تعتبر الانتخابات من أهم وسائل التغيير المعتمدة عالميا، نظراً لكلفتها المنخفضة مقارنة بكلفة التغيير عبر الثورة أو الانقلاب أو التمرد العسكري أو سواها من وسائل التغيير ذات الكلفة المادية والبشرية الباهظة على المستوى الوطني. لكن ومن ناحية ثانية تكشف العديد من التجارب العالمية في دول العالم المتطورة وبدرجة أكبر في نظيرتها من دول العالم غير المتطورة، عن فشل الانتخابات في إحداث التغيير البنيوي المنشود أو المتوقع، رغم أصالة التجربة الديمقراطية في الكثير من دول العالم، حيث ينحصر التغيير في سياق ضيق ومحدود على الصعيدين الفردي ممثلا بتجديد نسبي في الأسماء، وبدرجة أقل يطاول الأسلوب والنهج الداخلي والخارجي مع الحفاظ غالبا على الاستراتيجية ذاتها. بينما يغيب التغيير كليا في الدول غير المتطورة، وكأن الانتخابات آلية استبدادية وديكتاتورية ناجعة. بكل الأحوال وبغض النظر عن التعمق في أزمة الديمقراطية والعملية الانتخابية العالمية، لا بد من التدقيق في حيثيات انتخابات فلسطين المزمع إجراؤها على ثلاث مراحل، بغرض تحديد الإيجابيات والسلبيات، وبناء موقف واضح منها، وإدراك دورها في تمثيل مصالح ناخبيها من أبناء فلسطين، داخل الوطن وخارجه.
فمن أجل ذلك علينا تجاوز الفهم الضيق للانتخابات على اعتبارها عملية تصويت مباشر من أجل اختيار أعضاء المجلس التشريعي واختيار الرئيس، في غياب الضغوط الأمنية وبأجواء من النزاهة الإدارية تحت رقابة دولية أو أوروبية. حيث يتم إهمال أهمية البيئة التي تسبق التصويت المباشر وما تلحقه من عمليات فرز، كتوفير سبل التواصل بين الناخب والمترشح، وحرية التنقل بين المدن والبلدات، وتحييد دور مراكز القوة المالية الرسمية وغير الرسمية في فرض توجهاتها، وضبط الدور الإعلامي من أجل ضمان عرض مختلف الآراء والتوجهات بحيادية وموضوعية وتوازن كامل من حيث الوقت والزمن والأسلوب، وتحرير المترشحين من القيود التي تحكم توجهاتهم، والعديد من المسائل الأخرى التي تضمن للمترشح عرض توجهاته، كما تضمن للناخب التعرف إليها والتيقن من صدق وأمانة المترشح سياسيا واجتماعيا. لكن وقبل التمعن في البيئة الانتخابية أو الديمقراطية، لا بد من الإشارة إلى أصالتها وديمومتها، فالغرض الحقيقي من البيئة الانتخابية تأمين أجواء صحية تمكن الشعب من اختيار ممثليه بثقة كاملة، وباستقلالية مطلقة بعيدا عن الضغوط، في حين نلحظ في الكثير من الأحيان تعمد النظم المسيطرة على حصر البيئة الانتخابية، بصورة هزلية غالبا، في نطاق زمني محدود يسبق موعد التصويت النهائي بأشهر معدودة وربما بأسابيع قليلة فقط. كما يتبدى في مرسوم رئاسة السلطة الأخير الخاص بتعزيز الحريات العامة، وربما يتبعه بعض التساهل الصهيوني تجاه حرية حركة بعض المترشحين داخل الأراضي المحسوبة على السلطة، وغيرها من التسهيلات السلطوية والصهيونية المحتملة في الأيام القليلة القادمة.
فمن هذه الزاوية تبدو الصورة الفلسطينية شديدة القتامة، إذ منع الشارع الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها من ممارسة أبسط الشروط التي تسبق الانتخابات منذ مدة طويلة جداً تسبق الانقسام والخلاف الفتحاوي - الحمساوي، من حواجز صهيونية وجدار فصل ومستوطنات تفرض قيودا على حرية الحركة بين المدن الفلسطينية المفترض تبعيتها للسلطة، إلى هيمنة مالية تفرض ذاتها سياسيا واجتماعيا، وأخرى أمنية داخل مناطق السلطة وعسكرية تتمثل في سلطات عشائرية في مناطقة السلطة، وعسكرية في بعض المخيمات الفلسطينية خارج فلسطين، تعمل جميعها على كم الأفواه وفرض منطق القوة والسطوة على حساب منطق ومعايير التنافس النزيه والحوار وحرية الرأي والرأي الآخر، وحق الشارع في الاختيار في أجواء خالية من الخوف والترهيب والقسر. وعليه ما هي الوسائل التي يملكها المختلفون مع توجهات الطغمة المسيطرة كي يخاطبوا الشارع ويتواصلوا معه بشكل مباشر؟ وما هي حقوقهم التي تتيح لهم حدا أدنى من الدعم المالي والإعلامي؟ ومن ثم كيف للشارع الفلسطيني الوثوق بهم بين ليلة وضحاها، بعد تغيبهم قسرا بفعل قوى السلطة والفصائل والعشائر والاحتلال طوال الفترة الماضية؟
هناك العديد من الجوانب التي يمكن الحديث عنها بخصوص انتخابات فلسطين، كانطلاقها من شرعية أوسلو بدلا من شرعية وطنية جامعة، ومخالفتها لقوانين السلطة ذاتها وقوانين وقرارات منظمة التحرير المفترض ولايتها على السلطة، وصولا إلى تعمد تغييب البيئة السياسية الضرورية لأي عملية ديمقراطية حقيقية تنتهي بممارسة الشعب لحقه في التصويت واختيار ممثليه الذين يثق بهم ليعبروا عن معاناته وتطلعاته وأهدافه. من كل ذلك، تبدو الانتخابات مجرد إجراء شكلي غالب الظن لا يقدم أو يؤخر في شيء، فهي نتاج الاحتلال أولا وسلطة أوسلو ذات الدور الوظيفي المعروف ثانيا، وبالتالي فهي لن تفضي إلى أي نتيجة تعبر عن تمكين الشعب من حكم ذاته بذاته، حتى لو تمخضت عن تغير شكلي في أسماء بعض رموز السلطة، وحتى لو تم تطبيق جميع المراسيم والتعليمات التي تتحدث عن توفير بيئة ديمقراطية موقتة منذ اليوم، فمدة شهرين قصيرة جداً وغير كافية لطرح الحلول وبناء الثقة ونقاش الاستراتيجيات، وعليه فنحن بأحسن الأحوال أمام مجرد مداورة بين الأسماء ذاتها المسؤولة والمساهمة في تشويه القضية ونزيفها.