لم تكن سيطرة حركة "طالبان" على الولايات الأفغانية وصولاً إلى العاصمة كابول، مجرد حدث عابر في الشارع اليمني كما هو الحال في باقي البلدان المجاورة، بل صاعقة أعادت إلى الذاكرة ملامح الاجتياح الحوثي السلس للعاصمة صنعاء والانقلاب على السلطة قبل 7 سنوات، فضلاً عن إشعال مخاوف عديدة من مصير غامض ينتظر الأزمة اليمنية، التي يتطابق الكثير من أحداثها مع ما جرى في أفغانستان.
ملامح التطابق بين اليمن وأفغانستان، لا تتوقف عند سقوط المدن أمام مليشيات دينية مسلحة تشبه بعضها في طاقة العنف العالية، أو الأفكار البدائية التي تنتظر المجتمع من جماعات ما زالت تعيش في الماضي، ولكن في حكومات هشة، تحظى بدعم خارجي لامحدود، ومن دونه لا يمكنها البقاء على قيد الحياة. وعلى الرغم من تحوّل الأحداث إلى مادة للتندر بعد نشر صور عناصر "طالبان" داخل القصر الرئاسي في كابول، بجانب صورة أحد عناصر مليشيا الحوثي داخل مكتب نائب الرئيس اليمني علي محسن الأحمر ليلة اجتياح صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، إلا أن السيناريو الذي سارت عليه الأحداث في أفغانستان، خلق مخاوف حقيقية لدى الحكومة اليمنية والموالين لها، وخصوصاً عقب الاحتفاء الحوثي اللافت.
استثمر قادة الحوثيين تجربة "طالبان" لشن حرب نفسية على "الشرعية اليمنية" والتحالف
استثمر قادة الصف الأول في جماعة الحوثيين، تجربة "طالبان" لشن حرب نفسية على "الشرعية اليمنية" والتحالف المساند لها الذي تقوده السعودية، فتحدث المتحدث باسم الجماعة، محمد عبد السلام، عن مصير مشابه، طال الزمن أو قصر، فيما أشار القيادي الحوثي حسين العزي، إلى أن ما حدث في أفغانستان "مليء بالعبر والدروس"، وحث خصومهم في الحكومة الشرعية على التزام الصمت.
عضو الوفد الحوثي المفاوض عبد الملك العجري، والذي أشار إلى أن التشفي بفشل واشنطن في أفغانستان لا يعني الاحتفاء بـ"طالبان"، كان الأكثر وضوحاً في ترجمة النموذج الطالباني إلى رسائل غير مشفرة على المشهد اليمني كما فعلت باقي القيادات. لخص العجري في حديثٍ مع "العربي الجديد" الدروس المستفادة من أحداث أفغانستان بثلاث نقاط، أولها أن "الوعود التي يطلقها المحتلون لعملائهم، مجرد أحلام ليلية"، وأن "الجيش والمؤسسات التي يبنيها المحتل هي أشكال بلا روح وأوهن من بيت العنكبوت". وفي الأخير حدد خيارين لدول التحالف السعودي "إما أن ترحل باتفاق كما فعلت أميركا في أفغانستان، أو مكسورة كما في فيتنام"، في تلويح بهزيمة التحالف.
وفي ظل استحالة الحسم العسكري وخصوصاً اجتياح مأرب، تسعى جماعة الحوثيين لمحاكاة تجربة "طالبان"، وذلك بالذهاب في مفاوضات مباشرة مع السعودية تتجاوز فيها الخصوم المحليين، وتضمن من خلالها تحييد الطيران الحربي الذي يحول دون توغلها صوب منابع النفط والغاز، شرقي اليمن.
من جهته لمح نائب وزير الخارجية في حكومة الحوثيين غير المعترف بها، حسين العزي، إلى ذلك بشكل صريح، وقال لـ"العربي الجديد": "إن صنعاء والرياض قد تتوصلان إلى اتفاق سلام وأمن وأمان وحسن جوار. وإذا قررت العاصمتان ذلك فلن يكون المرتزقة حجر عثرة لأن مصالح الشعبين الشقيقين أولى من المصالح الضيقة لهذه العناصر"، في إشارة للحكومة الشرعية.
وعلى الرغم من الغزل الواضح وإبداء الاستعداد للقيام بالدور الذي تؤديه "الشرعية"، يبدو أن جماعة الحوثيين، لم تقدّم للسعودية حتى الآن الضمانات الكافية التي تجعلها تدير ظهرها للحكومة اليمنية، حتى وإن كانت قد قلصت بشكل كبير هجماتها الجوية في العمق السعودي منذ أواخر يونيو/حزيران الماضي.
ولا تعتمد جماعة الحوثيين بشكل كبير على توافق مع السعودية، إذ تواصل انتهاج سياسة المراوغة مع المجتمع الدولي في مسألة الحل السلمي، من خلال طرح شروط تعجيزية بشكل متكرر، وآخرها ما سمته بـ"مبادرة مأرب"، والتي اشترطت فيها وقف عملياتها العدائية صوب المدينة النفطية، شرط إشراكها في إدارة كافة الشؤون الأمنية والسياسية لمأرب وتقاسم ثرواتها.
سيناريوهات غامضة
تمتلك جماعة الحوثيين عدداً من المقومات التي تجعلها قادرة على تطبيق نموذج "طالبان" في المدن اليمنية التي استعصت عليها، ابتداء من قدرتها على شق صفوف حلفاء الحكومة الشرعية عبر شراء الولاءات وتحقيق اختراقات من الداخل في بعض المناسبات، فضلاً عن تطابق شبه كلي لمعنويات القوات الأفغانية مع القوات الحكومية اليمنية المحرومة من الرواتب منذ مطلع العام الحالي.
وخلافاً لغياب القائد الملهم على الأرض وكذلك استمرار نفي الحكومة خارج البلاد، يشهد المعسكر المناهض للانقلاب الحوثي، من مكونات وقوى سياسية ومجتمعية، انقساماً كبيراً. وهو ما تدركه الحكومة الشرعية والتي دعت خلال الأيام الماضية على لسان وزير الإعلام معمر الإرياني، كافة القوى إلى "أخذ الدروس والعبر من التجربة الأفغانية، وتجنب السيناريو والمصير القاتم الذي وصلت إليه أفغانستان، وتغليب المصلحة الوطنية وطي صفحة الماضي ونبذ كل الخلافات والحسابات السياسية، وتوحيد صفوفهم خلف الشرعية الدستورية بقيادة الرئيس عبدربه منصور هادي".
العجري: الجيش والمؤسسات التي يبنيها المحتل هي أشكال بلا روح
وفقاً لخبراء، لا تشكل الشرعية الدستورية حافزاً حقيقياً وكافياً لليمنيين من أجل التصدي للمشروع الحوثي، بقدر ما يبدو قتال الجماعة، وخصوصاً في مأرب أخيراً، دفاعاً عن الأرض من مليشيات قدّمت تجربة حكم سيئة في صنعاء طيلة السنوات الماضية، وتسعى لحكم اليمنيين مدّعية الاصطفاء الإلهي.
وعلى الرغم من كل الأوراق التي تبدو في أيدي جماعة الحوثيين، وتشابهها الكبير مع "طالبان" في طاقة العنف، إلا أن هناك اختلافات كبيرة تحول دون تطبيق النموذج الأفغاني في اليمن، وعلى رأسها الدور السعودي، وفقاً للباحث والمحلل السياسي اليمني، عبدالناصر المودع. واستبعد المودع، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن تنسحب السعودية من اليمن بسهولة وتقوم بتسليمها للحوثي وإيران، كما أكد في المقابل أن الأطراف المحلية التي تقاتل الحوثيين لديها مشاريعها الخاصة.
وقال: "من الممكن أن يتمدد الحوثيون بسهولة في بعض المناطق إذا توقف الدعم الخارجي العسكري والمالي، كما هو الحال في جبهة الساحل الغربي التي تعتمد بشكل كامل على الدعم الخارجي. المناطق والجبهات التي لديها مصادر قوة ذاتية وأيديولوجية مناقضة للحوثيين، ستتمكن من قتال عناصر المليشيات الحوثية ومنع تمددها السهل والسريع كما حدث في أفغانستان".
وضع الجيش اليمني
تعرض الجيش اليمني لانتكاسات مماثلة لتلك التي شهدتها أفغانستان، خصوصاً الانهيار الذي شهدته جبهات نهم والجوف وصولاً إلى تخوم مأرب مطلع العام الماضي، لكن المعارك التي تدور في أطراف مأرب منذ إبريل/نيسان 2020، تكشف أن القوات الحكومية اليمنية لا تشابه نظيرتها الأفغانية على الرغم من فارق الإمكانات. وتلقّى الجيش اليمني دعما من التحالف السعودي منذ 6 سنوات، وعلى الرغم من إقرار قياداته بالدور المحوري الذي تلعبه مقاتلات التحالف في تقديم الإسناد الجوي الذي كان له الفضل في إحباط الهجمات الحوثية على مدينة مأرب تحديداً، إلا أن ما قدمته السعودية لا يكاد يقارن بما حصلت عليه القوات الأفغانية من الولايات المتحدة. ولم يمنح التحالف السعودي، الجيش اليمني، تلك الإمكانات التي قدمتها وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" للقوات الأفغانية والتي وصلت إلى مقاتلات متطورة من طراز "بلاك هوك" وطائرات مسيرة من دون طيار حصل عليها الحوثيون من حلفائهم في إيران، كما أنه لا يتكفل بسداد رواتب سوى منتسبي الألوية والمناطق العسكرية المتاخمة لحدود السعودية في محافظتي حجة وصعدة فقط.
ووفقاً لمصدر في الجيش اليمني لـ"العربي الجديد"، فإن الطموحات الحوثية بتكرار النموذج الأفغاني بعيدة المنال، على الرغم من الإمكانات الشحيحة التي يعاني منها المرابطون المحرومون من رواتبهم منذ مطلع العام الحالي، ونقص السلاح النوعي. وأضاف أن "الجيش اليمني لا يقاتل مليشيات فقط، بل يواجه إيران بكل إمكاناتها من صواريخ بالستية وحرارية متطورة وطائرات مسيرة. لا مجال للمقارنة. ومع ذلك أثبت المقاتل اليمني أن كرامته لا تسمح له بالإذعان رغم كل الظروف". وشدّد على أن الإسناد الجوي للتحالف لا يحضر في جميع المعارك، وخصوصاً الجبهات التي تصل فيها المواجهات إلى مسافات صفرية يصعب فيها التفريق بين المتقاتلين، لكن حضوره يكون فاعلاً في استهداف التعزيزات الحوثية قبل وصولها إلى الجبهات.
ويبدو أن ما حصل في أفغانستان قد جعل السعودية تشعر بالخطر من تكرار السيناريو في اليمن، وظهر ذلك في عملية استدعاء وزير الدفاع اليمني، الفريق محمد المقدشي، إلى الرياض، الأربعاء الماضي، على رأس وفد ضم رئيس خلية التنسيق والارتباط في الجيش اليمني، سمير الصبري، ورئيس دائرة الدفاع والأمن في مكتب الرئاسة اليمنية، حسين الهيال.
يشهد المعسكر المناهض للانقلاب الحوثي انقساماً كبيراً
ووفقاً لوسائل إعلام رسمية يمنية وسعودية، فقد ناقش المقدشي مع قائد القوات المشتركة للتحالف السعودي، مطلق الأزيمع "أوجه التعاون والتنسيق المشترك، وسير العمليات العسكرية الميدانية في مختلف الجبهات التي تخوض فيها القوات المسلحة اليمنية معارك التصدي للمليشيا الحوثية المدعومة إيرانياً"، في موقف يكشف حجم المخاوف من جاهزية الجيش اليمني والحيلولة من دون تكرار سيناريو ما حصل في أفغانستان.
وخلافاً للحالة الأفغانية التي كانت عليها القوات الحكومية في مواجهة عدو واحد هو "طالبان"، يبدو الجيش اليمني محاصراً بعدد من الأطراف المتربصة به شمالاً وجنوباً، والتي تقدّم خدمات جليلة للحوثيين في إرباك المعركة الرئيسية ضد الحوثيين وتوجيه طعنات من الظهر. كما حصل في معركة البيضاء الأخيرة عندما تسببت عملية احتجاز قوات تابعة لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" في منع وصول الدعم إلى جبهات الزاهر.
وحسب مصادر عسكرية في القوات الحكومية تحدث معها "العربي الجديد"، فإن نقطة التشابه الرئيسية التي تكاد تجمع القوات الأفغانية مع الجيش اليمني، تتمثثل بتفشي الفساد، الذي كان سبباً رئيسياً في سوء تقدير الولايات المتحدة لقدرات الجيش الأفغاني في مواجهة "طالبان".
على الأرض، لا يبدو الحجم الحقيقي للجيش اليمني مطابقاً للأرقام الموجودة على الورق، وخلال السنوات الأولى للحرب التي كانت تحصل فيها القوات اليمنية على دعم مادي سعودي، تعمد قادة الجيش الوطني تضخيم الكشوفات الخاصة بالألوية والوحدات العسكرية عبر آلاف الأسماء الوهمية من أجل الاستفادة من مستحقاتهم. ساهم الفساد الحاصل في المؤسسة العسكرية اليمنية، بانكشاف عورة الشرعية في عدد من الجبهات التي سقطت بسلاسة أمام الحوثيين، إلا أن الالتفاف الشعبي من المقاومة الشعبية والمقاتلين القبليين كما هو الحال في مأرب، حافظ على التوازن في مناسبات كثيرة وأفسد الكثير من خطط الحوثيين.