صار لدينا الآن على الأقل، فاعل اقتصادي وفاعل سياسي، كلاهما من جبهة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ومسانديه، يعبّران عن مستوى نقدي كبير إزاء السياسات والخيارات القائمة، ويعلنان بالجرأة المطلوبة وجود خلل عميق وممارسات قد تقود إلى نفس نتائج المرحلة الماضية، رئيسة كونفيدرالية المؤسسات (أرباب العمل) سعيدة نغزة، ورئيس حزب صوت الشعب (من الحزام الرئاسي) لمين عصماني، بمعزل عن الثقل في الساحة والتأثير في المشهد لكل منهما.
ما هو واضح الآن في الجزائر، أن هناك قلقاً سياسياً عبّر عنه أكثر من طرف، موالاة ومعارضة، خصوصاً منذ نكسة "البريكس"، بشأن غموض الرؤية السياسية والتوجهات الكبرى للبلد، وضبابية كبيرة في التعيينات في المناصب العليا، وموت الفعل والنقاش السياسي في البلاد، وانكماش الإعلام إلى مستوى منخفض في الأداء، وفي إتاحة مساحات التعبير عن الرأي، وغياب النقدية وهيمنة السرديات الرسمية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ما هو جليّ للعيان، أن هناك توجساً اقتصادياً، إن لم يكن من الخيارات القائمة لإصلاح الاقتصاد، فمن أدوات تنفيذها. تُترجِم هذا التوجس الرسائل الغاضبة من هيئات رجال الأعمال، والتي تشكو من تكلس إداري يعاكس الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن تحييد البيروقراطية، ومن ضغوط معطلة للاستثمارات، ومناخ قلق ومعالجات غير واضحة للمشكلات وإتاوات وعوائد مستحقة للدولة، تقررها لجنة وزارية لا سند قانونيا لها، ألغيت لاحقاً.
ثمة أيضاً استياء اجتماعي يتفاقم، ليس فقط من غلاء الأسعار، ومن الارتباك الحكومي في إدارة السوق والتحكم في التموين بالمواد والأدوية، وسلسلة قرارات متداخلة (قرار يخص توريد اللحوم اتخذته الحكومة صباحاً وألغي مساء في مجلس الوزراء)، والخيبة من الاستجابة لاستحقاقات اجتماعية عاجلة. ولكن هذا الاستياء في الحقيقة ناتج أيضاً عن شعور مجتمعي بوجود إنكار حكومي لهذا الوضع الاجتماعي، واستمرار الحكومة في الاعتقاد بسردية وردية، يقول الجزائريون إنها "توجد في نشرة تلفزيون الحكومة فقط".
إزاء ذلك تبدو السلطة منشغلة أكثر بسنّ القوانين التي تعزز إمساك القبضة على الفضاء العام، وتفاقم سلطة الأجهزة الإدارية على السياسة والقضاء والإعلام والجمعيات والنقابات، وعلى البرلمان الذي تتجاوزه الحكومة وتسيطر على صلاحياته في التشريع، وصفه رئيس حزب صوت الشعب لمين عصماني "بالخطر الدستوري"، وتجمد آلياته الرقابية -على قلتها- لمساءلة الحكومة واستجواب رئيسها.
كلما مرّ الوقت ولم توجد العلاجات الضرورية لهذا القلق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كلما ازدادت الأوضاع تعقيداً، وكلما توسعت هوامش الخيبة من السياسات الحكومية، ومن النهج الذي اختاره تبون، بغض النظر عن النوايا الصادقة المعبر عنها.
وفي الحقيقة أن هذه العلاجات الضرورية لا يمكن أن تبرز إلا من خلال فتح المجال الخصب للنقاشات الجادة والعميقة، والاستجابة للحاجة النقدية للخيارات القائمة. تحتاج السلطة الآن إلى فعل ما هو ضروري، والضروري هو أن تضع نفسها وجهاً لوجه مع الحقائق، وتحرير مساحة النقاش وإعادة الصوت للمجتمع السياسي والاقتصادي. السلطة التي لا تستفيد من حاسة الاستماع، لا تبصر الأزمات في الغالب، وتعتقد أن كرة الثلج التي تكبر حولها لعبة خريف.