خرج أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، بعد ظهر اليوم الجمعة، في وقفة طالبوا خلالها باستئناف التحقيقات ومعرفة تفاصيل الجريمة التي أودت بحياة 220 شخصاً، في 4 أغسطس/ آب من عام 2020، وأسفرت عن جرح أكثر من 7 آلاف شخص، وإلحاق أضرار جسيمة بالممتلكات.
وخرجت الوقفة تحت مسمى "من أجل العدالة والمحاسبة.. مستمرون"، رُفعت خلالها صور الضحايا وشعارات تطالب باستئناف التحقيقات ومعرفة الحقيقة.
وعبّر الأهالي في الذكرى السنوية الثالثة للانفجار عن غضبهم إزاء التدخل السياسي المستمرّ في التحقيق، وسلسلة الطعون القانونية والدعاوى التعسّفية التي تجاوزت الأربعين، والتي قدّمها سياسيون متّهمون بالقضية ضد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، وقضاة آخرون معنيون بالملف، ما تسبب بتعليق التحقيق أكثر من مرّة، إلى حين البتّ بالطلبات.
وحمل الأهالي صور ضحاياهم، تتقدّمهم الأمهات اللواتي كن يلبس الأسود، وساروا من مركز فوج إطفاء بيروت باتجاه تمثال المغترب مقابل أهراءات (صوامع) القمح، الشاهدة على الانفجار، وذلك على وقع أناشيد وطنية وهتافات المشاركين في التحرك، الذين عبّروا عن تضامنهم معهم ووقوفهم إلى جانبهم حتى الوصول إلى العدالة، وحملوا علماً عملاقاً كتب عليه "قسم بالنضال حتى تحقيق العدالة"، بالإضافة إلى علم لبناني كبير ملطخ بالدماء، ورفعت صور لعناصر فوج الإطفاء العشرة الذين سارعوا إلى المرفأ لإخماد الحريق قبل وقوع الانفجار.
وقال أهالي الضحايا في كلمة لهم إنَ "الإرهابي معروف، وهو من أدخل نترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، ولكنه ليس هو فقط المسؤول، بل أيضاً من تقاعس في الدولة عن القيام بعمله كما يجب، ومن لم يتحرك لإزالة المواد المتفجرة، من مسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين وموظفين إداريين وقضاة، مطالبين كل الأحزاب بأن ترفع الغطاء عن المتورطين لتأخذ العدالة مجراها، مطالبين كذلك بلجنة تقصي حقائق دولية بالتوازي مع التحقيق المحلي.
وشارك في التحرك عددٌ من النواب من أحزاب سياسية و"قوى تغييرية"، وقد حصلت مناوشات بين نائب في "التيار الوطني الحر" (برئاسة النائب جبران باسيل)، سيزار أبي خليل، ومشاركين في التحرك، الذين طالبوا بمغادرته، قبل أن يتدخل متحدثون باسم الأهالي ويدعوا إلى التهدئة واحترام هذه المناسبة ومن يشارك فيها، وعدم رفع شعارات حزبية، وذلك أيضاً رداً على شعارات رفعت ضد "حزب الله" تصفه بـ"الإرهابي"، وقد أكد الأهالي أنهم سيسمّون كل الأمور بأسمائها، وسيحاسبون من عطّل وعرقل ولا يزال يقوم بكل الأساليب لطمس الحقيقة.
وقال وليم نون، شقيق الضحية جو نون: "حزب الله إرهابي، هو ومن يساعده بقلب الدولة، وسيأتي يوم والكلّ سيحاسب، أنتم قتلتونا وفجرتونا وستحاسبون جميعاً".
وتوجه نون إلى الدول الأجنبية، قائلاً: "نعلم أن لديكم أقماراً اصطناعية، وسيأتي يوم نعرف فيه الحقيقة".
من جهته، قال بول نجار، والد الطفلة ألكسندار نجار، التي قُتلت في الانفجار وهي من بين أصغر الضحايا: "قتلونا في منازلنا في 4 أغسطس/ آب، وما زالوا يقتلوننا في كل يوم ويراهنون على أننا سنفقد الألم وسنستسلم، لكن هذا لن يحصل، والشعب الذي لم يمت سيبقى يطالب بالعدالة حتى النفس الأخير".
والقاضي البيطار هو المحقق الثاني في القضية، بعد القاضي فادي صوان، الذي كُفّت يده عن الملف، في 18 فبراير/ شباط من عام 2021، بفعل دعوى النقل التي رفعها الوزيران السابقان، النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر (ينتميان إلى حركة أمل بزعامة نبيه بري)، وذلك ردّاً على ادعاء صوان عليهما في 10 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2020، بتهمة الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وجرح مئات الأشخاص، وذلك إلى جانب رئيس الوزراء السابق حسان دياب، ووزير الاشغال السابق يوسف فنيانوس (مستشار رئيس تيار المردة ومرشح رئاسة الجمهورية سليمان فرنجية).
وفي السادس من فبراير/ شباط الماضي، أعلن القاضي البيطار إرجاء كافة جلسات استجواب المدعى عليهم، بانتظار البتّ بالشكوى المقدّمة ضدّه من النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، الذي ادعى عليه بالتمرّد على القضاء واغتصاب السلطة، بعد إعلانه استئناف التحقيق في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي.
واستند القاضي البيطار إلى اجتهاد يتيح له العودة إلى التحقيقات واستئنافه وكسر الجمود الذي كان يسود الملف منذ 23 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بفعل كفّ يده نتيجة الدعاوى التي رفعت ضدّه من قبل سياسيين، مدعى عليهم بالملف، أكثرها أتت من الوزيرين السابقين، النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، وقرّر البيطار حينها الادعاء على ثمانية أشخاص جدد بالملف، بينهم القاضي عويدات، وحدّد مواعيد استجواب 13 شخصاً مدعى عليهم، كما قرّر إخلاء سبيل 5 موقوفين منذ الانفجار من أصل 17.
وسارع النائب العام التمييزي رغم تنحّيه عن الملف لصلة القرابة التي تربطه بالمدعى عليه غازي زعيتر، إلى الادعاء على البيطار واتخاذ تدابير وإجراءات بحقه، منها إصدار منع سفر ومنع جميع الأجهزة الأمنية من تنفيذ قراراته.
كما قرّر عويدات إطلاق سراح جميع الموقوفين مع منع سفرهم، لكن ذلك لم يمنع رئيس مصلحة الأمن والسلامة في مرفأ بيروت محمد زياد العوف، الذي يحمل الجنسية الأميركية، من مغادرة لبنان إلى الولايات المتحدة، عبر مطار بيروت الدولي فور إخلاء سبيله.
ومنذ فبراير/ شباط، دخل ملف التحقيقات مرة جديدة مرحلة الجمود، ما دفع أهالي الضحايا والمنظمات الدولية الحقوقية إلى الاقتناع أكثر بأن التحقيق المحلي لا يمكن أن يحقق العدالة، وباتت هناك حاجة ملحّة لإنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، من أجل دعم حق الضحايا والناجين في الحقيقة والعدالة وسبل الانتصاف الفعالة، بما فيها التعويضات.
وفي الرابع من أغسطس/ آب من عام 2020، اندلع حريق لم تُعرف أسبابه حتى اللحظة في العنبر رقم (12) في مرفأ بيروت، تلاه بعد دقائق، وتحديداً عند السادسة وسبع دقائق مساءً، انفجار هائل وُصِف بأنه أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ الحديث، ما أسفر عن مقتل أكثر من 220 شخصاً، وجرح ما يزيد عن 7 آلاف شخص، وتشريد آلاف الأشخاص والعائلات، وإلحاق دمار بجزء كبير من العاصمة اللبنانية، وخسائر مادية قدرت بأكثر من 15 مليار دولار.
وما زال يعاني أصحاب الإصابات البالغة الذين أصيبوا بإعاقة جسدية، مادياً واجتماعياً ومعيشياً، ويجدون صعوبات في الوصول إلى العلاج، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وإهمال السلطات لأوضاعهم وحقوقهم؛ أقلّه في الصحة والطبابة.
وعلى الرغم من اندلاع حريق لفترة من الوقت، بيد أن المسؤولين لم يحذروا السكان والعاملين في المرفأ، من وجود 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم في العنبر، الأمر الذي يعتبره أهالي الضحايا بمثابة جريمة ثانية ارتكبتها السلطة، بعدما كانت تعلم بأن هناك مادة خطرة مخزنة بشكل عشوائي منذ سنوات عدة، ولم تفعل شيئاً بشأنها.
وقالت المحامية سيسيل روكز، وهي شقيقة الضحية جوزف روكز، لـ"العربي الجديد"، إن عنوان المسيرة هو "من أجل العدالة والمحاسبة مستمرون"، ونحن مستمرّون ولن نستسلم ولن نفقد الأمل، رغم كل العراقيل والضغوطات التي تحصل لطمس الحقيقة وإفلات المسؤولين من العقاب، ونأمل وندعو كل دولة عضو في مجلس حقوق الإنسان إلى دعم إنشاء البعثة الدولية لتقصي الحقائق.
وأشارت روكز إلى أن "مجلس القضاء الأعلى عيّن في يونيو/ حزيران الماضي، القاضي حبيب رزق الله للنظر في شكوى عويدات ضد البيطار باغتصاب السلطة، ونحن ننتظر قراره، ونرجو ألا يطول، إذ إن من الضروري استئناف التحقيقات واستكمالها بأسرع وقت، ونحن نترقب ونتابع القضية".
وأوضحت روكز أنه مع مرور ثلاث سنوات على الانفجار لم نستطع بعد الوصول إلى الحقيقة أو العدالة بفعل العراقيل التي تضعها السلطة السياسية أمام الملف، والدعاوى المردودة بالشكل التي يتقدم بها المدعى عليهم من السياسيين، وتحكم قبضتها كذلك على التشكيلات القضائية، وتقفل المسالك الممكنة كافة، من أجل إبقاء الملف مقفلاً ومتوقفاً.
وقال المحامي جيلبر أبي عبّود، أحد وكلاء أهالي الضحايا، لـ"العربي الجديد"، إن "القاضي حبيب رزق الله لم يبدأ بعد تحقيقاته، ربما ينتظر تشكيل الهيئة الاتهامية التي لها أن تنظر بقراراته المعرضة للطعن، وهذه مماطلة للأسف يقوم بها مجلس القضاء الأعلى، وبكل الأحوال ننتظر من القاضي رزق الله أن ينظر بالملف، وينهيه، ويحفظ الشكوى، لأنها فارغة ولا ركيزة قانونية لها، والجرم الذي تستند إليه مفبرك من قبل القاضي عويدات، الذي تمت تنحيته عن ملف الانفجار، بقرار من محكمة التمييز لصلة القرابة التي تربطه بأحد المدعى عليهم".
ويرى أبي عبّود أن الوضع الآن هو "مشهد سريالي، أن يصبح المحقق العدلي ملاحقاً من قبل المدعى عليهم، ومن قبل قاضٍ قرر من تلقاء نفسه العودة إلى الملف، في الوقت الذي يكون هو نفسه امتنع عن التدخل فيه، وتمت تنحيته"، مشيراً إلى أن "القاضي البيطار اجتهد بعدما وصل إلى حائط مسدود، وبعد أكثر من سنة على توقف التحقيقات، وقد تعرّض للكثير من التهديدات والضغوطات وحملات تشويه سمعة من الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ووزراء ونواب ملاحقين ينتمون إلى أحزاب سياسية متنوعة، ورؤساء حكومات رغم خلافاتهم اجتمعوا على التصدي للبيطار ومنطق العدالة".