أكثر من شهر بقليل يتبقى على بدء مسيرة تطبيق الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين السعودية وإيران في العاصمة الصينية بكين في 10 مارس/آذار الحالي.
وأول خطوة مرتقبة هي عودة العلاقات الدبلوماسية، التي توقفت بين البلدين في يناير/كانون الثاني عام 2016، بعد اعتداءات قام بها متظاهرون إيرانيون على المقار الدبلوماسية السعودية في إيران، ومنها حرق القنصلية في مدينة مشهد، وذلك على أثر إعدام السعودية رجل الدين الشيعي نمر النمر.
ومن المنتظر قريباً، حسب نص الاتفاق والاتصالات الجارية، انعقاد اجتماع بين وزيري الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، من أجل بحث التفاصيل التنفيذية للاتفاق الذي وضعه أرفع مسؤولين أمنيين في البلدين، من الجانب السعودي مستشار الأمن الوطني في المملكة مساعد بن محمد العيبان، ومن الجانب الإيراني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.
مراحل الوصول إلى اتفاق
جرى النظر إلى تكليف شخصيتين من هذا الوزن بإدارة مفاوضات ذات طبيعة حساسة، على أنه دليل رغبة مشتركة لدى الرياض وطهران لإنجاز اتفاق، بعد فشل المحاولات السابقة التي جرت خلال العامين الماضيين، بدءاً من مارس 2021 في بغداد بمعدل خمس جولات، وثلاث جولات أخرى في مسقط.
ومن المعروف أن كلا من العيبان وشمخاني صاحب دور في صناعة القرار في بلده، وعلى صلة ومتابعة دقيقة لملفات الخلاف، التي يعود تاريخها إلى نحو خمسين عاماً، منذ الثورة على شاه إيران عام 1979 وموقف الرياض منها، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، واحتلال العراق، والثورة السورية، وسيطرة الحوثيين على صنعاء.
الجولة الخامسة من المفاوضات انعقدت في بغداد في إبريل/نيسان الماضي على مستوى استخباراتي رفيع، وترأسها عن الجانب السعودي رئيس جهاز أمن الدولة الفريق خالد الحميدان، وعن الجانب الإيراني مساعد الأمين العام لمجلس الأمن القومي سعيد إيرواني.
وأعلن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن الطرفين توصلا إلى "مذكرة تفاهم"، تتضمن مجموعة نقاط من أجل خريطة طريق تقود إلى ترميم تدريجي للشرخ الكبير بينهما.
جاءت الوساطة الصينية كي تبني على نتائج عام من المفاوضات في بغداد ومسقط
وكانت التصريحات العراقية والإيرانية تؤكد على نقطة أساسية وهي أن المفاوضات التي دامت عاماً انتهت بالاتفاق على المستوى الأمني، والاهتمام ينصب على تحويل المفاوضات إلى المستوى السياسي، تمهيداً لاجتماع مسؤولين من وزارتي خارجية البلدين من أجل انعقاد جولة في بغداد على مستوى وزيري الخارجية السعودي والإيراني، ولكن ذلك لم يحصل.
وفي الوقت الذي أبدى المسؤولون العراقيون والإيرانيون عجالة لتتويج المفاوضات، فقد برز التريث بوضوح في الجانب السعودي، وجرى تفسير أسباب ذلك بتجربة عام من الحوار، لم يكن فيها الطرف الإيراني على مستوى واحد من التناغم، بل كان الإيقاع متذبذباً، يعلو ويهبط، ويتراوح في مستوى المرونة، وغلب عليه التشدد وطرح الشروط المسبقة، التي أدت إلى تأجيل الجولة الخامسة أكثر من خمسة أشهر.
المؤشر المهم هنا هو أن المباحثات منذ الجولة الرابعة جرت بعد تسلم حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي المحافظ الحكم مطلع أغسطس/آب 2021. وهو أمر كان يحتاج إلى اختبار من الطرف السعودي، الذي واجه عملية الشروط الإيرانية المسبقة، في ما يخص الوضع في اليمن ولبنان.
ومنذ ذلك الحين لم تحصل لقاءات من أجل متابعة المباحثات أو تفعيل نتائجها. وفسّرت بعض الأوساط الجمود الذي خيم على الملف بالتطورات التي شهدها الوضع في العراق لجهة انهماك المسؤولين العراقيين بتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وامتحان وقف إطلاق النار في اليمن الذي جرى التوصل إليه في شهر رمضان من العام الماضي.
دور الوساطة الصينية
جاءت الوساطة الصينية كي تبني على نتائج عام من المفاوضات في بغداد ومسقط، ولم تنطلق من الصفر، ولذلك يعد اتفاق بكين نسخة مطورة عما جرى التوصل إليه في جولة بغداد الأخيرة، في المضمون والآليات التنفيذية، التي وضعت مدة شهرين أمام وزارتي الخارجية للانتقال نحو الخطوات الملموسة، التي تشير التصريحات والاتصالات إلى أنها قد تنطلق بين لحظة وأخرى.
شكل إعلان الاتفاق مفاجأة، ومع أن التفاؤل يطبع حديث الجانبين الإيراني والسعودي، والوسيط الصيني، ودول عدة في الإقليم وخارجه، فإن هناك شكوكاً ومخاوف وحالة من عدم الرضى في الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا. وأحدث الاتفاق حالة من الصدمة في وسط هذه الأطراف، التي لم تكن تحسب أن بكين ستقوم بخطوة من هذا القبيل في هذا الظرف بالذات.
تواجه إيران وضعاً اقتصادياً صعباً من جراء تشديد العقوبات الاقتصادية عليها
ومنذ الإعلان عن نص الاتفاق، تنهمك الأوساط المعنية والدوائر المختصة في دراسة وتفسير النتائج المترتبة على تنفيذه، وحساب الأرباح والخسائر التي سيجنيها الطرفان المباشران وانعكاساته الإقليمية والدولية، خصوصاً أن هناك قضايا شائكة وصعبة لا يمكن حلها على مستوى ثنائي، وتحتاج إلى توافقات إقليمية ودولية، مثل أمن الخليج، وملف الطاقة، والتدخلات في شؤون الدول الأخرى، والنشاطات الإيرانية المزعزعة للاستقرار.
من جانب إيران، يبدو أن المنتظر من الاتفاق هو أمني وسياسي واقتصادي، في وقت تواجه استحقاقات مهمة داخلية، خارجية، وإقليمية. ويأتي في الصدارة الحراك الاجتماعي السياسي المعارض للنظام، والذي يتواصل منذ عدة أشهر على خلفية وفاة الشابة الكردية مهسا أميني. ولم تثمر محاولات السلطات الإيرانية عن احتواء هذا الحدث، الذي لا يزال ينذر بأن يتطور، وما تعمل عليه الحكومة هو عزل التطورات عن التدخلات الخارجية.
وتواجه إيران وضعاً اقتصادياً صعباً من جراء تشديد العقوبات الاقتصادية عليها، وانعكس ذلك بارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، واستمرار انهيار العملة الوطنية، وكانت تعول على إحياء الاتفاق النووي، والإفراج عن مليارات من الدولارات مجمدة في الغرب، كي تعالج مشاكلها، ولكن هذا الأمر غير وارد حالياً، وصارت حظوظ إحياء الاتفاق متدنية.
ومن المؤكد أن تعثر المباحثات حول إحياء الاتفاق النووي، يحمل تبعات سلبية كبيرة لإيران، وما هو ملحوظ هو عودة التوتر والتهديدات بتوجيه ضربة عسكرية لإيران.
وقد كانت تل أبيب تعمل على حشد بعض دول المنطقة معها، وذلك من خلال اتفاقات التطبيع، ومجرد وقوف السعودية خارج هذه الدائرة يرفع عن إيران عبئاً كبيراً، وهذا مكسب تحصل عليه طهران، ومن البديهي أن تقدم مقابله تنازلات سياسية في أكثر من ملف.
وفي حسابات الربح والخسارة هناك أولويات بالنسبة لكل طرف، ومن الجانب السعودي يأتي الوضع اليمني في الصدارة، لجهة تثبيت وقف إطلاق النار عن طريق التزامات تقبل بها كل الأطراف وتضع أرضية لحل شامل. إلا إن المسألة ليست يسيرة كما يتصور البعض لأن 8 سنوات من الحرب فتحت جراحاً كثيرة، يتطلب علاجها وقتاً وتنازلات واستعداداً من الجميع.
ويبدو أن هناك صعوبة في الذهاب بعيداً أكثر من تثبيت وقف النار، إلا أنه من المرجح أن تقوم إيران باستخدام نفوذها من أجل اقناع الأطراف بالدخول في تسوية سياسية، وستلجأ إلى استخدام هذه الورقة من أجل عدم الخوض في الملفات الأخرى بالعمق، كما هو الحال في سورية والعراق ولبنان. ولكن ستواجه بصعوبات تتعلق بشروط الأطراف اليمنية.
تعثر المباحثات حول إحياء الاتفاق النووي، يحمل تبعات سلبية كبيرة لإيران
وعلى عكس الانطباع السائد، فإن السعودية ليست في موقع ضعف أمام إيران في اليمن، وتدرك طهران أكثر من غيرها أن إمكانية الذهاب بالحرب إلى الأمام باتت مستنفدة كلياً، وأي جولة جديدة لن تكون لصالح المشروع الحوثي، الذي تلقى ضربات كبيرة بطرده في العامين الأخيرين.
الملف اليمني اختبار للطرفين
ويرى خبراء أن الملف اليمني سيكون هو الاختبار للطرفين، وبقدر ما هو صعب للسعودية، فهو معقّد من زاوية إيران التي يرفع أنصارها في اليمن سقف مطالبهم، في ما يتعلق بالتسوية السياسية.
ويأتي في المقام الثاني الملف اللبناني. وهناك تقديرات بأن اتفاق الطرفين على إخراج انتخاب رئيس للجمهورية في بيروت خلال الفترة المقبلة، سيكشف عن مدى قدرتهما على إنجاز تفاهمات مرضية بعيداً عن منطق القسمة والمحاصصة.
أما بالنسبة للشأن السوري، فيبدو أنه مطروح بقوة، ومن الناحية المنطقية تبدو نقاط الافتراق أكثر من نقاط اللقاء، ولكن احتمال التقاء الطرفين في منتصف الطريق وارد جداً.
ومن خلال المواقف والتصريحات الصادرة عن المسؤولين السعوديين، لا تبدو الرياض متشددة في تطبيع علاقاتها مع النظام السوري تدريجياً، وتراجع حذرها للانفتاح عليه في الآونة الأخيرة. وخطت عدة خطوات مهمة في اتجاه النظام من خلال تقديم مساعدات إنسانية أثناء كارثة الزلزال، حطت في مطاري دمشق وحلب، ومن ثم الاتفاق على استئناف العلاقات القنصلية والتمهيد لافتتاح السفارات.
وحينما طرح على وزير الخارجية السعودي موضوع عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية قال: "في الوقت الحالي أعتقد أن من السابق لأوانه مناقشة هذا الأمر"، وربط ذلك بمعالجة بعض "المخاوف".
ولم يتطرق للأسباب التي تم على أساسها تجميد عضوية النظام في الجامعة عام 2011، وهي تورطه في إطلاق النار على المتظاهرين السلميين. وهذا يعني أن رئيس النظام بشار الأسد ربما يشارك في القمة العربية في الرياض المقررة في مايو/ أيار المقبل، وإذا تم هذا الأمر فسيشكل مكسباً لإيران تقدمه السعودية.
من الواضح أن هناك رغبة مشتركة من جانب الرياض وطهران بحلحلة الموقف وتبريد الأجواء والبدء تدريجياً بمعالجة الملفات. قد لا يتحقق شيء من الرهانات الكثيرة على إحداث تحول في المنطقة، ويكتفي الطرفان بوضع حد للحروب الإعلامية ويعيدان العلاقات الدبلوماسية، وفتح القنصليات، واستئناف موسم الحج للإيرانيين بصورة عادية ومن دون توترات.