منذ صدور أحكام السجن بحقّ متورطين في قتل المئات من المدنيين ودفنهم في مقابر جماعية في ترهونة في غرب ليبيا، يرفض ذوو القتلى هذه الأحكام ويصفونها بـ"غير العادلة"، مطالبين بإنزال عقوبة "الإعدام" بالمرتكبين.
ويقول محمد اللافي، والد مراد (30 عاما)، الذي عثر عليه في إحدى المقابر الجماعية، بينما يحتضن صورة ابنه، بكثير من المرارة: "خطفه مسلحو مليشيا الكاني عام 2019 في ترهونة، ليقتل ويخفى جثمانه في مقبرة جماعية"، قبل أن يتمّ التعرّف إليه مع العشرات غيره في مطلع العام 2022.
ويروي اللافي لوكالة "فرانس برس" واقعة خطف ابنه وعيناه تفيضان بالدموع: "خطفوه في 15 سبتمبر/أيلول 2019 من مزرعتي، عقب مكالمات هاتفية متكررة ليلاً لم يردّ عليها. وصلت إلى المزرعة فوجدت أنه تمّ العبث بها، وابني غير موجود".
عندما عُثر على مراد حُدّدت هويته عبر تحليل الحمض النووي (DNA)، ولم يكن قد تبقى منه إلا رفات.
وتمّ العثور على أولى المقابر في يونيو/حزيران 2020 بعد مغادرة قوات المشير خليفة حفتر، الرجل النافذ في الشرق الليبي، المنطقة بعد شنّها في العام 2019 هجوما لم يحقّق أهدافه للسيطرة على طرابلس.
وتفيد تقارير وشهادات بأن الانتهاكات وعمليات القتل بدأت منذ العام 2015، عندما سيطرت مليشيا الكاني المعروفة بممارساتها العنيفة على ترهونة التي يقطنها قرابة أربعين ألف شخص والواقعة على بعد ثمانين كيلومترا جنوب طرابلس.
وكان ستة أشقاء يقودون المليشيا التي تألّفت من قرابة خمسة آلاف مسلح، وبثّت الرعب وقضت على كل صوت معارض لها، ومارست التعذيب، وقتلت عائلات بكاملها.
بعد سقوط الزعيم السابق معمّر القذافي في العام 2011، انفجرت النزاعات بين المناطق وظهرت مليشيات تتنازع على السلطة في المدن والأحياء. وكانت مليشيا الكاني مؤيدة في البداية لقوات طرابلس، قبل أن ينتقل ولاؤها إلى قوات حفتر الذي جعل من ترهونة قاعدة خلفية له في هجومه على طرابلس.
وقتل ثلاثة من الأشقاء، وفرّ الآخرون. ويرجّح السكان أنهم موزّعون بين بنغازي، معقل حفتر في الشرق، ومصر والأردن.
في مدينة ترهونة اليوم منازل مدمّرة يقول السكان إنها لمعارضي عائلة الكانيات... على عدد من الجدران في وسط المدينة، كتبت أسماء القتلى الذين عثر عليهم في المقابر الجماعية.
وأصدرت محكمة عسكرية في طرابلس في فبراير/شباط أحكاما تراوحت بين السجن لمدة ست سنوات أو عشر أو 15 او لمدى الحياة، على قرابة ثلاثين متهما بقتل مئات المدنيين الذين عثر عليهم في مقابر ترهونة الجماعية.
ويتوقّع صدور أحكام جديدة بحق العشرات من المتهمين الآخرين خلال الأسابيع المقبلة، بحسب ما أفاد مصدر في وزارة العدل.
ويقول عضو منظمة "أهالي ضحايا ترهونة" مصعب أبو كليش إن الأحكام "غير عادلة وغير منصفة. كان يتوجّب الحكم عليهم بالإعدام وليس السجن فقط".
ويوضح لـ"فرانس برس" أن "جميع ذوي ضحايا المقابر الجماعية غير راضين عن صدور أحكام السجن، لأن هؤلاء بالأدلة مسؤولون مباشرة عن مقتل المئات من المدنيين".
ويردف متسائلا "هل يُكافأ المجرمون بأحكام سجن مخففة؟"، واصفا ما فعلوه بـ"جرائم حرب".
ويرى محمد اللافي أن عقوبة "الإعدام" هي الحكم الوحيد الذي يمكن أن يخفّف حزن عائلته بعد فقدانها ابنا قتل بـ"دم بارد".
ويقول وقد جلس بجانبه عبد الحكيم، ابنه الأصغر: "منذ قتلوا مراد، زوجتي وأنا مريضان. أصبت بالسكري وارتفاع ضغط الدم، وزوجتي شبه مقعدة من حزنها. كان شابا طموحا لم يتورّط في صراعات السياسة ولا مع المليشيات، قتل فقط على الهوية".
وكان مراد ينتمي إلى قبيلة النعاجي التي كانت من أكبر المعارضين لحكم الكاني.
ويعتقد أبو كليش أن "جبر الضرر" واحد من أهم القضايا التي على الحكومة الاهتمام بها، للمساهمة في إغلاق ملف دام شهدته المدينة.
ويقول: "لدى ذوي الضحايا ثلاثة مطالب رئيسية: أولّها التعرّف إلى بقية المفقودين، ثانيا ملاحقة المجرمين وإصدار أحكام مشدّدة بحقهم، وثالثا جبر ضرر ذوي الضحايا الذين تُركوا في مواجهة مصير التجاهل".
مصير مجهول
يروي محمود المرغني أن عمّه خالد خُطف في منتصف العام 2019، ولم يعثر عليه أو على جثمانه بعد.
ويقول المرغني لـ"فرانس برس": "تيتّم بعده ثلاثة أطفال (7 و10 و14 عاما)، يسألونني كلّ يوم عن مصيره. قلت لهم إن عمي سافر إلى خارج ليبيا ولا أعرف متى يعود (...). لم أقوَ على إبلاغهم بأن والدهم خطفه مسلحو الكاني ومصيره غالبا الموت".
وخرج خالد المرغني (59 عاما)، من منزله الكائن في منطقة الخضراء بترهونة عقب صلاة العشاء في مطلع يونيو/حزيران 2019، ولم يعد. وبحسب شهود عيان، ترصّدت به سيارة دفع رباعي فور خروجه من المنزل، ثم اقتاده ثلاثة مسلحين إلى مقر الدعم المركزي الذي كانت تسيطر عليه مليشيا الكاني. لاحقا، شوهد داخل سجن سرّي يُمارس فيه التعذيب والقتل.
ويعتقد محمود المرغني أن مصير عمّه والمئات من المدنيين المجهول حتى اليوم ملفّ لا يقلّ أهمية عن محاكمة المجرمين.
ويقول: "لا شكّ أن عمّي خالد قتل.. نأمل بالعثور على جثمانه أو رفاته داخل المقابر الجماعية" التي تتواصل أعمال البحث فيها.
وبلغ عدد الجثامين والرفات التي استخرجت من عشرات المقابر الجماعية في ترهونة 350، تمّ التعرّف إلى هويات 226 من أصحابها، بحسب حصيلة غير نهائية للهيئة العامة للبحث والتعرّف إلى المفقودين (حكومية) في ليبيا.
(فرانس برس)