الحرب على غزة... انقسام أوروبي غير مسبوق

24 نوفمبر 2023
نشطاء في حراك تضامني مع غزة، روما 10 نوفمبر (Getty)
+ الخط -

الحرب الإسرائيلية على غزة خلطت أوراق الدول الأوروبية بين مؤيدة لها بقوة، ومعارضة، ومتأرجحة في موقفها. وكلما طال أمد الحرب، زادت التباينات، وألقت بتداعياتها على الوحدة السياسية للقارة، والتي لم تعرف حالة شبيهة من الانقسامات من قبل.

بدا أن الموقف الأوروبي لا يعاني من اختلاف في وجهات النظر بالنسبة لحدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لحظة وقوعه، وبالفعل تسابقت دول أوروبا لإعلان حركة "حماس" إرهابية، مبدية تضامنها مع إسرائيل، لكن عند الانتقال إلى ترجمة ذلك، أخذت الصورة بالتغيّر.

ولم يمض أكثر من أسبوعين على بدء الحرب الإسرائيلية، حتى برزت مواقف أوروبية على قدر من الاختلاف، وظهرت عدة مستويات فيها، بين مؤيد للحرب وداعم لها وفق التوجه الأميركي، ومن وقف على مسافة منها، أو عارضها كلياً، بالشجب والمطالبة بإيقافها.

موقف ألماني من الحرب على غزة على خطى أميركا

المستوى الأول يعبّر عن الاصطفاف إلى جانب إسرائيل، من دون نقاش أو سؤال، ويمثله الموقف الألماني، الذي يزايد على نظيره الأميركي في مساندة تل أبيب سياسياً وإعلامياً، وعلى صعيد تجييش الرأي العام، لتقديم كل أشكال الدعم لها في حربها حتى النصر الحتمي.

ومنذ 7 أكتوبر سبقت ألمانيا جميع العالم إلى اتخاذ إجراءات فورية لدعم إسرائيل. وكان المستشار الألماني أولاف شولتز أول الذين وصلوا إلى تل أبيب، لتقديم العزاء وإبداء كافة أشكال الدعم، سبقه في ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن. وكان ذلك علامة بارزة على ما سيتطور إليه الموقف لاحقاً.

ونُشر إعلان وقّعه الـ"بوندستاغ"، مجلس النواب الألماني، في الأماكن العامة، ومحطات النقل والمطارات، وعلى اللوحات الإعلانية المضيئة في جميع أنحاء ألمانيا. وجاء فيه: "البوندستاغ الألماني يقف متضامناً، وبثبات، إلى جانب إسرائيل وشعبها".

ووافق على نص قرار يعتبر أمن إسرائيل شأناً ألمانياً، غير قابل للنقاش. ونص القرار على التمييز بين الخير والشر، وأن "حماس" هي "منظمة إرهابية جلبت الموت والدمار إلى إسرائيل"، وأنه "ولهذا السبب يجب على ألمانيا تقديم كل ما تراه إسرائيل ضرورياً أو ترغب فيه للدفاع عنها".

لا يوجد سياسي في ألمانيا، أو مؤسسة إعلامية، تشكك في عدم تناسب العدوان الإسرائيلي

ويؤكد خبراء في الشؤون الألمانية أنه لا يوجد سياسي، أو مؤسسة إعلامية، تشكك في عدم تناسب العدوان الإسرائيلي. وبدلاً من ذلك، زار كبار المسؤولين الألمان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لطمأنته بشأن تضامنهم.

ومنذ 7 أكتوبر لم تنقطع زيارات هؤلاء المسؤولين، حتى بلغ بعضها حد الفجاجة، على غرار زيارة القائد الأعلى للقوات الجوية الألمانية إنغو غيرهارتز في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي إلى إسرائيل للتبرع بالدم بشكل رمزي، للجيش الإسرائيلي.

ومنعت الحكومة الألمانية التظاهرات التضامنية مع فلسطين. كما مارست نوعاً من الرقابة على الإعلام، وحظرت استخدام كلمة "إبادة جماعية". وقالت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك في مقابلة تلفزيونية: "أولئك الذين لا يشاركون هذا الرأي الرسمي اختاروا البلد الخطأ"، موضحة أن أي شخص لا يوافق على ذلك قد يواجه عواقب.

وبالإضافة إلى استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، مارست الأجهزة الألمانية ضغوطات على العرب والمسلمين، وزجّت بهم وسط النقاش الدائر حول "معاداة السامية"، باعتبارهم تهديداً جماعياً لليهود وإسرائيل. وبدأ السياسيون يدعون إلى عمليات ترحيل أسرع وأكثر صرامة.

واللافت أن وسائل الإعلام في ألمانيا تعمل بتواطؤ صريح مع إسرائيل. ويستخدم الصحافيون تقارير انتقائية ولغة ملطفة من أجل عدم ترك أي مجال للشك بأن إسرائيل هي الضحية، والتي تناضل من أجل وجودها ضد "الإرهابيين".

ويتحدث المراسلون الألمان المقيمون في تل أبيب أو القدس الغربية، في الغالب عن ضحايا هجوم "حماس"، أو عن أجواء الخوف السائدة في المجتمع الإسرائيلي، فيما تردد بعض وسائل الإعلام صراحة، أنه لا يمكن الوثوق بالمصادر الفلسطينية. وترد أخبار أعداد الضحايا مصحوبة بتحذير فوري، من أن المعلومات "لا يمكن التحقق منها بشكل مستقل".

تحولات الموقف الفرنسي تجاه العدوان على غزة

الموقف الثاني هو الوسط، الذي عبّرت عنه فرنسا، والتي أخذ موقفها يتغير منذ 27 أكتوبر الماضي، عندما صوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الداعي إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة"، بين القوات الإسرائيلية ومقاتلي "حماس".

موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، شهد تحولات سريعة من الدعوة إلى تشكيل تحالف حرب دولي ضد "حماس"، إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، مروراً بالدعوة إلى هدنات إنسانية. وهو موقف قابل للتطور أكثر، بعد أن بدأت تصدر بيانات إدانة من الخارجية الفرنسية لتصرفات إسرائيل، خصوصاً تجاه المشافي في قطاع غزة.

من الصعب مغادرة فرنسا سياسة التوازن تجاه فلسطين

ويعود التطور الكبير الذي أصاب موقف باريس إلى عدة أسباب. الأول هو صعوبة أن تغادر فرنسا موقع التوازن في سياستها تجاه القضية الفلسطينية، نظراً لشعورها بأن ذلك يهدد علاقاتها التاريخية مع العرب، ومصالحها الكبيرة في أكثر من بلد عربي.

وتحدثت صحيفتا "لوموند" و"لوفيغارو" الفرنسيتان صراحة عن انتقادات رسمية لمواقف ماكرون في الأيام الأولى للحرب، صادرة من داخل مؤسسة الحكم الفرنسية، ومن ذلك مذكرة عن سفراء فرنسا في الشرق الأوسط وبلدان المغرب العربي تنبه إلى مخاطر الانحياز لإسرائيل.

والسبب الثاني هو ثقل الصوت العربي في فرنسا، والذي يتمثل في الجاليات العربية والمسلمة، ليس على الصعيد الانتخابي فقط، وإنما على مستوى السلم الأهلي العام في البلاد، والحرص على تجنب حصول توترات تؤثر على الاستقرار العام.

أما السبب الثالث فهو حصول انقسام سياسي حاد بين مؤيدي إسرائيل، ومناصري القضية الفلسطينية. ويبدو أن الرئيس الفرنسي أدرك خطورة الاستمرار في سياسة الانحياز الرسمية لإسرائيل، ولذلك اختار أن يقف في الوسط.

قوة الرأي العام في بريطانيا

يبقى الموقف المتأرجح، الذي عبرت عنه بريطانيا، وهو يخضع لاعتبارات مختلفة. من أبرزها أنه مكبل بقوة بالرأي العام، الذي عبّر عن نفسه بتظاهرات حاشدة، لم يشهد لها العالم مثيلاً خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، اقتربت إحداها من أن تكون مليونية.

ورغم أن الموقف الرسمي لم يدعُ إلى وقف الحرب، وهو في جوهره يسير وراء واشنطن، فإن رئيس الحكومة، ريشي سوناك، لم يتريث في إقالة وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان، المؤيدة لإسرائيل، والمعروفة بعنصريتها، وذلك بعد أن دخلت في جدل مع قائد شرطة العاصمة لندن مارك راولي، والذي رفض الاستجابة لطلبها في منع التظاهرات التضامنية مع غزة.

وأجرى سوناك تعديلاً وزارياً آخر، غيّر بموجبه، في 13 نوفمبر الحالي، وزير الخارجية جيمس كليفرلي، ليحل محله رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، وذلك لطمأنة الرأي العام إلى أن الحكومة البريطانية تولي تطورات القضية الفلسطينية الاهتمام الذي تستحقه.

ويشكل موقف الرأي العام في بريطانيا أحد أبرز المؤثرات التي تضغط على مواقف الدول الكبرى، لما يشكله من مؤشر على حجم التضامن مع فلسطين. ومن المتوقع أن يساهم ذلك في دفع المواقف الدولية نحو مستويات أهم. وبيّنت دراسة لمجلة "إيكونوميست" البريطانية، نشرتها في 2 نوفمبر الحالي، حول سلوك مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بحلول يوم 19 أكتوبر، أن المنشورات المؤيدة لفلسطين أكثر بمقدار 3.9 مرات من المنشورات المؤيدة لإسرائيل. بينما كانت نسب الدعم متساوية يوم 7 أكتوبر الماضي.

ويمكن ملاحظة ترجمة هذه النقطة من خلال الموقف الهولندي، حيث ساهمت التظاهرات التضامنية في تحرك مجموعة من المنظمات في هولندا، مثل "منظمة العفو الدولية"، "أوكسفام"، "باكس"، و"منتدى حقوق الإنسان"، لرفع دعاوى قضائية ضد الحكومة، بدعوى عدم التزام الحياد وتزويد إسرائيل بالأسلحة.

مواقف أوروبية متباينة من يوميات الحرب في غزة

في باقي دول أوروبا هناك بلدان متضامنة مع فلسطين بلا حدود، وتعيش الحدث بصورة يومية مثل النرويج، إسبانيا، وأيرلندا، وأخرى تساند الحرب، رغم محاولتها الاكتفاء بالقليل من ردود الفعل، من دون التصريح بموقفها الفعلي إلا في حال الضرورة القصوى، كما هو حال إيطاليا والنمسا.

ولا يمر يوم من دون صدور تصريح عن رئيس وزراء النرويج يوناس غار ستور، أو وزير خارجيتها إسبن بارث. وفي الأسبوع الأول للحرب اعتبر ستور أن إسرائيل تجاوزت القانون الدولي في حربها على غزة، مكرراً الدعوة إلى وقف إطلاق النار.

وفي إسبانيا، تطور الموقف من التضامن والإدانة للحرب الإسرائيلية إلى إعلان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، أن حكومته الجديدة ستعمل في أوروبا وفي إسبانيا من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وظل يدعو إسرائيل إلى وضع حدّ لـ"القتل الأعمى للفلسطينيين" في قطاع غزة، في أشد انتقاد يوجّهه لتل أبيب منذ اندلاع الحرب.

أما أيرلندا، فقد وصف رئيس وزرائها ليو فارادكار، في الأسبوع الأول للحرب، تصرفات إسرائيل في غزة بأنها "شيء يقترب من الانتقام". واعتُبر هذا الموقف حينها أنه واحد من أقوى الانتقادات الموجهة لإسرائيل، من قبل زعيم دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.

وبرز موقف النمسا، منذ 7 أكتوبر، مؤيداً لإسرائيل بقوة، حيث تصدرت الدعوة الأوروبية لوقف كل سبل الدعم للشعب الفلسطيني. ويعد موقف إيطاليا، من بين المواقف الأكثر تعبيراً عما وصلت إليه بعض السياسات الأوروبية من انحطاط، وذلك بسبب خضوع هذا البلد لحكم اليمين النازي العنصري (ائتلاف أحزاب "فراتيلي ديتاليا" بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني و"الرابطة" بزعامة ماتيو سالفيني، و"فورتسا إيتاليا" بزعامة سيلفيو برلوسكوني).

وفي كافة الأحوال، هذه هي المرة الأولى التي لا تسير فيها أوروبا في موقف موحد، حيث يبرز واضحاً الخلاف بين ألمانيا وفرنسا، بوصفهما القوة المحركة للاتحاد الأوروبي، كما أنها من المرات القليلة، التي لا تقف فيها أوروبا مجتمعة خلف الولايات المتحدة.

ولّدت الحرب على غزة  انقساماً داخل الهيئات الأوروبية

وولّدت الحرب انقساماً داخل الهيئات الأوروبية، بين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، المؤيدة لإسرائيل، ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، والذي يحاول أن يكون متوازناً، من دون الاكتفاء بالدعوة إلى التهدئة ووقف النار، بل إلى امتناع إسرائيل عن ارتكاب الجرائم.

الحرب ستترك آثاراً كبيرة على أوروبا، ومن النتائج الأولية لها بروز الشارع المؤيد بقوة لفلسطين، وإعلان مواقف أوروبية صريحة ضد إسرائيل، كفيلة بالتطور، ما يولّد شرخاً أوروبياً داخلياً كبيراً بين أنصار إسرائيل وأنصار فلسطين.

ومن بين أكبر الخاسرين الإعلام الأوروبي الذي اهتزت مصداقيته إلى حد كبير، وندر وجود وسائل إعلام أوروبية على قدر من الموضوعية أو الحياد والمهنية، ما يفسر غياب قنوات التلفزة الغربية عن التغطية الميدانية، والاكتفاء بالرواية الإسرائيلية.

المساهمون