إضاءات على تاريخ المقاومة الشعبية الفلسطينية (1967-1973)

30 يوليو 2023
من الاحتجاجات على المستوطنات في قرية بيت دجن في الضفة الغربية (ناصر اشتية/Getty)
+ الخط -

ارتبطت المقاومة الشعبية المدنية الفلسطينية عضويًا وتاريخيًا بالحالة الفلسطينية، منذ اللبنات الأولى للمشروع الاستيطاني الصهيوني الكولونيالي، بعد الحرب العالمية الأولى، وصدور وعد بلفور في نوفمبر/تشرين الثاني 1917، إذ شهدت مدًا وجزرًا، صعودًا وهبوطًا، وتحولاتٍ مرنةً في الأشكال والأساليب، إلا أنها سارت بخطى ثابتةٍ وصيرورةٍ مستمرةٍ، حتى غدت مركبًا أساسيًا في أحداث ومُستجدات القضية الفلسطينية، وتقلباتها اليومية.

ورغم أن الفعل المقاوم المسلح كان له الكلمة العليا في الميدان، خاصةً بعد حرب النكسة عام 1967، والروح المشرقة التي تسربت إلى الجسد الفلسطيني بعد معركة الكرامة المجيدة في مارس/آذار 1968، وفي ظل قواعد فصائل المقاومة الفلسطينية المنتمية وغير المنتمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، على الحدود الغربية للملكة الأردنية بدايةً، ومن ثم في الساحة اللبنانية بعد العام 1969، إلا أن المقاومة الشعبية المدنية بأنواعها وتجلياتها المتعددة لم تترك الساحة، ولم تبرح مواقعها، بل سارت على التوازي مع المقاومة المسلحة، مساندةً وحاضنةً ورافدةً لها.

لقد أبقت المقاومة الشعبية المدنية؛ على التوازي مع الفعل المقاوم، القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وأبقت الحق الفلسطيني نابضًا في قلوب الملايين حول العالم

لكن؛ وبخلاف العمل  المسلح، الذي يحتاج إلى إمكاناتٍ وبنى تنظيميةٍ وقيادةٍ مركزيةٍ، لم تكن المقاومة الشعبية في أنواعها وأدواتها وأهدافها التكتيكية (الهدف الاستراتيجي طرد المحتل ورفع تكلفة احتلاله)، على تناغمٍ كاملٍ مع نظيرتها المسلحة، فلم يكن للمقاومة الشعبية في أغلب مراحلها خلال الفترة الزمنية الممتدة بين 1967 – 1973 قيادةٌ مركزيةٌ، أو تسلسلٌ قياديٌ هرميٌ يحرك الأحداث بمنطق التوجيهات والخطط المعدة سلفًا، باستثناء بعض الاضرابات ومبادرات الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، التي لها برنامجها وأدواتها الخاصة بها، كما غلب عليها طابع العفوية والارتجال وردات الأفعال، خاصةً في حال ارتكاب جيش الاحتلال لمجازرٍ ضد التواجد الديموغرافي الفلسطيني في لبنان أو سوريا، أو نتيجة استشهاد فلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، أو ردًا على استفزازات جيش الاحتلال، كما في التظاهرات الطلابية، التي اندلعت في قطاع غزة في الثاني من فبراير/شباط 1969، عندما اعتقلت سلطات الاحتلال ثلاث طالبات، وأصيب في المواجهات حينها أكثر من 70 طالبٍ وطالبةٍ، فقد خرجت الطالبات بالمئات من المدارس للالتحام الشعبي مع جيش الاحتلال بأدواته القمعية.

تمظهر الفعل الشعبي في الفترة ما بين النكسة وحرب رمضان، في نماذج وسياقات عدة، بما ينسجم مع الأهداف الوطنية التكتيكية والاستراتيجية، ومع الأسباب المباشرة للفعل الشعبي، ولعل الاحتجاج الشعبي الميداني أبرز معالم المقاومة الشعبية، إذ اعتاد المحتجون على الخروج بمسيراتٍ وتظاهراتٍ بالعشرات والمئات، وفي بعض الأحيان بالآلاف، للاحتجاج على استشهاد مواطنٍ، أو رد فعلٍ على سلوكٍ عدوانيٍ، أو تحديًا  لحظر التجوال، أو إحياءً لمناسباتٍ وطنيةٍ، كما في ذكرى قيام دولة الاحتلال في 15 مايو/أيّار من كل عام، ووعد بلفور المشئوم في الثاني من نوفمبر، وقرار التقسيم الظالم في الـ 29 من نوفمبر/تشرين الثاني، وفي ذكرى معركة الكرامة المجيدة في الـ 21 من مارس/آذار.

يأتي الالتحام الشعبي تالياً بعد الاحتجاج الشعبي، وهو خطوةٌ متقدمةٌ أخرى قد تكون جزءًا من الاحتجاج الشعبي، أو تتويجًا ميدانيًا له، أو ضمن عملٍ وفعلٍ ميدانيٍ منفصلٍ، إذ يتنقل المحتجون في مجموعاتٍ لخوض حرب الشوارع، باستخدام الحجارة والزجاجات الفارغة، ورفع العلم الفلسطيني أو التوشح به، حينها تجسدت همجية جيش الاحتلال وبربريته أمام العالم، فقد بدا جيشًا مدججًا بالسلاح يقاتل فتيةً وأطفالًا ونساءً عُزل في الأزقة والشوارع، يستخدمون أدواتٍ بدائيةً تطاولها أيديهم، وهو ما نبه الجموع الشعبية لأهمية الرأي العام الدولي، وضرورة تعرية دولة الاحتلال، وجيشه البربري أمام العالم أجمع.

يتجسد النموذج الثالث للمقاومة الشعبية، في الإضرابات العامة والتجارية وأنواع مختلفةٍ من العصيان المدني، فقد استدعت أحداث الساحة الفلسطينية؛ من قبيل مجازر جيش الاحتلال في لبنان (ازدهر العمل الفدائي في لبنان والمخيمات الفلسطينية في الفترة 1969 – 1982)، أو استشهاد فلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، أو دعوة منظمة التحرير الفلسطينية للإضراب احتجاجًا على مبادراتٍ دوليةٍ، أو مشاريع سياسيةٍ، لا تتعاطى مع الحد الأدنى لمطالب الشعب الفلسطيني، امتناع التجار والعمال والموظفين عن الذهاب إلى العمل، ولعل إغلاق المحال التجارية ومحاولة جيش الاحتلال فتحها بالقوة من أبرز تجليات الإضرابات.

وبالتالي اتسمت أغلب المشاركات في الإضرابات بالعفوية ورد الفعل، على ممارسات وجرائم جيش الاحتلال، ومن أشهر الإضرابات في تلك المرحلة، إضراب 15 فلسطينية عن الطعام في كنيسة القيامة في البلدة القديمة في القدس، من المدينة المقدسة ومناطق أخرى في الضفة الغربية في 6 يناير/كانون الثاني 1969، احتجاجاً على الاحتلال والاعتقالات وهدم البيوت، كما وزعت المشاركات بيانات باللغتين العربية والانجليزية على السياح الأجانب القادمين إلى الكنيسة. ومن أبرز الاضرابات أيضاً؛ ما بادرت به الحركة الوطنية الأسيرة في سياق ما يُعرف بمعركة الأمعاء الخاوية، ردًا على انتهاكات إدارات سجون الاحتلال، وللمطالبة بتحسين وضع الأسرى الإنساني، وفق ما تقتضيه القوانين والشرائع الدولية. مثل إضراب سجن الرملة، ومعتقل كفار يونا، في 18 فبراير/شباط 1969، الذين استمرا 11 يومًا، وإضراب الأسيرات الفلسطينيات في سجن "نفي ترتسا"، في 28 إبريل/نيسان 1970، واستمر 9 أيام، وإضراب سجن عسقلان في 16 مايو/أيّار 1970 واستمر 7 أيام، واضراب سجن عسقلان في 13 سبتمبر/أيلول 1973، والذي استمر 24 يوم.

المقاومة الشعبية المدنية بأنواعها وتجلياتها المتعددة لم تترك الساحة، ولم تبرح مواقعها، بل سارت على التوازي مع المقاومة المسلحة

وغير بعيد عن ذلك، التحرك الطوعي للمدرسين وأولياء الأمور في الضفة الغربية، عندما حاولت سلطات الاحتلال؛ في أعقاب حرب 1967، فرض تدريس الكتب والمناهج الصهيونية العنصرية في مدارس الضفة، حينها أضرب الآباء والمدرسون لأكثر من 90 يومًا، بعد التوصل إلى حلٍ وسط، يستجيب لمعظم مطالب المدرسين وأولياء الأمور.

كذلك تمظهرت أنواعٌ أخرى للمقاومة الشعبية، بالتوزي مع الأنواع الرئيسية الثلاثة سالفة الذكر، أو منعزلةً عنها، منها الكتابات على الجدران، وتوزيع البيانات التحريضية والتوعوية، ورفع الأعلام الفلسطينية، والخطب العامة، ومقاطعة منتجاتٍ أو شركاتٍ معينةٍ، أو خدماتٍ محددةٍ مرتبطةٍ ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشرٍ بالاحتلال ومؤسساته، في سياق تقليص التبعية للاحتلال وتحقيق الأهداف الوطنية.

كما نذكر أيضًا؛ التحركات الدبلوماسية لدى المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية، لإسناد القضية الفلسطينية، ودعم قرارات الأمم المتحدة، المطالبة بإنهاء الاحتلال ووقف جرائمه وإقامة دولة فلسطين المستقلة، وتعزيز الوعي الدولي بالقضية، وبلورة رأيٍ عامٍ دوليٍ مناهضٍ للاحتلال. ولا يُستثنى من المقاومة الشعبية أيضاً؛ الحملات الثقافية والفنية لإبراز القضية الفلسطينية وتعزيز الوعي العام، وتشمل هذه الحملات، الأفلام والمسرحيات والمعارض الفنية والحملات الإعلامية، التي تسلط الضوء على حياة الفلسطينيين اليومية تحت الاحتلال، وتبرز معاناتهم وآلامهم.

لقد أبقت المقاومة الشعبية المدنية؛ على التوازي مع الفعل المقاوم، القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وأبقت الحق الفلسطيني نابضًا في قلوب الملايين حول العالم، وأفشلت محاولات الاحتواء والطمس والتهميش، وأبقت الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني حاضرةً بقوة رغم رياح المؤامرات العاتية، ورغم العبث الاقليمي والدولي لصالح أجنداتٍ خاصةٍ ومنافع سياسيةٍ لا تمت للقضية الفلسطينية بصلة.

المساهمون