تم إغلاق باب ترشيحات القوائم الانتخابية المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، التي يفترض أن تتم في 22 مايو/أيار 2021 كجزء من سلة الإجراءات والتفاهمات بين الكل الفلسطيني (بما يمثله من أحزاب وتنظيمات فلسطينية، التي شاركت في لقاءات القاهرة، بالإضافة إلى ممثلي المجتمع المدني) والتي ستقود كما هو مفترض حتى الآن إلى انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية وما سيتلوها من انتخاب أو تعيين أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني.
ويمكن من متابعة طبيعة القوائم الانتخابية التي وصلت إلى 36 قائمة مشاركة في الانتخابات التشريعية، أن يلاحظ أنها اشتملت على عدد من القوائم الحزبية التقليدية التي ترأسها مواطنون من الضفة الغربية، في حين ترأس قائمة حماس مواطن من قطاع غزة حاليا، وهذه هي الانتخابات الثالثة في 25 عاماً من عمر السلطة الفلسطينية.
كما يمكن ملاحظة غياب الانتخابات الداخلية التمهيدية في الأحزاب الرسمية، التي اعتادت أن تقدم نفسها كممثل وربما الوحيد للشعب الفلسطيني، وهي خطوة إلى الخلف عما جرى في الانتخابات التشريعية السابقة عام 2006، إذ جرت فيها انتخابات تمهيدية داخلية بغض النظر عما تخللها من إشكاليات، ويبدو أن معظم القوى ذات النفوذ في جميع الأحزاب اعتبرت أن من مصلحتها الإبقاء على الشكل الذي تراه من التمثيل، وهذا ربما ساهم في ظهور العديد من القوائم الانتخابية خارج الأطر السياسية التقليدية.
أما باقي القوائم فقد تراوح تشكيلها بين التمثيل العائلي أو الجهوي والتي تعتبر نفسها مستقلة، وتظهر فيها جلياً الاعتبارات الجهوية أكثر من الاهتمام بالتمثيل السياسي، إذ لم تقدم معظم هذه القوائم قائمة كاملة أي 132 مقعداً للمجلس التشريعي، وبالتالي فهي معترفة مسبقاً بعدم قدرتها على تسلم قيادة المجلس ولو من الناحية النظرية.
ومن الواضح أن العديد من القوائم ما زالت تتعامل مع الانتخابات التشريعية باعتبارها ضرورة للعائلة ولحضورها المجتمعي، دون وعي لمهمة ودور العضوية في المجلس التشريعي، من تشريعات ومحاسبة وإقرار للموازنة ومناقشتها وغيرها من المهام الواجبة على أعضاء المجلس. وهناك قوائم أخرى تعبر عن التفاوت الاجتماعي، ذات الطابع المصلحي الفئوي الذي يخمد قطاعاً معيناً من الاقتصاد، مثل التي تمثل قطاعات محددة من رجال الأعمال والغرف التجارية وغيرها، وهناك قوائم تمثل جزءا من الوطن وهي معتمدة على منطقة معينة لديها مصالح اقتصادية محددة.
ومن الواضح أن هناك عدداً من القوائم لا يزال يتخيل أن الانتخابات ستجري بالقانون القديم، وفي نفس الوقت لم تتغير توجهات الأحزاب الرسمية من الانتخابات والمرشحين، إذ بقيت نفس الوجوه تقريبا تتصدر هذه القوائم باعتبار التاريخ النضالي والسياسي يؤهل المتقدم للقيادة في المستقبل. في وقت نجد أن الشباب الذين لم يشاركوا في أي انتخابات عامة سابقا لم يعطوا المواقع التي يستحقونها على الرغم من الحديث الجميل عن دور الشباب، وطبعا قانون الانتخابات نفسه عمل على وضع المعيقات أمام ترشح الشباب، عندما اشترط ألا يقل عمر المرشح عن 28 عاما. وبالمجمل، فإن جميع الشعب لم يعطَ الفرصة لاختيار الممثلين منذ العام 2006 (ويمثل منهم أقل من 40 عاما حوالي 40% من أصحاب حق الاقتراع) وبقي الشعب رهينة الخلافات والانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة وتداعياتها من شلل في عمل المجلس التشريعي السابق، والذي وصل إلى حل المجلس بمرسوم رئاسي في عام 2018 محتفظا بكل الصلاحيات لدى رئيس السلطة.
وإذا عدنا إلى الانتخابات التشريعية الأولى في العام 1996، التي جرت على أساس مناطقي تكرست فيه العشائرية والمناطقية، حيث تعدد وزن كل صوت بناء على عدد سكان كل محافظة، مما شكل خللاً كبيراً في التمثيل، وأتاح مساحة واسعة للعشائر والعائلات وكذلك المناطق، مثل المخيمات والمدن والقرى أو الديانة (في محافظة بيت لحم ورام الله مثلاً)ـ وجاءت النتائج لتكرس العشائرية بعيدا عن التمثيل السياسي الحقيقي، خاصة أن معظم الأحزاب قد قاطعت الانتخابات، مثل الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي وحركة حماس، وغلب الطابع المحلي على الانتخابات، وبالتالي جاءت النتيجة بمجلس تابع للقيادة السياسية، وتم تغييب التمثيل النسوي عن التشريعات، واستمر المجلس لمدة عشر سنوات جاءت فيه القوانين في أغلبيتها لصالح القطاع الخاص وتشجيع الاستثمار وغياب القضايا الاجتماعية.
لم يكن الاختيار العشائري محض صدفة فقد سبقه العديد من الإجراءات، مثل موقف بعض العائلات من الضمان الاجتماعي أو اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء (اتفاقية سيداو) أو غيرها، ومنها ما كان من بيانات عشائرية تدين فيها فصل أبنائها من جامعة القدس بسبب نشاطهم النقابي، أو في المبايعات ومحاولات فرض وزراء على أساس مناطقي، وكذلك تعزيز دور العشائر من خلال مجالس العشائر والصلاحيات التي تم إعطاؤها لها.
وفي محاولة لتدارك الوضع فقد جرى تعديل قانون الانتخابات بالقانون رقم (9) في العام 2005، بحيث يعطي 50% من المقاعد للنسبية وما تبقى للمناطقية، وبالتالي جاءت النتائج المناطقية لتترجم العشائرية والعائلية والجهوية، في حين أن القوائم كان التجربة الأولى من أجل تقديم التمثيل السياسي إلى الواجهة، وساهم في وصول عدد من القوائم الصغيرة إلى المجلس التشريعي، مثل الجبهة الشعبية والمبادرة وتحالف حزب الشعب وفدا والجبهة الديمقراطية، وبعض الكتل التي اعتبرت نفسها مستقلة مثل كتلة سلام فياض وحنان عشراوي، بالإضافة الى القوتين الرئيسيتين فتح وحماس، وظهر أن الانتخاب العشائري أفرز نتائج مختلفة عن الجزء النسبي.
ربما يكون من المبكر اليوم التعرف إلى مدى قدرة العشائر على الوصول إلى التشريعي، في حالة إجراء الانتخابات التشريعية في موعدها، ولكن أصبح واضحا أنه مع تراجع القوى السياسية قد تتقدم العشائرية والجهوية سواء على مستوى المحافظات أو بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كي تملأ الفراغ وتتصدر قوائم المجلس التشريعي. لكن الانتخابات المفترضة ستتم على نظام الانتخابات النسبي، وسيتم احتساب النتائج بناء على طريقة "سانت لوغي"، وبالتالي من الضرورة أن يضعف الدور العشائري نوعا ما، ولكنها أبقت على دورها في التأثير على تشكيل القوائم، وكذلك يتم التعامل معها كقوة انتخابية عددية متجانسة.
بالمقابل وعلى التوازي ظهر العديد من الحركات الاجتماعية، التي عملت جهدها للتميز عن الأحزاب السياسية في محاولة لتسويق الليبرالية، والابتعاد عن الفعل السياسي لصالح التركيز على الآني المحلي (بالتجزئة)، مستغلة الوضع الاقتصادي السيء والأداء الحكومي والحزبي السيئ.
وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، بغرض مراجعة الانتخابات المحلية في العديد من المواقع، نلحظ دعوات العشائر ووجهائها المطالبة المواطنين بالتسجيل والمشاركة في الانتخابات، على اعتبارها تظهر قوة هذه العشيرة مقابل الآخرين، وظهر ذلك في ما سمي بالتوافق بين العائلات على تشكيل المجالس المحلية، الذي كرس العشائرية وقدم المصالح العائلية على المصلحة العامة في العديد من المواقع، التي جاءت في معظمها بالتوافق بين العائلات، ما أدى إلى غياب الانتخابات فيها ونجاح القوائم بالتزكية دون منافسة حقيقية وديمقراطية، عبر مباركة جميع الجهات السياسية والحكومية لهذا التوجه.
وبالمقابل تجلت الفئوية والجهوية في التمييز على أساس الدين (المسيحيون والتعامل معهم كأقلية)، والجهوية (القدس لاعتبارات سياسية لا تشكل أي أساس للانتخاب الديمقراطي وخاصة إذا كان على أساس سياسي)، التي تتجلى في سعي كل محافظة لوضع أبنائها في المواقع المتقدمة داخل القوائم المختلفة، أو تشكيل قوائم جهوية تعتقد أن حجم الأصوات التي تمتلكها تأخذها للوصول إلى المجلس، وبالتالي حماية مصالح العشائر دون النظر الى مهام وواجبات المجلس نفسه.
كل ذلك يأتي في سياق تعزيز إمكانيات العشائر وتشجيعها من قبل المتنفذين في السعي لتغليب العشائرية على الانتخاب السياسي والبرامج السياسية، مما ساهم في تراجع المصلحة الوطنية العامة والتشكيك في قدرة الأحزاب السياسية على التأثير والقيادة، وطبعا هذا التراجع الذي ساهم فيه النظام السياسي الفلسطيني نفسه، نتيجة تراجع الفعل السياسي العام وأبرز العشائرية، بعد أن كان الانقسام السياسي هو الأساس، أصبحت العائلية والعشائرية هما الأساس حتى في حل القضايا الكبرى.
ويظهر ذلك كله ضعف الأداء الحكومي في العديد من القضايا التي برز فيها دور العشائر، منها الاحتجاجات على قانون الضمان الاجتماعي واضطرار الحكومة إلى إيقافه منذ أكثر من 3 سنوات، وكذلك الموقف من الحد الأدنى للأجور ومعارضة العشائر ذلك، مما ساهم في إبقاء حوالى 40% من العاملين لا يحصلون على هذا الحد، والمثال الصارخ الذي أظهر الضعف الحكومي وقوة العشائرية هو موقف هذه العشائر من اتفاقية سيداو ومهاجمتها من قبل العشائر، ما دفع الحكومة إلى الصمت وعدم الحديث عن الموضوع من جديد.
في النهاية، يمكن القول إن تراجع الفعل السياسي والتنظيمي والسياسات الحكومية الخاطئة ساهمت في تعزيز اللجوء إلى العشائرية والجهوية بكل أنواعها، مما يضعف أداء أي مجلس تشريعي في حالة فوز العديد من ممثلي العشائر، وعلى أمل أن تجري الانتخابات وأن تكون الأولوية للانتخاب السياسي.