أزمة جديدة تعيشها هيئات الجاليات الإسلامية في فرنسا، مع الإعلان عن تشكيل "منتدى الإسلام الفرنسي"، ليحل مكان "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية"، الذي ينتظر الإعلان الرسمي عن حل نفسه، بعد أن نعاه رئيسه محمد موسوي، عندما اعتبر أن هذه المؤسسة "لم تعد قابلة للاستمرار"، وينبغي أن تحل نفسها، بعد حوالي 19 عاماً على تأسيسها عام 2003 من قبل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، حين كان وزيراً للداخلية.
وكانت مهمة المجلس في حينه القيام بدور تمثيل الجاليات الإسلامية، والمحاور الرئيسي للسلطات الفرنسية، فيما يتعلق بإدارة شؤون الديانة الإسلامية في بلد يشكل فيه الإسلام الديانة الثانية، ويتجاوز تعداد المسلمين 6 ملايين، أي ما يقارب 10 في المائة.
وتألف "المجلس" من حوالي عشرة اتحادات مساجد غالبيتها قريبة من الدول الأصلية للمصلين فيها، مثل المغرب والجزائر وتركيا، ولكنه شهد خلافات متواصلة بسبب منافسة مغربية-مغربية بين اتحادين قريبين من المغرب، وخلافات جزائرية-مغربية خصوصاً مع تصاعد التوتر في الفترة الأخيرة بين هذين البلدين.
ولكن الأزمة الأكبر التي واجهها المجلس هي في العام الماضي، حين قررت الدولة الفرنسية إصدار "ميثاق مبادئ الإسلام الفرنسي"، الذي يمنع "تدخل" دول أجنبية، ويعيد تأكيد "تماشي" الإسلام مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، وهو الأمر الذي رفضته ثلاثة اتحادات، اثنان منها تركيان، ما ادى إلى انقسام أول في المجلس.
وانسحبت من مكتبه التنفيذي بعد ذلك أربعة اتحادات من بينها "مسجد باريس الكبير"، وشكلت "تنسيقية" خاصة بها، وعادت الاتحادات المتحفظة على الميثاق عن قرارها، ووقعت عليه في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان كان قد اعتبر في هذه الأثناء أن "المجلس مات".
منتدى الإسلام في فرنسا
البديل الجديد هو "منتدى الإسلام في فرنسا"، سيرى النور، رسمياً، في الأيام المقبلة، وهو يتكون من 80 إلى 100 شخص، من مسؤولين ثقافيين وأئمة وأفراد من المجتمع المدني من كافة أرجاء فرنسا، تختارهم وزارة الداخلية الفرنسية من بين العناصر الأكثر ديناميكية في هذه الديانة، ممن رصدتهم خلال 300 لقاء محلي.
وسيبحث في اجتماعه الأول أربعة مواضيع منها، إعداد الأئمة، وتنظيم الديانة والأعمال المناهضة للمسلمين، وبدأت أربع مجموعات عمل من الآن الاجتماع، على أن تكون اجتماعات المنتدى سنوية بعد ذلك.
سيبصر "منتدى الإسلام في فرنسا" النور قريباً
وتهدف هذه المبادرة، وفق التعريف الذي وضعها لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى التوصل لتمثيل للإسلام يستند إلى الأطراف المحليين، بما يشكل استكمالاً لاجتماعات عقدت على صعيد المقاطعات في السنوات الأخيرة.
وتعمل خصوصاً على مواجهة حالة التنازع والخلافات داخل "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية".
وتراهن الدولة الفرنسية على أن يشكل هذا "المنتدى" الجديد قطيعة كبيرة، لأن "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" تم تصميمه من أجل تجميع الاتحادات الإسلامية، التي تأسست منذ فترة طويلة على يد المهاجرين.
ويستوحي "المنتدى" النموذج الألماني الذي كتب له النجاح، لأن الأتراك يشكلون نسبة حوالي 90 في المائة من المسلمين في ألمانيا مما سهّل مهمة الاتفاق، في حين أن شقة الخلاف كبيرة في فرنسا التي يتوزع فيها ثقل المسلمين بين أغلبية جزائرية، ولكن ليست مطلقة، وأقليات أخرى متنافسة معها كالمغربية والأفريقية والتركية.
ومثال ذلك أن الجمعيات التركية والهندية والباكستانية قاطعت الاجتماعات التحضيرية لـ"المنتدى"، ولم تشارك في تشكيله.
وترى أوساط في الجالية الإسلامية أن الدولة الفرنسية حاولت الكثير من أجل تنظيم شؤون الديانة الإسلامية من خلال "مجلس الديانة الإسلامية"، ولكنها لم تنجح، وعندما قررت إيجاد حل جذري، فإنها ارتكبت خطأ يتمثل في مسألة تعيين أعضاء "المنتدى" الجديد من طرف وزارة الداخلية الفرنسية.
الأمر الذي يضرب مبدأ التمثيلية الديمقراطية من جهة، ويخل بقانون العلمانية القائم على فصل الدين عن الدولة من جهة أخرى، عدا عن أن قرار التعيين يحمل بعداً تمييزياً صارخاً، بالمقارنة مع علاقة الدولة بتمثيليات الديانات الأخرى، فهي لا تستطيع التدخل بتحديد من يمثل المسيحيين، أو اليهود في المؤسسات التي تمثلهم.
صحيح أن "مجلس الديانة الإسلامية" فشل في المهمة التي تأسس من أجلها، إلا أن الشروط لم تتوافر له كي يقوم بدوره على أتم وجه، ومنها أنه لم يكن يتمتع بميزانية خاصة به تسمح له بإطلاق مشاريع كبيرة.
ولم ينجح مشروع محاولة تمويل الديانة الإسلامية عبر النشاطات الاقتصادية اليومية، من سوق الحلال وجمع التبرعات وتنظيم الحج إلى مكة المكرمة، الذي طرح لفترة بالشراكة مع الجمعيات المسلمة لمسلمي فرنسا.
وعانى من صفة تمثيلية متدنية، إذ إن أقل من 50 في المائة بقليل من 2500 مسجد في فرنسا منضوية فيه.
ويعتبر قريبون من التجربة أن عوامل فشل المسألة متعددة الأبعاد، وعلى رأسها أن الاتحادات التي تنتمي إلى المجلس لم يكن لديها مشروع مشترك، مما جعل إنجازاته على الأرض محدودة جداً.
لكن ما هو أهم من ذلك هو الخلاف المستمر بين الدولة الفرنسية و"المجلس"، الذي لم تترك له هامش العمل باستقلالية، وتدخلت على الدوام كي ينفذ رؤاها وخططها، مما أدى إلى تفاقم الخلافات بين مكوناته.
وهنا يمكن الحديث عن الخلاف المغربي الجزائري داخل المؤسسات، والصراعات بين المجلس ومسجد باريس على تمثيل المسلمين.
دور الأجهزة الفرنسية في انقسام المجلس الإسلامي
ولعبت الأجهزة الفرنسية على هذه المسألة، ما أدى إلى مشاحنات دائمة بين المجلس الذي يعد نفسه المؤسسة التمثيلية الشرعية، والمسجد الذي يعتبر نفسه هو الأساس ومركز الثقل الإسلامي، ولا يمكنه أن ينضوي تحت جناح أي مؤسسة أخرى.
وكان تشكيل مجلس للأئمة موضوع نزاع بين مجلس باريس الكبير والمجلس الفرنسي للديانة المسلمة.
وفي اجتماع حضره أكثر من 200 إمام ومدير مسجد في فرنسا، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن مسجد باريس الكبير، وثلاثة اتحادات إسلامية فرنسية، تأسيس مجلس وطني للأئمة، في خطوة جاءت استجابة لما طلبته الحكومة الفرنسية في قانونها لما سمته "محاربة الانعزالية الإسلامية"، وبهدف بسط الدولة يدها على أماكن العبادة الإسلامية.
وفي المقابل، ندد "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" بهذه المبادرة، وهو الذي كان يعتزم بدوره إنشاء مجلس للأئمة، يما يكشف انقساماً وصدامات وقعت في أوساط الجالية المسلمة إثر هذا الأمر، الذي بقي من أهم القضايا الخلافية بين الدولة والمنظمات الإسلامية، وبين المنظمات الإسلامية.
"مجلس الديانة الإسلامية" فشل في المهمة التي تأسس من أجلها
هذا الوضع يطرح السؤال حول دور الدولة وماذا تريد؟ أول ما تهدف إليه السلطات الفرنسية من باب تشجيع الاندماج، هو إيجاد "إسلام فرنسي"، والحيلولة دون أسلمة فرنسا، وهذا يتطلب قطع صلات المهاجرين ببلد المنشأ، وعدم التأثر بالعلاقة بين فرنسا والبلدان ذات الحضور القوي في أوساط الجاليات مثل المغرب والجزائر وتركيا.
وهذا أمر واضح وملحوظ، لأن مزاج هذه الجمعيات يتأثر إلى حد كبير بعلاقات فرنسا مع بلدان الأصل، وإذا اختلفت فرنسا مع الجزائر، يظهر صدى ذلك لدى جامع باريس الكبير، الذي تهيمن عليه قيادة جزائرية منذ زمن طويل، من الشيخ عباس في الثمانينيات، إلى دليل أبو بكر في التسعينيات، وحتى المسؤول الحالي شمس الدين حافظ.
وفي ظل هذا التنازع أصدرت فرنسا في يوليو/تموز الماضي القانون المثير للجدل ضد ما يعرف بـ"النزعة الانفصالية"، والذي يستهدف الإسلام المتطرف، وتم تبنيه بشكل نهائي بعد نحو عام من الجدل والنقد الشديد من اليسار واليمين.
وصدر النص تحت عنوان "احترام مبادئ الجمهورية"، وقدمه حزب رئيس الجمهورية إلى البرلمان بوصفه علاجاً لـ"سيطرة الإسلاميين" على المجتمع.
وإذ يجرّم النص "الانفصالية" ويعزز الرقابة على الجمعيّات وتمويل الأنشطة الدينية ويشدد الخناق على نشر الكراهية عبر الإنترنت، فإنه يكرّس مبدأ الحياد الديني لموظفي القطاع العام. ويهدف ذلك تحديداً إلى منع تسرب أشخاص يُعتبرون متطرّفين إلى أجهزة الدولة، ومكافحة "الإسلام المتطرف".
والهدف الثاني للدولة الفرنسية هو تبني وجهة نظرها، فيما يتعلق بممارسة الشعائر وتأهيل الأئمة، والتي تقوم على عدة قواعد ملخّصها أن الإسلام دين مثل بقية الديانات الأخرى، يمارسه المواطنون الفرنسيون المسلمون ضمن قوانين الجمهورية الفرنسية وعلى أساس العلمانية.
وهذه مسألة لم تحسمها السلطات كلياً، على الرغم من أنها قطعت شوطاً كبيراً على صعيد التحكم بتأهيل الأئمة، وإبعاد من ترى أنهم يحضون على الكراهية، ويصدرون فتاوى تنعكس سلباً على فرنسا.
من هذه الفتاوى، المتعلقة بالمرأة وتعدد الزوجات والزواج القسري والجهاد، والذي تقول الدولة أنها ساهمت في التأثير على بعض الشباب، الذين التحقوا بصفوف "التنظيمات الإرهابية"، خصوصاً "داعش"، التي ضمت عدة مئات من الفرنسيين من أصول عربية وأفريقية، وبعض هؤلاء كان يتردد بصورة منتظمة على المساجد، ويقيم علاقة مع بعض الأئمة الذين يحرضون على العنف.
والهدف الثالث هو الابتعاد عن أي دور سياسي للجمعيات الإسلامية والمساجد، التي تتخذ مواقف حيال النزاعات في الشرق الأوسط، خصوصاً القضية الفلسطينية.
وتهدف ضغوط الدولة إلى وقف حملات التضامن والتأييد للشعب الفلسطيني، وذلك على غرار ما تقوم به الجمعيات اليهودية لمساعدة اسرائيل، ومنها "كريف" والتي هي عبارة عن فيدرالية للجمعيات اليهودية، وتشكل بمثابة لوبي يهودي لدعم اسرائيل.