يواصل العراق تسجيل عمليات اغتيال تنفذها جماعات مسلحة، عبر الطرق التقليدية التي تتم غالباً عبر مسلحين في سيارة أو على دراجة نارية، يطلقون الرصاص على الضحية، مع إفلات دائمٍ من العقاب، إذ لا تتمكن القوات العراقية من اعتقال الجناة على الرغم من أن كاميرات المراقبة في أوقات كثيرة تصوّر الحوادث ويتداول ناشطون مقاطع مصورة للجرائم، فيما تكتفي السلطات في البلاد بالإعلان عن تشكيل لجانٍ تحقيقية. وطيلة الأعوام الماضية، لم تكن الجماعات المسلحة الجوّالة تهتم باستخدام الأسلحة الكاتمة للصوت، لكن في الشهرين الماضيين وقعت الكثير من تلك الهجمات بواسطة أسلحة كاتمة للصوت، في بغداد والبصرة والنجف، الأمر الذي اعتبره مراقبون تطوراً في منهجية عمل تلك الجماعات بما يعكس فشلاً أمنياً إضافياً، لا سيما أن حكومة مصطفى الكاظمي تواصل رفع شعار حصر السلاح بيد الدولة والقضاء على ما تسميه "السلاح المنفلت".
ورافقت ظاهرة الاغتيالات، وخصوصاً تلك التي تُستخدَم فيها أسلحة مزودة بأجهزة كاتم للصوت، المشهد العراقي منذ عام 2003، لكن وتيرتها كانت تخفت حيناً، ثم تعود للظهور. وسبق أن ضبطت وزارتا الداخلية والدفاع عدداً من ورش تصنيع كواتم الصوت للمسدسات وبنادق القنص في مناطق عدة، أبرزها ورشة في شارع الشيخ عمر ببغداد، عام 2006، وأخرى في جنوب العراق وغربه. وظهر يومها تورط جماعات تتبع تنظيم القاعدة ومليشيات مسلحة، أبرزها "جيش المهدي" و"عصائب أهل الحق". وعلى الرغم من تسجيل اغتيالات محدودة لناشطين بواسطة كواتم الصوت في الأعوام الأخيرة، وتحديداً منذ 2019، لكن شهدت الأشهر الأولى من هذا العام عودة لافتة لهذه الظاهرة التي تصعّب عادة من عمل قوات الأمن العراقية. واغتيل أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي عبد القادر جسام، مدير الحملة الانتخابية للنائب في البرلمان رعد الدهلكي بمحافظة ديالى شرقيّ بغداد، وتبع ذلك عمليات أخرى في بغداد والبصرة وميسان وكركوك ومناطق أخرى من البلاد.
شهدت الأيام الأخيرة خمس عمليات اغتيال في العراق نُفذت بأسلحة مزودة بكواتم الصوت
وتقع فئات مختلفة ضحية الاغتيال، ناشطون وحقوقيون وتجار وعناصر أمن، وحتى مدنيون لأسباب مختلفة. وشهدت الأيام الأخيرة خمس عمليات اغتيال في العراق نُفذت بأسلحة مزودة بكواتم للصوت، إذ اغتيل تاجران في مدينة الكوفة بالقرب من مطار النجف الدولي، من قِبل مسلحين اثنين كانا على دراجة نارية استخدما أسلحة كاتمة للصوت. كما قُتل محامٍ في حي الجامعة ببغداد بالطريقة ذاتها، وقبل ذلك اغتيل مدني يعمل في سوق الوطن بالبصرة برصاصة من مسدس بكاتم للصوت أيضاً، كما اغتيل الإثنين الماضي عقيد في قسم مكافحة المخدرات بذات الطريقة في حي الشعلة غربي بغداد، الأمر الذي يفتح باب التساؤل عن الجهات التي تمتلك كواتم الصوت وطرق الحصول عليها، خصوصاً أن المعروف أنها لا تُباع بسهولة، كما أن أسعارها مرتفعة.
وعن ذلك، قال مسؤول أمني من مديرية شرطة العاصمة بغداد، لـ"العربي الجديد"، إن "غالبية العصابات المتنفذة تمتلك أسلحة كاتمة للصوت، لكنها لا تستخدمها في معظم العمليات الإجرامية التي تنفذها، وهذا الشيء ينطبق على الجماعات المسلحة في بغداد وبقية المحافظات"، مضيفاً أن "ما يدعوها عادة إلى استخدام هذه الكواتم هو ما يرتبط بمدى جدية الإجراءات الأمنية المتخذة من قبل السلطات المحلية في المحافظات، إذ يلجأ المسلحون عادة إلى استخدام الكواتم بسبب الانتشار الأمني في المدن والأحياء والأزقة، كما أنها تستخدمه حين يكون الهدف مهماً أو من المتوقع أن يكون مسلحاً هو الآخر، وهذا باعتراف مجرمين تمّ إلقاء القبض عليهم في فترات سابقة، كما أن هناك مواطنين عاديين يمتلكون كواتم للصوت".
وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن "بغداد هي مصدر توزيع الكواتم للمسدسات والرشاشات، وهذه الكواتم التي هي في الغالب روسية الصنع تدخل إلى العراق عن طريق التهريب، وتصل إلى بغداد وتباع في مناطق نشاط المليشيات مثل أحياء مدينة الصدر، والزعفرانية، والشعلة، والحرية، ويصل سعر كاتم صوت السلاح إلى ثلاثة آلاف دولار أميركي". ولفت إلى أن هذه "الأنشطة بالمجمل يستخدم المنخرطون فيها هويات ورخصاً لفصائل مسلحة تعمل ضمن الحشد الشعبي، وعادة لا يتم تفتيشهم على الحواجز، وحتى لو رُصدت بحوزتهم مواد ممنوعة فإنه لا يرجح إيقافهم لاعتبارات معروفة بشأن تلك الجماعات وتجنّب رجال الأمن الدخول في مشاكل معهم".
وحذر نواب في البرلمان العراقي من تنامي ظاهرة تجارة السلاح غير المرخص في البلاد، الذي شمل أخيراً أسلحة متوسطة وقذائف صاروخية استُخدمت في اشتباكات عشائرية ونزاعات اجتماعية في مدن جنوب البلاد ووسطها، ودخول أنواع أسلحة جديدة، لا سيما الكواتم الحديثة وأنواع مسدسات صغيرة باتت هي الأخرى منتشرة في البلاد. وأشار عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي بدر الزيادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن "العراقيين يعانون كثيراً من ظاهرة السلاح المنفلت وتمكّن العصابات من تنفيذ جرائمهم المنظّمة، وخلال السنوات الماضية كان البرلمان داعماً للجهود الحكومية التي تهدف إلى حصر السلاح بيد الدولة وحدها، ومنع أي مظاهر مسلحة أو امتلاك المواطنين أي نوع من الأسلحة"، مضيفاً "لكن هناك تقصيراً حكومياً في هذا الملف، كما أن شرائح كبيرة من العراقيين اعتادت على امتلاك الأسلحة"، موضحاً أن "حدوث عمليات اغتيال في البلاد لا بد أن يدفع الحكومة إلى المضي بإنهاء ظاهرة انفلات السلاح".
اتهامات للحكومة بالتقصير في مواجهة السلاح المنفلت ومطالبات بإنهاء هذه الظاهرة
أما رئيس اللجنة الأمنية في مجلس بغداد السابق، سعد المطلبي، فلفت إلى أن "العراقيين يمتلكون الأسلحة بشتى الصنوف، ولكن هناك عصابات بعضها مدعوم من جهات متنفذة في الدولة وأخرى تمتلك أجنحة سياسية تستغل هذا الانفلات وتمارس عمليات ابتزاز وقتل بحق عراقيين"، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن "كاتم الصوت هو من أخطر ما قد ينتشر في العراق، كونه يسهم بنشر الرعب بين صفوف المدنيين، وتُرتكب بسببه مجازر لا تُعرف إلا بعد فترة من تنفيذ الجريمة".
وتعليقاً على ذلك، رأى الخبير الأمني أحمد الشريفي، أن "هناك جهات مسؤولة ومليشيات على صلة بالدولة والكتل السياسية مستفيدة من فوضى انتشار السلاح، وتقتل كل من لا يخضع لمطالبها، وبعض هذه المليشيات لا تخشى أيا من حملات الحكومة لضبط المسلحين أو عمليات حصر السلاح، لأنها تتذرع بأن أسلحتها وما تمتلك من معدات تابعة للدولة أصلاً". ولفت في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "حالة عدم الاستقرار الأمني تمثّل مكسباً لبعض القوى المسلحة والسياسية، وبالتالي فإن أي حملة جادة لإنهاء أشكال التسلح تعني خسارة أطراف فاعلين في إدارة الدولة، وعادة هذه الأطراف هي التي تقوم بعرقلة الحملات الأمنية الجادة لضبط الوضع الأمني".
وسبق للكاظمي أن أطلق حملات عدة في مدن مختلفة جنوبي البلاد، أبرزها البصرة وميسان والعمارة وذي قار، سمّاها "حصر السلاح بيد الدولة"، لكن لم تنجح أي من تلك الحملات في الحد من ظاهرة السلاح المنتشر أو من المواجهات المسلحة التي تتكرر أسبوعياً بين العشائر المختلفة ولأسباب كثيرة ذات طابع اجتماعي بالعادة. كما أن هذه الحملات لم تمنع الاتجار بالسلاح عبر وسطاء وسماسرة، ومن خلال مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي. وتتفاوت عمليات بيع الأسلحة من مسدسات قيمتها 700 دولار، وصولاً إلى مدافع هاون وقذائف محمولة على الكتف وصواريخ كاتيوشا وأسلحة قنص ورشاشات ثقيلة، غالبيتها روسية وصينية الصنع.