بعد نحو شهر ونصف شهر على فوزه بولاية رئاسية ثانية وأخيرة، يخوض ماكرون معركة طاحنة، اليوم الأحد، في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، في مواجهة اليسار واليمين، في محاولة لفرض سيطرته على "الجمعية الوطنية" (البرلمان). ومن المقرر إجراء دورة ثانية يوم الأحد، 19 يونيو/حزيران الحالي.
وعشية الانتخابات، يبدو المشهد الفرنسي معقّداً، إثر النتائج التي أفرزتها الانتخابات الرئاسية، التي أُجريت على دورتين، في 10 إبريل/نيسان الماضي و24 منه، وبروز كتلتين صلبتين لليسار، بقيادة جان ــ لوك ميلانشون، ولليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان.
ستشكل انتخابات اليوم فرصة ثانية لمعرفة حجم التقدم الذي سيحققه اليمين المتطرف مقارنة بانتخابات 2017
ومن شأن إفرازات هذه النتائج، أن تؤثر بتركيبة البرلمان الجديد وتحديد طبيعة المشهد السياسي الفرنسي للسنوات المقبلة، خصوصاً أن ميلانشون مندفع لخوض ما سمّاه "الجولة الثالثة" من الانتخابات، في مقابل استمرار معركة لوبان الداخلية مع المرشح الرئاسي الخاسر إريك زيمور.
معركة شرسة بين ماكرون وميلانشون
ويدرك ماكرون أن معركته مع الائتلاف اليساري "الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد" (نوبيس) بزعامة ميلانشون، أكثر شراسة من تلك التي مع اليمين المتطرف، خصوصاً أن ميلانشون كان واضحاً في تحديد أهداف حملته، وفي مقدمتها الحيلولة دون تمكن ماكرون من تحقيق فوز يمنحه الأغلبية في البرلمان، بما يؤمن له فرض ما يسميه "حكومة تعايش".
أما اليمين المتطرف بزعامة لوبان، فتتعدد حساباته، خصوصاً بعد نتائج الانتخابات الرئاسية، وما أظهرته من تطبيع شعبي مع خطاب اليمين المتطرف. وستشكل الانتخابات التشريعية فرصة ثانية لمعرفة حجم التقدم الذي سيحققه اليمين المتطرف مقارنة بانتخابات 2017 في ظل التحولات التي تشهدها فرنسا.
وتمتد ولاية المجلس النيابي الجديد لخمس سنوات، فيما تجرى الانتخابات على مستوى الدوائر الانتخابية كل على حدة، وعلى دورتين انتخابيتين. وللفوز بمقعد النائب، يجب على المرشح الحصول في الجولة الأولى على الأغلبية المطلقة للأصوات، وعدد مساوٍ لربع عدد الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية. أما لخوض الجولة الثانية، فيجب على المرشح أن يكون حاصلاً على عدد من الأصوات، تصل نسبته إلى 12.5 في المائة على أقل تقدير من عدد الناخبين المسجلين. وفي الجولة الثانية، تكفي الأغلبية النسبية للفوز. وفي حال تعادُل المرشحين، يفوز المرشح الأكبر سناً.
استطلاعات الرأي تعطي التقدم لماكرون
ووفقاً لاستطلاعات الرأي التي أُجريت بين 3 يونيو الحالي و10 منه، لشركات "هاريس ـ انترأكتيف" و"إيفوب ـ فيدوسيال" و"إيبسوس ـ سوبرا ستيريا" و"أوبينيونواي ـ كيا" و"كلاستر 17" و"إيلاب"، فإن تحالف "معاً" بزعامة ماكرون سينال ما بين 26 و28 في المائة من نيات المستطلعين. في المقابل، سينال تحالف "نوبيس" ما بين 24 و29.5 في المائة. أما اليمين المتطرف، فيحصد ما بين 19.5 و21 في المائة من الأصوات.
وتعني هذه الاستطلاعات أن تحالف ماكرون من المرجَّح أن ينال ما بين 260 و335 مقعداً في البرلمان الجديد، من أصل 577. أما تحالف ميلانشون، فسيكسب ما بين 120 و230 مقعداً، بينما تحصد لوبان ما بين 15 و65 مقعداً.
ويسعى ماكرون لضمان 289 مقعداً، لتشكيل الغالبية المطلقة، وتكريس نفوذه في الإليزيه، ورئاسة الحكومة بعد تعيينه إليزابيث بورن رئيسة لها في 16 مايو/ أيار الماضي، والبرلمان. وهو ما دفعه إلى القيام بحملة انتخابية، انتهت مساء أول من أمس الجمعة، بموجب القانون الانتخابي، طرح فيها نفسه "حصناً أمام المتشددين".
واستعاد الرئيس الفرنسي الحجج نفسها التي طرحها خلال الانتخابات الرئاسية، داعياً الفرنسيين إلى إعطائه "أغلبية واضحة" في الجمعية الوطنية، ملوّحاً بخطر التشدد من جانب اليسار واليمين المتطرف الذي يشكل "اضطرابات" لفرنسا.
وقال ماكرون، يوم الخميس الماضي، في خطاب ألقاه في جنوب غربي فرنسا: "لا شيء سيكون أخطر من أن نضيف إلى الاضطراب العالمي اضطراباً فرنسياً يقترحه المتشددون"، واضعاً لوبان وميلانشون في الخانة نفسها.
خطاب ماكرون دعوة لتعبئة انتخابية
والرهان الرئيسي يكمن في ما إذا سيحظى ماكرون بغالبية نسبية أو مطلقة في الجمعية الوطنية، وحجم المعارضة، ولا سيما من اليسار. واعتُبر خطاب ماكرون دعوة إلى التعبئة، إذ إن غياب أي غالبية برلمانية له سيعقد طريق الإصلاحات التي يريد الرئيس إنجازها في ولايته الثانية، التي تنتهي في عام 2027، خصوصاً في ملف التقاعد.
ولا يحظى ماكرون بأي مهلة سماح، ويبقى بعيداً عن الاندفاعة الاعتيادية لغالبية تخوض حملة انتخابية. وتتهمه المعارضة بالمماطلة و"الجمود". وتصدُر هذه الاتهامات في وقت يعبّر الفرنسيون عن قلق متزايد في استطلاعات الرأي، إزاء تباطؤ الاقتصاد الفرنسي وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، نتيجة الهجوم الروسي على أوكرانيا.
الرهان الرئيسي يكمن في ما إذا ماكرون سيحظى بغالبية نسبية أو مطلقة في الجمعية الوطنية
أما الحكومة الجديدة التي تشكلت قبل بضعة أسابيع، برئاسة بورن، فتجد نفسها مكبّلة بفعل الاستحقاق الانتخابي، فضلاً عن القضايا الجدلية التي أضعفت موقعها. وواجهت أولاً قضية وزير التضامن داميان أباد الذي اتُّهم بالاغتصاب، الأمر الذي نفاه. وكانت بورن قد حددت خريطة الحكومة الجديدة، ومحورها ثلاثة أمور "ملحّة"، بحسب وصفها، وهي القدرة الشرائية والصحة والمناخ، وذلك على وقع ارتفاع نسبة التضخم في فرنسا إلى 5 في المائة على أساس سنوي، في إبريل الماضي.
لكن بورن تعرّضت لما وصفه الإعلام الفرنسي والأوروبي بـ"الفضيحة"، مع وقوع أحداث استاد فرنسا، على هامش نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم بين ناديي ريال مدريد الإسباني وليفربول الإنكليزي في 28 مايو الماضي. وتمحورت المسألة حول تزوير بطاقات دخول مشجعي الفريقين إلى الملعب، واندلاع أعمال شغب على هامشه.
واتخذت القضية منحىً سياسياً، إذ وصلت المعارضة إلى حد المطالبة باستقالة وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي اضطر في نهاية المطاف إلى تقديم اعتذارات. وما يزيد الضغط على الحكومة أن عدداً من أعضائها، في طليعتهم رئيسة الوزراء، مرشحون في الانتخابات التشريعية.
ترجيح بمقاطعة قياسية للانتخابات التشريعية
غير أن طموحات ماكرون تصطدم بلامبالاة الناخبين الفرنسيين، بصورة مشابهة لعدم اكتراثهم بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية. ومن المرجح أن تسجل الدورة الأولى رقماً قياسياً جديداً لجهة المقاطعة، بنسبة تراوح بين 52 و56 في المائة (مقابل 51.3 في المائة في 2017) وفقاً للاستطلاعات الأخيرة.
وحول هذه النقطة، قال برونو جانبار، من معهد "أوبينيونواي ـ كيا"، في حديث إلى إذاعة "كلاسيك" أول من أمس الجمعة: "كان هناك عدم اهتمام كامل منذ البداية بالحملة، وقد ازداد مع الوقت. هذا مؤشر أيضاً، كما اعتقد، على سأم انتخابي"، مشيراً إلى أنه يتوقع "نسبة قياسية من الامتناع عن التصويت"، ولا سيما لدى الشباب.
مع العلم أن الفرنسيين المقيمين في الخارج، وفي بولينيزيا الفرنسية، أدلوا بصوتهم، فيما تمكن بعضهم من الإدلاء بأصواتهم عبر الإنترنت حتى الأول من يونيو الحالي. كذلك بدأ التصويت، أمس السبت، في عدة مناطق فرنسية خلف البحار، خصوصاً في المارتينيك وغوادلوب.
ميلانشون واثق من تحقيق اختراقات انتخابية مهمة
وفي وقت سعى فيه ماكرون لشحذ الحماسة الانتخابية، بدا ميلانشون واثقاً من تحقيقه اختراقات مهمة، وهو ما دفعه إلى إبداء سخريته يوم الأربعاء الماضي، مما سمّاه "الهلع السائد" في معسكر ماكرون. وقال: "عليكم أن تهابوا. ميلانشون عدواني سيلتهم أطفالكم". وسبق أن اعتبر، الأسبوع الماضي، عبر إذاعة "فرانس إنفو": "أننا في موقع جيد للانتصار".
أما في معسكر الغالبية الرئاسية، فأعلنت النائبة أورور بيرجيه أنه يُنظَر "بجدية" إلى صعود الائتلاف اليساري. من جهته، أكد الوزير المكلف العلاقات مع البرلمان أوليفييه فيران، أنه إذا لم يكن البرلمان "متوافقاً مع البرنامج الذي انتخب الرئيس على أساسه، فسيشكل ذلك زعزعة كبرى للسياسة في بلدنا على مدى السنوات المقبلة".
ويقصد فيران أن أي نوع من أنواع "البرلمان المعقّد"، سيمنع ماكرون من تطبيق وعوده وإصلاحاته، فضلاً عن غرق فرنسا بأزمة داخلية أشدّ ضراوة من أزمة احتجاجات "السترات الصفراء"، التي استمرت بين 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 و14 مارس/آذار 2020.
بدا ميلانشون واثقاً من تحقيق اختراقات انتخابية مهمة
وكانت الاحتجاجات التي اندلعت على خلفية ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة، قد امتدت مطالِبها لتشمل إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحكومة، التي رأى المحتجون أنها تستنزف الطبقتين العاملة والمتوسطة فيما تُقوّي الطبقة الثريّة. ومع أنها دعت في انطلاقتها إلى تخفيض قيمة الضرائب على الوقود، ورفع الحد الأدنى للأجور، إلا أن حركة "السترات الصفراء" رفعت سقف مطالبها إلى حد المطالبة باستقالة ماكرون.
يدرك ماكرون أن المرحلة الحالية، والمقبلة، أكثر حدّة من ولايته الأولى، فالغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، أفضى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة. ثم إن مناقشة الأوروبيين فكرة الاستغناء عن الطاقة الروسية واستبدالها بمصادر من دول أخرى، ساهمت أيضاً في ارتفاع الأسعار.
في المقابل، إن فرض البحرية الروسية حصاراً على المرافئ الأوكرانية، أجّج ارتفاع أسعار الحبوب والزيوت التي تصدّرها كييف. الأمر الذي دفع الإليزيه، مساء الجمعة الماضي، إلى إبداء استعداد باريس للمشاركة في "عملية" تتيح رفع الحصار عن ميناء أوديسا في جنوب أوكرانيا، وتصدير الحبوب الأوكرانية إلى البلدان التي تحتاج إليها.
ونقلت وكالة "فرانس برس" عن مستشار رئاسي قوله في هذا الإطار: "نحن في تصرف الأطراف لبلورة عملية تتيح الوصول إلى ميناء أوديسا بشكل آمن، أي تمكين السفن من العبور على الرغم من وجود ألغام في البحر". وأكد ضرورة أن "تصل محاصيل الحبوب المصدّرة من أوديسا إلى الأسواق، حيث هي منتظرة بأسعار معقولة، خصوصاً إلى البلدان الأفريقية".
كما يعلم الرئيس الفرنسي أن ألمانيا باشرت بالتحوّل إلى قوة عسكرية، ستكون الأكبر في الاتحاد الأوروبي، على خلفية الغزو الروسي. وهو ملف ينال من اهتمامه الكثير، مع تأكيده مراراً سعيه "لتقوية قدرات الجيش الفرنسي خلال المرحلة المقبلة".
(العربي الجديد، فرانس برس)