التَّشاكل بين القوّتَيْن ينجرُّ بعوام البشر، وهم السواد الأعظم، إلى نقطة أنْ يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التَّشابه في استحقاق مزيد التَّعظيم، والرِّفعة عن السّؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال؛ بناءً عليه؛ لا يرون لأنفسهم حقّاً في مراقبة المستبدّ لانتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم...بناءً عليه؛ يُعظِّمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويزيدون تعظيمهم على التَّعظيم لله؛ لأنَّه حليمٌ كريم، ولأنَّ عذابه آجلٌ غائبٌ، وأمَّا انتقام الجبَّار فعاجلٌ حاضر.." وهذا تفسير عميق لحال الفرعونية السياسية التي تحتكر الرشاد وتدعي حال أقرب إلى التأله والتقديس؛ "..وهذه الحال؛ هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة دعوى بعض المستبدِّين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرَّعية، حتَّى يُقال: إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية يقاوم بعضها بعضاً، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ".
سلطة المستبد تلتمس كل طريق ليكون لها ظهير ديني ممن احترفوا أن يكونوا ضمن جوقة
"علماء السلطان"، فيتبنّى هؤلاء أفعالها ويبررون بطشها وعنفوانها فيكونون عونا وسندا للمستبد في ظلمه وطغيانه؛ فيقدم هؤلاء طبعة خاصة من الدين والتدين ليكون ذلك كله ضمن خطة تطويعهم لمصلحة المستبد؛ ومن ثم فلا عجب أن تجد ظهيرا دينيا للمستبد واستبداده يمنع الدعاء على الظالمين ويسوغ غلاء الأسعار وعملية إفقار عموم الناس وتجويعهم؛ ويمهدون لهم حياة الذل والاستعباد ويجعلونها قدرا مقدورا أو ابتلاء مزعوما، ويكون كل ممارساته من جَور أو ظلم مبررا مدعوما لم يكنْ كل ذلك. "..إلا بقصد الاستعانة بممسوخ الدِّين وببعض أهله المغفَّلين على ظلم المساكين، وأعظم ما يلائم مصلحة المستبدّ ويُؤيّدها أنَّ النّاس يتلقّون قواعده وأحكامه بإذعان بدون بحث وجدال، فيودّون تأليف الأمّة على تلقّي أوامرهم بمثل ذلك، ولهذا القصد عيْنه، كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم أو تفريعها على شيءٍ من قواعد الدِّين".
غاية الأمر "..أنَّ بين الاستبدادَيْن: السّياسيّ والدّينيّ مقارنة لا تنفكُّ متى وُجِد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه، أو متى زال، زال رفيقه.. ويقولون: إنَّ شواهد ذلك كثيرةٌ جدّاً لا يخلو منها زمانٌ ولا مكان. ويُبرهنون على أنَّ الدّين أقوى تأثيراً من السّياسة إصلاحاً وإفساداً.. وقد أجمع الكتّاب السّياسيون المُدقِّقون، بالاستناد إلى التّاريخ والاستقراء، على أنَّ ما من أمّة أو عائلة أو شخص تَنَطَّعَ في الدّين أي تشدَّد فيه إلا واختلَّ نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه؛ والحاصل أنَّ كل المدقِّقين السّياسيين يرون أنَّ السّياسة والدّين يمشيان متكاتفَيْن.."، والفطنة لهذه العلاقة بين الاستبدادين دينيا كان أو سياسيا تتم عبر تعبيد الناس للمستبدين وتبرير ظلم المتسلطين.
سلطة المستبد تلتمس كل طريق ليكون لها ظهير ديني ممن احترفوا أن يكونوا ضمن جوقة
غاية الأمر "..أنَّ بين الاستبدادَيْن: السّياسيّ والدّينيّ مقارنة لا تنفكُّ متى وُجِد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه، أو متى زال، زال رفيقه.. ويقولون: إنَّ شواهد ذلك كثيرةٌ جدّاً لا يخلو منها زمانٌ ولا مكان. ويُبرهنون على أنَّ الدّين أقوى تأثيراً من السّياسة إصلاحاً وإفساداً.. وقد أجمع الكتّاب السّياسيون المُدقِّقون، بالاستناد إلى التّاريخ والاستقراء، على أنَّ ما من أمّة أو عائلة أو شخص تَنَطَّعَ في الدّين أي تشدَّد فيه إلا واختلَّ نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه؛ والحاصل أنَّ كل المدقِّقين السّياسيين يرون أنَّ السّياسة والدّين يمشيان متكاتفَيْن.."، والفطنة لهذه العلاقة بين الاستبدادين دينيا كان أو سياسيا تتم عبر تعبيد الناس للمستبدين وتبرير ظلم المتسلطين.