على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا، وانكماش اقتصادي ونسبة تضخم تشكل عامل قلق أساسي بعد عامين من الإغلاق جراء كورونا، يتوجه 48.7 مليون ناخب فرنسي، اليوم الأحد، إلى صناديق الاقتراع في فرنسا، للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية التي تجري بدروتها الأولى اليوم، والثانية في 24 إبريل/نيسان الحالي.
ويتنافس 12 مرشحاً للفوز بمنصب رئيس فرنسا، على رأسهم الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، وسط شعور بعدم اليقين والضبابية السياسية لدى الناخب الفرنسي، قد تترجم بنسبة امتناع قياسية، والتي قد تهدد بدورها بوصول اليمين المتطرف إلى الإليزيه للمرة الأولى بتاريخ فرنسا.
هذه الفرضية، التي فرضت على ماكرون تكثيف حملته المتأخرة خلال الأسبوع الماضي، للتحذير من خطرها، ليست وحدها من التداعيات المحتملة للمشهد الانتخابي الفرنسي للعام الحالي. إذ يترافق صعود الخطاب اليميني المتطرف في هذا البلد، مع حالة ضمور للأحزاب التقليدية، وأولها الحزب الاشتراكي، الذي لم تتمكن مرشحته آن هيدالغو، عمدة باريس، من تحسين نسبة التأييد للحزب، بين سنوات تراجعه التي شهدها في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند.
يخشى المراقبون من نسبة امتناع قياسية عن التصويت
وينسحب الوضع على حزب اليمين المعتدل (الجمهوريون)، والمشتت بين مراكز القوى داخله، حيث دخل منذ الآن في مرحلة إعادة تقييم لسياساته، مع فشل مرشحته أيضاً للرئاسة، رئيسة منطقة إيل دو فرانس، والوزيرة السابقة فاليري بيكريس، من فرض نفسها منافسة حقيقية للرئيس المنتهية ولايته.
وتتوجه الأنظار إلى فرنسا، اليوم، لرصد أحجام الأحزاب، مع انتهاء الاقتراع مساء، لا سيما اليمين المتطرف الذي ظلّ خطابه مهيمناً خلال السنوات الخمس من عهد ماكرون، وهو ما ترصده أوروبا، التي تقف على عتبة مفصلية من تاريخها، في ظلّ الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تشكل باريس أحد أعمدة السياسة الأوروبية لرسم خريطة طريق سياسية واقتصادية ودفاعية للمرحلة المقبلة.
وبحسب تعبير صحيفة "لوموند" الفرنسية، فإن أياً من المرشحين الـ12 للرئاسة، "لم يخرق جدار الصوت"، لإزالة حالة عدم اليقين التي تخيّم على هذه الانتخابات. ولم يحظ أي مرشح لأحد الأحزاب المتنافسة، بفرصة لالتقاط الأنفاس، ما يجعل من الصعب حسم النتيجة التي قد تحمل مفاجآت.
خشية من مقاطعة كبيرة للانتخابات الفرنسية
وتهدد نسبة الامتناع المرتقبة عن التصويت، والتي يخشى أن تتخطى النسبة التي سجلّت عام 2002 (28 في المائة)، حين وصل الرئيس اليميني جاك شيراك، وزعيم اليمين المتطرف (حزب الجبهة الوطنية)، ووالد مارين لوبان، جان ماري لوبان، إلى الدورة الثانية، حظوظ ماكرون، الذي دخل الحملة الانتخابية متأخراً، مقابل منافسته الرئيسية لوبان، التي تمكنت خلال الأسبوعين الماضيين، من تقليص الفارق في استطلاعات الرأي، لتقترب منه أكثر، وسط ترجيح استطلاعات الرأي صعودهما إلى الدورة الثانية.
كما يخشى فريق ماكرون، بحسب صحيفة "لوفيغارو"، من سيناريو "جوسباني"، نسبة إلى رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ليونيل جوسبان، الذي وجد نفسه خارج السباق الرئاسي من الدورة الأولى في 2002، مع تغلب لوبان الأب عليه، وهي كانت المرة الأولى التي ينتقل فيها اليمين المتطرف الفرنسي للدورة الثانية في عهد الجمهورية الخامسة. ويخشى فريق ماكرون، من تكرار هذا السيناريو، الذي يهدد الحيثية السياسية لحزب الرئيس الفتي، "الجمهورية إلى الأمام".
ويعني هذا السيناريو، غير المرجح رغم ذلك، صعود كلّ من لوبان وزعيم اليسار الراديكالي (حزب فرنسا الأبية)، جان لوك ميلانشون، الذي يحتل المركز الثالث بحسب استطلاعات الرأي، إلى الدور الثاني. ويعني ذلك دخول فرنسا مرحلة من الفوضى السياسية، على مقربة أيضاً من الانتخابات التشريعية في يونيو/حزيران المقبل، والتي يصعب معها توفير أي من لوبان أو ميلانشون الأغلبية البرلمانية.
12 مرشحاً لرئاسيات فرنسا
ويتنافس 12 مرشحاً لانتخابات الرئاسة الفرنسية، في الدورة الأولى اليوم، هم ماكرون ولوبان وميلانشون وهيدالغو وبيكريس، بالإضافة إلى الصحافي المثير للجدل والذي يمثل اليمين المتطرف أيضاً، إريك زيمور، ومرشح حزب الخضر يانيك جادو، ومرشح الحزب الشيوعي فابيان روسيل.
كما يترشح للانتخابات كل من ناتالي أرنو التي تترشح للمرة الثالثة للرئاسيات عن حزب "النضال العمالي"، ونيكولا دوبون-انيان (ديغولي اجتماعي)، الذي يتبنى خطاً سيادياً صرفاً، والنائب جان لاسال زعيم حزب "لنقاوم" (وسطي)، والمقرب السابق من فرانسوا بايرو، زعيم حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية (موديم) والداعم حالياً لماكرون، بالإضافة إلى ترشح فيليب بوتو عن "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية".
وتضع استطلاعات الرأي جميعها الرئيس ماكرون، في الصدارة، سواء في الدورة الأولى أو الثانية، لكن بفارق غير بعيد عن لوبان. وفي آخر استطلاع لشركة "هاريس إنتر- أكتيف"، أجري في 7 و8 إبريل الحالي (الخميس والجمعة الماضيين)، بلغت نسبة التصويت المرتقبة حدود 73 في المائة، أي أقل من نسبة التصويت قبل خمسة أعوام، والتي بلغت 77 في المائة.
ولفتت الشركة إلى أن الحرب في أوكرانيا، وعامين من الوباء، وحملة ماكرون المختصرة، وقلّة المناظرات بين المرشحين، جميعها عوامل ساهمت في شعور بعدم الحماسة يسود بين الناخبين بالنسبة إلى الاقتراع الرئاسي المرتقب. وقالت إن 7 من كل 10 فرنسيين وصفوا الحملة الرئاسية بـ"المخيبة"، وقال 65 في المائة من الفرنسيين إن الحملة فاشلة. وبالإضافة إلى عدم اليقين الذي يخيّم على النتائج المرتقبة، فإن الشركة رصدت أيضاً حركة تنقلات متوقعة بين المعسكرات المتنافسة، سواء في اليمين أو اليسار، وهي ما يجعل صعباً أيضاً التنبؤ بأي نتيجة.
ومن حيث الصدارة، واصل ماكرون تقدمه بحسب "هاريس إنتر – أكتيف" على جميع المرشحين، بحصوله وفق آخر استطلاع للشركة على أكثر بقليل من ربع أصوات الناخبين (27 في المائة)، وهي نسبة أعلى من تلك التي حصل عليها في الدورة الأولى عام 2017 (24 في المائة)، لكن مع تراجع منذ أكثر من أسبوعين، إذ كان تمكن من رفع نسبة التصويت له مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، لتنخفض لاحقاً.
وبحسب الاستطلاع، تواصل لوبان الاستفادة من هذا التراجع، إذ حقّقت نسبة 24 في المائة من التصويت، فيما حصد ميلانشون 18 في المائة من نوايا التصويت في آخر استطلاع للشركة. كما حصلت هيدالغو على 2 في المائة، وجادو على 4.5، وبيكريس على 8، وزيمور على 8.5، وروسيل على 2.5.
ونبّهت الشركة إلى أن 4 من أصل كل 10 ناخبين لبيكريس، قالوا إنهم قد يصوتون لماكرون، فيما قال 79 في المائة من ناخبي زيمور، إنهم قد يصوتون بدورهم للوبان. ومن جهته، يراهن ميلانشون على "التصويت المفيد"، وسط حركة التنقلات هذه، لكسب جزء من أصوات "الشيوعي" خصوصاً. وقال الخبير السياسي باسكال بيرينو، لوكالة "فرانس برس"، إن "هذا الاقتراع هو الأول الذي تبلغ فيه نسبة الأشخاص المترددين، أو الذين غيروا موقفهم، هذا المستوى مع 50 في المائة تقريباً".
ضعف الخطاب السياسي في فرنسا
وهيمن ضعف الخطابات السياسية من جهة، وتركيز الناخبين على همّ القدرة الشرائية، من جهة أخرى، على الحملات الانتخابية. وبحسب معظم الاستطلاعات، فقد وصف الناخبون الفرنسيون أنفسهم بأنهم خائفون أو قلقون، على مستقبلهم. ويعكس ضعف الخطاب السياسي تشنجات قوية داخل المجتمع الفرنسي، الذي يبتعد بشكل لافت عن الاهتمام السياسي الذي كان يصب في العادة في قوالب أيديولوجية يسيطر عليها اليمين واليسار، إلى الشأنين الاقتصادي والبيئي، حيث كان حقّق حزب الخضر نتائج جيدة في الانتخابات المحلية.
يخيم التردد والقلق على أمزجة الناخبين الفرنسيين
ويُظهر تقدم لوبان، في المقابل، في استطلاعات الرأي، بعد استعادتها لأنفاسها وتراجع "فقاعة" زيمور، تمكنها من "ترويض" خطابها الانتخابي، ليتلاءم مع هموم الفرنسيين، من جهة، وازدياد القبول لدى الناخبين لخطاب اليمين المتطرف، الذي يحاكي هواجسهم من المهاجرين في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة.
وعلى الرغم من محاولته طوال ولايته لملامسة جمهور اليمين المتطرف، صوّب ماكرون، في ختام حملته، سهامه على منافسته الرئيسية، مقراً بـ"نتائج غير كافية" خلال ولايته على صعيد الهجرة.
وقال ماكرون في حديث مع صحيفة "لوفيغارو"، نشر الأربعاء، إن "الأعمدة الحالية لخطاب اليمين المتطرف (في إشارة يستخدمها دائماً للحديث عن لوبان)، تبقى دائماً هي ذاتها: الهجمات ورفض الجمهورية، قاعدة معادية للسامية، معاداة للمهاجرين واضحة جداً، وميل للتيار المحافظ المتشدد".
من جهتها، واصلت لوبان وفريقها، في الأيام الأخيرة من الحملة، تحفيز الناخبين على المشاركة "لهزيمة ماكرون"، متحدثة أيضاً عن تقرب جزء من اليساريين "السياديين" مع طروحاتها.
وتستفيد لوبان، بحسب الخبير السياسي برونو كوتريه، في حديث لـ"لوفيغارو" نشر أمس السبت، من أصوات زيمور التي ستذهب إليها في الدورة الثانية، ولكن خصوصاً من تبدل صورة ماكرون، من المرشح الشاب الواعد في 2017، إلى الرئيس الذي اختبر طوال خمس سنوات اليوم، والذي لم ينجح في نقل الفرنسيين إلى مرحلة جديدة من الأمل.
ورأى كوتريه، بدوره، أن نسبة من القاعدة الانتخابية اليسارية قد تتجه للتصويت لميلانشون اليوم، والأمر ذاته بالنسبة للمؤيدين لزيمور، والذين قد يصوتون في نهاية المطاف للوبان، باتباع منطقية التصويت المفيد.
وعلى الرغم من الضبابية التي تفرضها الحرب في أوكرانيا، على المشهد الأوروبي عموماً، فإن النفور من خطة ماكرون لرفع سنّ التقاعد، يبدو أنها من أكثر ما أثّر على أمزجة الناخبين الفرنسيين، وهو بند يتمسك به ماكرون، ويتوافق فيه مع برنامج مرشحة اليمين التقليدي فاليري بيكريس. وتمكنت القدرة الشرائية، من جهتها، من إزاحة الكثير من مصادر القلق السابقة التي طبعت عهد ماكرون، من مسألة الهوية، والأمن، وقضية المهاجرين، والبيئة، إلى الأزمة الصحية.
وحاول ماكرون مراراً طمأنة الفرنسيين حول قدراتهم الشرائية، إلا أن المسألة ظلّت عامل قلق، قبل حرب أوكرانيا، ثم تفاقمت بعدها، مع ارتفاع أسعار الغذاء والمحروقات، واضطراب سلاسل الإمداد. ولم يتمكن الرئيس من الخروج من عباءة الرئاسة، مع انطلاق حملته الانتخابية، أو من عباءة "رئيس الأغنياء"، في إشارة إلى خططه للإصلاح الاقتصادي، والتي تعتبر غير صديقة لقطاعات عمالية وازنة في المجتمع الفرنسي.
وفي الشأن الخارجي، تكتسب الانتخابات الفرنسية أهميتها، لدور فرنسا المركزي في الاتحاد الأوروبي، وفي مجلس الأمن الدولي، وكدولة نووية، على الرغم من تراجع دورها في صياغة السياسات الدولية والتأثير عليها خلال الأعوام القليلة الماضية.
وينظر إلى هذه الانتخابات، كميزان لقياس حجم اليمين المتطرف في فرنسا، والمتهم بالتقارب مع روسيا فلاديمير بوتين، وحتى الحصول على تمويل من موسكو، وما سيكون لذلك من انعكاس على وضع اليمين المتطرف في كل أوروبا. أما على الصعيد العربي، فلم تكن القضية الفلسطينية، مركزية، طوال سنوات ماكرون الخمس، فيما قال الأخير قبل نهاية عهده، إنه سيظل يعتبر القدس "عاصمة أبدية للشعب اليهودي".