قال مسؤولون فلسطينيون إن شيرين أبو عاقلة قُتلت عمداً في وقت مبكر من يوم 11 مايو/أيار في مدينة جنين بالضفة الغربية على يد جندي إسرائيلي. في حين قال مسؤولون إسرائيليون إن جندياً ربما أطلق النار عليها بالخطأ، لكنهم أشاروا أيضاً إلى أنها ربما قتلت على يد مسلح فلسطيني. وخلص التحقيق الأولي للجيش الإسرائيلي إلى أنه "من غير الممكن تحديد مصدر إطلاق النار بشكل قاطع".
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أجرت تحقيقاً استمر لمدة شهر، وخلصت فيه إلى أن الرصاصة التي قتلت شيرين أُطلقت من الموقع التقريبي للرتل العسكري الإسرائيلي، وعلى الأرجح من قبل جندي من وحدة النخبة الإسرائيلية.
وأظهرت الأدلة التي راجعتها الصحيفة عدم وجود مسلحين فلسطينيين بالقرب من شيرين عندما أطلق جندي عليها النار، الأمر الذي يتناقض مع المزاعم الإسرائيلية بأنه "إذا قتلها جندي بالخطأ، فذلك لأنه أطلق النار على مسلح فلسطيني".
كما أظهر التحقيق أنه تم إطلاق 16 رصاصة من موقع الرتل الإسرائيلي، على عكس المزاعم الإسرائيلية بأن الجندي أطلق خمس رصاصات باتجاه الصحافيين. ولم تجد "نيويورك تايمز" في تحقيقها أي دليل على أن مطلق النار تعمّد استهدف شيرين شخصيا، كما لم تتمكن من تحديد ما إذا كان مطلق النار قد رأى أن شيرين وزملاءها كانوا يرتدون سترات واقية تحمل كلمة Press.
الساعة الخامسة صباحاً
توجهت شيرين أبو عاقلة إلى جنين صباح يوم 11 مايو/أيار، لتغطية سلسلة المداهمات الإسرائيلية المستمرة على المدينة، التي أخذ الجيش الإسرائيلي يشنها رداً على هجمات فلسطينية طاولت مستوطنات ومدناً إسرائيلية وأوقعت العديد من القتلى والجرحى، وقد انطلق عدد من منفذي تلك الهجمات من جنين. وفي تلك المداهمات نفذ الإسرائيليون حملات اعتقالات، تخللتها في بعض الحالات اشتباكات بالأسلحة النارية.
مع شروق شمس 11 مايو/أيار، بدأت مداهمة جديدة، وحوالي الساعة الخامسة صباحاً، نشرت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، أخباراً تفيد بأن عملية عسكرية إسرائيلية تجري في المدينة. حيث كانت قافلة من خمس مركبات عسكرية إسرائيلية تدخل الضفة الغربية، بقيادة ناقلة جند مدرعة من نوع "MDT David".
وفي حوالي الساعة 5:45 صباحاً، تلقت شيرين مكالمة من علي سمودي (54 عاماً)، وهو منتج في فضائية "الجزيرة"، حثّ شيرين على الوصول إلى مكان المداهمة في أقرب وقت ممكن. وسرعان ما انطلقت شيرين مع ثلاثة من زملائها في الفريق مرتدين سترات تحمل بوضوح ما يدل على طبيعة عملهم الصحافي.
كان سمودي في انتظارهم مع اثنين من الصحافيين المستقلين، هما مجاهد السعدي (35 عاماً)، وشذى حنايشة (29 عاماً). وأثناء تجمع الصحافيين، وصل رتل إسرائيلي لدعم الجنود المنخرطين في المداهمة وتأمين انسحابهم. وبحسب الصحافيين الذي كانوا في المكان فإنه كان يبدو أن المداهمة على وشك الانتهاء، وبدأ الصحافيون بالاستعداد للتصوير في المنطقة التي شهدت المداهمة. وتنقل "نيويورك تايمز" عن الصحافيين أنهم توقعوا إطلاق جنود الاحتلال بضع رصاصات تحذيرية في الهواء لمنعهم من الاقتراب.
الساعة 6:31 صباحاً
بدأت شيرين وزملاؤها بالاتجاه نحو المنزل الذي تمت مداهمته، بعدما توقف إطلاق النار، كانت الساعة 6:31 صباحاً، وبعد دقيقتين من سماع صوت آخر إطلاق نار.
ولكن بعد ثوانٍ قليلة سُمع صوت ست طلقات، وثقها فيديو لأحد المواطنين. وهنا صرخ سمودي: "إنهم يطلقون النار علينا". وتنقل الصحيفة عن سمودي قوله إنه استدار وشعر بأن ظهره ينفجر عندما اخترقت رصاصة سترته الواقية ومزقت كتفه الأيسر. ويتذكر سمودي صراخ شيرين في تلك اللحظة: "أصيب علي، أصيب علي!". وكانت تلك آخر مرة يُسمع فيها صوتها.
وفي محاولة للاختباء من إطلاق النار، حاول الصحافيون الاحتماء بالأبنية والأشجار الموجودة، في حين شوهدت شيرين وهي تحتمي بشجرة، وظهرها إلى الرتل الإسرائيلي، كما يظهر مقطع فيديو صوّره مصور الفريق مجدي بنورة.
وفي تلك اللحظة انطلقت سبع رصاصات أخرى. وبحسب تحقيق السلطة الفلسطينية، فإن تشريح الجثة أظهر أن إحدى تلك الرصاصات دخلت جمجمة شيرين من الخلف، وخرجت من جبهتها، لتضرب بالخوذة من الداخل قبل أن ترتد إلى رأسها.
التحليل الصوتي الجنائي يؤكد المسؤولية الإسرائيلية
حاولت صحيفة "نيويورك تايمز" في تحقيقها إعادة بناء اللحظات التي سبقت استشهاد شيرين، باستخدام مقاطع فيديو تم جمعها من أهالي المنطقة والصحافيين وكاميرات المراقبة، بالإضافة إلى مقابلات مع سبعة شهود، إلى جانب روايات الجيش الإسرائيلي، وتحليلات الخبراء، وأربع زيارات ميدانية لمراسلي الصحيفة إلى مكان الحادثة.
وفي الوقت الذي لا تظهر فيه اللحظة التي اخترقت فيها الرصاصة رأس شيرين، فإن الفيديوهات تصور بوضوح اللحظات التي سبقت ذلك والتي تلته، وفيها كلها يظهر بجلاء عدم وجود مسلحين فلسطينيين في الجوار، بما ينقض الرواية الإسرائيلية عن وجود مقاومين فلسطينيين قرب الصحافيين، وهي الرواية التي لم يقدم الجيش الإسرائيلي ما يدعم صحتها، بحسب الصحيفة.
سألت الصحيفة خبيرين هما البروفيسور روبرت ماهر، الخبير بالتحليل الصوتي الجنائي في جامعة ولاية مونتانا الأميركية، وستيفن بيك، مستشار الصوتيات السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي. وعمل كلاهما على تحليل صوت إطلاق النار من مقاطع الفيديو، بقياس الميكروثانية بين صوت كل رصاصة تغادر فوهة البندقية، والوقت الذي مرت فيه عبر ميكروفونات الكاميرات، آخذين بالحسبان درجة الحرارة في ذلك الصباح ونوع الرصاص الأكثر استخداماً من قبل الإسرائيليين والفلسطينيين. وبذلك تمكنوا من حساب المسافة التي قطعتها الرصاصات بين فوهة البندقية والميكروفونات.
وخلص روبرت ماهر إلى أن الرصاصات تم إطلاقها من مسافة 165.51 متراً على الأقل، و192.94 متراً على الأكثر، في حين خلص الخبير الثاني ستيفن بيك، بشكل مستقل، إلى أنه تم إطلاق النار من مسافة 155.45 إلى 179.22 متراً.
وتظهر مقاطع فيديو وكاميرات المراقبة التي التقطها المارة، قبل إطلاق النار، أن العربة الأولى في الرتل الإسرائيلي كانت على بعد بضعة أمتار فقط من النطاق الذي حدده الخبيران، وعلى بعد حوالي 182.88 متراً من مكان وجود شيرين أبو عاقلة.
ويظهر مقطع فيديو وزعته حكومة الاحتلال وجود عدد من المسلحين الفلسطينيين في زقاق يؤدي إلى زاوية شارع يمكن أن توفر خط رؤية مباشرة نحو شيرين، لكن تلك الزاوية، وبحسب تحقيق الصحيفة، كانت على بعد 274.32 متراً تقريباً من مكان وجود شيرين، وهو خارج النطاق المقدر من قبل الخبراء.
وهكذا تخلص "نيويورك تايمز" إلى أن التحليل الصوتي لإطلاق النار يحدد بشكل حاسم أن جميع الرصاصات الـ16 أطلقت من الموقع التقريبي للعربة الإسرائيلية.
الساعة 6:32 صباحاً
شيرين على الأرض مصابة، وزملاؤها يحاولون سحبها، رغم تجدد إطلاق النار نحوهم. في المجمل تم إطلاق ما لا يقل عن 16 رصاصة في اتجاه الصحافيين. أصابت إحداها علي سمودي في كتفه، واخترقت أخرى رأس شيرين أبو عاقلة، في حين استقرت ثلاث أخرى في شجرة الخروب التي حاولت شيرين الاحتماء بها.
أصبحت الشجرة الآن موقعاً تذكارياً، تتدلى من أغصانها الأعلام الفلسطينية، وبجانبها صورة جدارية لشيرين وهي مصابة، يزورها الفلسطينيون، ويصور بعضهم بناته واقفات في ظل الشجرة، مقلدات شيرين وهي تقول: "شيرين أبو عاقلة.. الجزيرة.. جنين".