فور إعلان إسرائيل، الاثنين، عن خفض قواتها في غزة، سارعت الإدارة الأميركية إلى الترحيب بالخطوة وكأنها جاءت كاستجابة لطلبها بوجوب تخفيف "العمليات العسكرية الإسرائيلية بحيث تصبح أقل كثافة نارية"، لكنها تجاهلت الشق الثاني من الإعلان الذي أكد فيه نتنياهو على المضي بالحرب "لأشهر عديدة".
ويبدو أن المقصود بهذا التعبير الذي يستخدم لأول مرة، حرباً مفتوحة تضمن بقاء إسرائيل في القطاع وحتى إشعار آخر يتحول معه وجودها إلى واقع، بذريعة الحاجة لاستكمال المهمة وبحجة الدواعي الأمنية التي سبق وتذرع بها نتنياهو لتبرير مثل هذا البقاء. وبذلك يكون الرئيس بايدن قد تراجع عملياً عن "لا لعودة إسرائيل إلى غزة" (أحد لاءاته الخمس المعروفة)، تحت ستار أنه انتزع من إسرائيل العمل على الحد من انفلاتها العسكري عبر خفض حجم قواتها. مع أن هذا الخفض لن يؤدي بالضرورة إلى تقليص عدد الضحايا بين المدنيين.
ثم إن إسرائيل لم تُقدِم عليه رأفة بهؤلاء بقدر ما هو إجراء اقتضته اعتبارات عسكرية واقتصادية، منها "زحمة قواتها (حوالي 100 ألف)، في ميدان ضيق يعرّض الجنود إلى نيران بعضهم البعض؛ فضلا عن حاجة بعض القطاعات إلى عودة العاملين فيها من قوات الاحتياط" كما يقول دانيس روس، أحد نواطير إسرائيل في واشنطن.
وليس ذلك فحسب، بل إن واقع الحال في جنوب غزة حيث يحتشد أكثر من مليون نازح، أثار الشكوك حول ما إذا كانت إدارة بايدن قد تخلت عمليا عن البند الأول في هذه اللاءات (لا للترحيل القسري لسكان غزة)، إذ إن الرحيل الطوعي صار غير مستبعد كنتيجة لاستمرار المعاناة والتجويع وتفشي الأمراض والمجاعة؛ فيما تجري عرقلة وصول المساعدات الإنسانية بالمقادير والسرعة المطلوبة بسبب غياب الضغوط الأميركية الكافية على إسرائيل التي تفتعل التأخير وتتعمّد الشح في التوزيع.
لكن الرئيس بايدن ليس في وارد الضغوط الحازمة برغم ما يتردد عن وصول علاقته مع نتنياهو إلى "حافة الانهيار". يكتفي بتوظيف "المونة" على إسرائيل وبتقديم "النصائح"، خاصة من الآن وصاعداً. فمع بداية العام دخلت معركة الرئاسة في مرحلة التركيز على حساباتها وإعادة نفض حملته الانتخابية المترنحة. على طاولته ملفات 3 أزمات دولية ضاغطة. حرب غزة تتصل بمعركته أكثر من غيرها. الاعتراض على تعامله معها ازدادت نسبته من 45% إلى 54%. نسبة وازنة من بينهم متمثلة بالناخبين الشباب في الحزب الديمقراطي وفي صفوف المستقلين، وهذه شريحة بمثابة بيضة القبان في الانتخابات. وخصوصا في هذه الانتخابات التي يقف فيها بايدن على حافة الهاوية حتى الآن.
استمرار وتفاقم الوضع في غزة يزيد ابتعاد هذه الكتلة الانتخابية عنه، أو في أحسن الأحوال امتناعها عن التصويت وبما يتسبب له بالهزيمة. والأخطر إذا توسعت الحرب، ففي الأيام الأخيرة ازدادت المخاوف من هذا الاحتمال، خاصة بعد تزايد عمليات الحوثيين في البحر الأحمر وصدور تلميحات عن البنتاغون حول ضرورة القيام "برد جماعي" دولي على هذا التطور. بالإضافة إلى التصعيد المتوالي على الجبهة الشمالية مع لبنان وتهديدات إسرائيل لحزب الله.
لكن يبدو أن التصعيد في الخطاب كما في المناوشات، يجري العمل على احتوائه عبر دبلوماسية الغرف المغلقة في "سلطنة عُمان" وعبر الفرنسيين بشأن لبنان.
ويبدو أيضا أن المحاولات أثمرت أو في طريقها لاستباق الانزلاق إلى مواجهة كبيرة. من الإشارات أن حاملة الطائرات جيرالد فورد "ستغادر المنطقة في غضون أيام" كما ذكرت معلومات منسوبة إلى مصادر في البنتاغون. مغادرتها كأداة ردع لمنع توسع الحرب رجح الاعتقاد بتراجع هذا الاحتمال، مع أن البنتاغون دفع مؤخرا بالمزيد من البوارج الحربية وليس حاملات الطائرات إلى المنطقة. وكأن مخاطر المواجهات الكبيرة قد جرى تطويقها، علما أن هناك خاصة في أوساط النخب اليهودية من لا يزال يحذر من "نوايا" نتنياهو لتوسيع بقعة التفجير ويدعو إلى إزاحته من موقع رئاسة الحكومة.
وتصب في ذات المجرى عمليات الضخ التي يقوم بها الصقور وخصوم بايدن الذين يتهمونه "بالضعف"، ضد إيران والإلحاح على ضرورة "مواجهتها مباشرة بدل التعامل معها بالقطعة ومن خلال ضرب أذرعها في المنطقة". وهو خطاب حظي ببعض الاحتضان مع تصاعد العمليات في البحر الأحمر وإن كان في حقيقته سياسيا- انتخابيا أكثر من أي شيء آخر.
التحدي أمام بايدن أنه يواجه ظرفا يقتضي الموازنة بين متطلبات حملته الانتخابية وانفعاله بحرب كشفت ازدواجيته الفاضحة ومحاولة ضبطها في آن.