احتفت إسرائيل بنتائج عدوانها الأخير على قطاع غزة في أوائل شهر أغسطس/آب الجاري، يعبر الاحتفاء الدموي والمهووس، في الحقيقة، عن طبيعة الدولة العبرية، ونظرتها إلى نفسها ومحيطها من خلال مهداف البندقية. كانت معركة محدودة وقصيرة، لم تنه الحرب الماراثونية الطويلة، بين الشعب الفلسطيني والدولة العبرية، ونتيجتها النهائية واضحة ومحسومة وحتمية دون شك، عبر انتصار فلسطين، ودحر وتفكيك المشروع الاستعماري الصهيوني.
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى قاعدة منهجية يجب حضورها عند التعاطي مع إسرائيل ومقاربة سياساتها وممارساتها، بصفتها دولة قائمة على حد السيف، تستعد للحرب/المعركة القادمة بمجرد انتهاء السابقة، وابتداعها مصطلح المعركة أو المعارك بين الحروب، للتمييز بين جولات التصعيد المحدودة والحروب الطويلة، تتعلق القاعدة بعسكرة الدولة العبرية، وبتجريب أسلحة جديدة، وحصد ميزانيات إضافية للمؤسسة العسكرية، وإبقاء العصب الداخلي مشدوداً، كما في ترهيب المحيط الخارجي على طريقة أزعر الحارة، أو الفيل في محل الزجاج، كما يردد دائماً وزير الدفاع ورئيس الوزراء الأسبق الجنرال إيهود باراك، الذي بات الآن أحد كبار المفكرين الاستراتيجيين في الدولة العبرية.
استعدت إسرائيل للعدوان الأخير منذ شهورٍ طويلةٍ، وسعت مسبقاً إلى استهداف أو للدقة، الاستفراد بـ"الجهاد الإسلامي"، من أجل تحقيق أهدافٍ عدة، من وجهة نظرها، تتضمن تحييد الحركة عن المشهد الميداني العسكري في غزة، بعد شمال الضفة الغربية (جنين ونابلس). من هنا وللمفارقة، بدا العدوان مرتبطاً فعلاً باعتقال الشيخ بسام السعدي من وجهة نظر إسرائيلية، لا من قبل "الجهاد"، التي تزعم تل أبيب أنها تقف خلف موجة العمليات في الضفة الغربية، والتشويش على التهدئة السارية في غزة ومحيطها.
إذن كان استهداف تسلسل حركة الجهاد القيادي في بعده العسكري متعمداً، كتعبير عن اعتقاد الاحتلال أن الحركة باتت أقرب إلى التنظيم العسكري، مع تولي العسكر قيادتها الكاملة والفعلية في الفترة الأخيرة. إسرائيل سعت كذلك إلى استعادة ما تصفه بقدرة الردع في مواجهة غزة، وحتى الضفة الغربية والشعب الفلسطيني عامةً، والادعاء أن لا جدوى من تحدي إسرائيل ومواجهتها عسكرياً، التي تندرج ضمن السياسة المسماة جزّ العشب، وهو مصطلح دموي وعنصري بامتياز، لكنه يفضح من جهة أخرى عقم وعجز السياسة الإسرائيلية، كون عشب فلسطين في سهولها ووديانها وجبالها لا يمكن جزّه، أو منعه من النمو والاخضرار.
سعت القيادة الإسرائيلية كذلك إلى تحقيق أهداف سياسية لمن قادوا الحرب، على أعتاب الانتخابات العامة المقررة بعد شهرين؛ الخامسة خلال أقل من أربع سنوات. يتعلق الأمر برئيس الوزراء يئير لبيد الذي كاد يرتدي البزّة العسكرية كي يرفع من شعبيته، ووزير الدفاع الجنرال بيني غانتس، الذي يعطي الانطباع أنه الوزير المسؤول والراشد وسط النخبة الحاكمة، لذلك سمّى تحالفه الانتخابي الجديد المعسكر الوطني، ويردّد دائماً أنه وحده القادر على تشكيل حكومةٍ واسعةٍ، تضم كافة الفرقاء الحزبيين في الدولة العبرية. من جهة أخرى، رغم أداء قيادة حركة الجهاد السياسية الباهت والسيئ، وإعلان الاستنفار والتصعيد الخطابي دون فعل ذلك على الأرض، مع الانفتاح على الوساطة المصرية، وتصديق نجاحها في نزع فتيل التوتر ومنع العدوان، وانعكاسه على أرض الواقع في غزة، إلا أن مجاهدي الحركة قاتلوا بشجاعةٍ، رغم الخسائر الكبيرة والصعبة والمؤثرة والمؤلمة في صفوفهم، خاصة على المستوى القيادي، فقد واصلوا الصمود والقتال بمعنوياتٍ عاليةٍ، حتى الدقائق بل الثواني الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.
مع ذلك، رغم الخسائر الباهظة والضربة المؤلمة لم ولن تخرج حركة الجهاد من المشهد والصراع، كما تريد إسرائيل، حتى لو أخذت وقتاً أطول من أجل التعافي، ولا يقل أهمية عن ذلك أنها مع كامل الاحترام فصيل ذو تاريخ طويل وممتد للشعب الفلسطيني، الذي تسلّمت فصائله وأجياله الراية، جيلاً بعد جيل، عازمةً على المضي قدماً رغم التضحيات الهائلة، حتى تحقيق الآمال الوطنية المشروعة، في السيادة والاستقلال وتقرير المصير.
في السياق الفلسطيني، أكّد العنوان الأخير على حقيقة أن لا حرب فعلية دون "حماس"، حتى هذه الأخيرة على أهميتها ومركزيتها في المشهد السياسي والعسكري تبقى فصيلاً أيضاً، ويبقى العنصر الأهم دائماً، الشعب العنيد الأكثر حيوية في المنطقة، كما كان يقول مؤسس حركة الجهاد الإسلامي الشهيد فتحي الشقاقي.
عموماً، تعتقد إسرائيل أنها استعادت قدرة الردع، هذا مصطلح هلامي ووهمي سيتبدد ويتآكل مع الوقت، والأهم أن الحرب في مواجهة الشعب الفلسطيني كله لم ولن تنتهي. وهنا لا بأس من التذكير بما قاله أحد الجنرالات الإسرائيليين قبل عقدين، في ذروة الانتفاضة الثانية، فككنا خلية وراء خلية في صفوف الفلسطينيين، لكن تبقى لنا خلية واحدة، عددها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، في دليل لا يقبل الشك أو الجدال على استحالة الانتصار، وعلى فشل السياسة الدموية والعنصرية المسماة "جزّ العشب".
أما سياسياً، فلا يمكن الحديث عن مكاسب انتخابية واضحة وملموسة لغانتس ولبيد، فالتوازن بين المعسكرين المتنافسين لا يزال على حاله، والارتفاع النسبي في عدد مقاعد هذا الحزب أو ذاك، ناجم عن تنقل الأصوات داخل المعسكر الواحد، يمكن الحديث عموماً عن 59 مقعدا لمعسكر رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو وحلفائه في اليمين الأكثر تطرفاً، و55 للتحالف الحاكم من اليمين واليمين المتطرف، و6 مقاعد للقائمة العربية المشتركة، التي لا تتموضع ضمن أي من المعسكرين المتنافسين.
أخيراً وباختصار وتركيز، نحن أمام معركة محدودة ومكاسب قد تكون تكتيكية لإسرائيل، أما استراتيجياً فلا شيء تغيّر، الشعب الفلسطيني ثابت وعنيد وماض قدماً رغم الانقسام السياسي، وإسرائيل وفق كل الحتميات، خاصة مع حالة عدم الاستقرار السياسي البنيوية والمتجذرة داخلها، لن تربح الحرب الاستراتيجية الماراثونية والطويلة في مواجهة الفلسطينيين أبداً.