هبّت نار انتفاضة فلسطين بكامل أرضها التاريخية في مايو/أيار من العام الماضي 2021 ضدّ الاحتلال الصهيوني، هذا الاحتلال الذي تجاوز كلّ الخطوط الحمراء عبر مواصلة سياسة التطهير العرقي وتهجير أهل الأرض الفلسطينيين وقتلهم وتدمير بيوتهم وقضم أراضيهم بالقوّة أمام أعين العالم، وبطش الكيان الاستعماري الاستيطاني الذي ما زال يضيف لفصوله فصولا" لم تنته في النّقب اليوم. لم يكن الاحتلال ليمارس تجاوزاته بهذه الشراسة لولا حفلات زفاف اتفاقيات التطبيع مع دولتي الإمارات والبحرين في الخليج العربي التي توالت صدمةً على أصيلي هذه الأمة وأحرارها.
كانت هذه الفكرة، أي فكرة اتفاقيات الصدمة وطعن الشقيق الفلسطيني في الظهر، هي أوّل ما تبادر من أصوات خليجيّة حرّة كان تفاعلها المساند على شكل مواقف وحملات، لتشكّل ردّ الفعل المضاد الذي ظهر بشكل أكثر فعالية في صدارة الصورة، ذلك عبر مجموعات وائتلافات خليجيّة ضدّ التطبيع، يستطيع المتابع ملاحظة ما تقوم به من حيث التنسيق والتكافل فيما بينها، على مستوى الندوات النقاشية التوعوية حول القضية الفلسطينية، كما تكافل الخطوات والمواقف المقاطِعة لشركات وسِلع، فضلاً عن أهميّة كسر محاولة السلطة زجّ النٌخب الخليجيّة في فعاليات ومؤتمرات تشارك فيها وفود صهيونية لفرض التطبيع على واقع الحياة العامّة. هذا المعطى استدعى توحيد المجهودات الخليجيّة من أجل "التصدي لخطر التطبيع مع الكيان المحتل" كما يرى "ائتلاف الخليج ضدّ التطبيع"، والذي دعا مؤخراً الوفود العربية للانسحاب من مؤتمر "طيران الإمارات للآداب" المزمع عقده أوائل فبراير/شباط في دبيّ على غرار انسحاب أدباء من عمان والسعودية والكويت إثر المعلومات عن مشاركة الكاتب الصهيوني دايفيد غروسمان فيه. وأما استعادة بثّ مواقف الأديبة العمانية بشرى خلفان اليوم، "من يتخلّى عن فلسطين اليوم، سيتخلّى عن بلاده غداً" فما هي إلاّ مدخل لمخاطبة الجمهور بما يلخّص خطر التطبيع والتوعية التي تعمل النُخب الخليجيّة على ضخّها عبر الندوات الرقميّة حول الطبيعة التوسعية للاحتلال الصهيوني.
بعد مضيّ عام وبضعة أشهر على التطبيع الإماراتي والبحريني كانحدار دراماتيكي منطلقه الخليج، وحتى اليوم، ونحن نتلقّف، عبر السوشال ميديا النبض الشعبي لأهالي البلاد، ما يظهر الحكومات تغرّد خارج سرب خيارات شعوبها الوطنية والعربية والمصيرية، ذلك أقلّ ما عبّرت عنه المجموعات الخليجية بمختلف تسمياتها ومنها تغريدات لمجموعة "إماراتيون ضدّ التطبيع"، في توجيه رسائل مثل "من شعب الإمارات إلى أشقائنا في فلسطين، المطبّعون هم قلّة والشعب الإماراتي يدافع عن فلسطين وشعبها المقاوم دائماً"، "السلطات الإماراتية تتجاهل رغبات الإماراتيين"، الى آخره. وليست هذه التغريدات سوى واحدة من الرسائل التي تريد استبدال الصورة النمطيّة في الإعلام التقليدي لشعب الخليج، الذي عاكسته واحتكرته الصورة الرسمية لسلطات البلاد على وجه التحديد، منذ مرحلة انقطاع ما كان موصولاً على المستوى الشعبي وعلى مستوى العمل التحرّري، الذي أصابه الضمور قبل بداية التسعينيات إلى ما بعد حرب الخليج ثمّ استفراد الغول الأميركي، بما حملته رأسماليته المتوحّشة إلى المنطقة العربيّة من مفردات ومفاهيم فضفاضة في الديمقراطية والازدهار الاقتصادي وغيرها. كانت صورة الخليجي، على ما تلقّاها الجيل حينذاك، هي صورة ثريّ النفط القادم إلى لبنان بعد انتهاء حربه الأهلية للسياحة والترفيه، ولعلّ اتفاقيّات التطبيع مع العدو الصهيوني منذ إعلانها، استدعت الهمّة الشعبية الخليجيّة التي بدت تأخذ المبادرة بديلاً عن السلطة في التعبير عن نبضها الحقيقي، خصوصاً وأن "صيف" تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني تزامن مع شتاء العدوان على كلّ فلسطين وأهلها المسفوكة دماؤهم.
مذّاك، بدأت المجموعات المناهضة للتطبيع تمسك بزمام خياراتها، لتكثّف انتشارها وحضورها عبر المنابر التي أطلّت ببيانات "بحرينيون ضدّ التطبيع"، ورسومات تشكيليّة للفنان خالد الهاشمي تجسّد رواية المأساة الفلسطينية لأبعد مدى من اللغة، وقصّة محمد جمعة الشاخوري الذي قتل عام 2002 قرب السفارة الأميركية في البحرين، في الاحتجاجات التي رافقت الانتفاضة الثانية بفلسطين، وتحت عنوان "لا مرحبا بسيّاح الكيان الإجرامي"، رفضت عدّة جهات أهلية وجمعيات سياسية ومنظمات مجتمع مدني في البحرين دخول واستقبال وفود صهيونية تحت أية مظلّة سياحية أو تجارية أو اقتصادية أو غيرها.
لم تكن الشوارع الخليجيّة أقلّ زخماً في مناصرة فلسطين رغم الإجراءات الأمنية والاعتقالات الأشدّ قسوة في الإمارات والبحرين في تعاملها مع الاحتجاجات الشعبية على الأرض، وبعض هذه الإجراءات سحب الجنسية البحرينية من الناشطين البحرينيين، مع ذلك شهدت البحرين تظاهرات وإحراق لأعلام العدو تزامناً مع زيارة وزير الخارجية الصهيوني للبلاد، في شهر يوليو/ تموز العام الماضي، ورغم القمع الأمني نفسه وجد الناشطون والناشطات في الإمارات فضاءً آخر ينقل النبض الشعبي للناس عبرالإعلام الإلكتروني، إذ كثّفت الروابط الإماراتية المُناهضة للتطبيع من ضخّ مواقفها وحملاتها خصوصاً قبيل زيارة وزير خارجيّة العدو يئير لبيد إلى البلاد لتصدر مثالاً، "الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع" بيانها في السادس عشر من يوليو/ تموز 2021، تتحدّث فيه عن لحظات حرجة تعيشها الإمارات يسيطر عليها الخطر، إثر إعلان الإمارات افتتاح سفارتها "في قلب الكيان الصهيوني دون اكتراث لحقوق الشعب الفلسطيني المناضل وأرضه المسلوبة منذ العام 1948 "، كما تتحدث عن تزامن افتتاح السفارة مع تهجير أهل الأرض والعدوان الشرس على غزة واستشهاد مئات الأبرياء "ما يعني أنها سفارة ملطّخة بالدم وتُبنى على أنقاض المنازل الفلسطينية المدمّرة في غزّة والضفّة الغربية والقدس".
وإضافة إلى تكثيف الندوات الفكريّة الرقميّة ذهبت هذه المجموعات في الخليج العربي إلى أبعد من المواقف وأقرب إلى الخطوات العمليّة في ترسيخ مفاهيم المقاطعة واعتبارها مهمّة شعبية أصيلة، تقوم المجموعات الإماراتية بحملتها ضدّ المناهج التعليمية الجديدة والتي تدخل العنصر الصهيوني كذلك في كتب الأطفال " قصة جارنا الجديد يوسي القادم من تلّ أبيب..."، فمثالاً تقوم منصّة "شباب قطر ضدّ التطبيع" بإرفاق روابط تعريفيّة بالقضيّة الفلسطينية وأبحاث وكتابات عن نظام الأبارتهايد الصهيوني القائم على التطهير العرقي، وحملات تفضح المتورطين بعلاقات تجارية أو سياحية أو ثقافية مع العدو الصهيوني أو الشركات الكبرى الداعمة له ولجيش الاحتلال، وتفنّد المنصة حملاتها إلى جانب قوائم خاصّة للتبليغ عن الشركات أو السلع المخترقة للسوق القطريّة، كما تفنّد قوائم للتعريف بهذه السلع من غذائية أو إلكترونية أو غيرها.
أمّا عن أهميّة استعادة زمام المقاطعة على المستوى الشعبي، فلأنّ بلدان الخليج العربي بدأت بالمقاطعة تحت الضغط الجماهيري، ما دفع السلطات المحليّة في البلاد للانصياع إلى هذا الضغط منذ ثلاثينيات القرن الماضي رغم خضوع هذه السلطات كمجالس بلديّة مصغّرة للاستعمار البريطاني، ورغماً عنهم أغلق البريطانيون المراسلات البريدية بين الكويت والكيان الصهيوني خوفاً من تأميم هذا القطاع، اضطر البريطانيون للانصياع في عدم قضم أو تجيير التبرعات الخليجية التي كانت تقوم عبر حملات مدنية وأهلية لنصرة فلسطين، قام السعوديون بتهريب السلاح لثوار 1936، في هذا العام سادت المملكة العربية السعودية كما الخليج الإضرابات والاحتجاجات الشعبية العارمة شارك فيها الفلاحون والطلاب وتشكلت لجان الدعم في السعودية والخليج عموماً، تواصلت الاحتجاجات الشعبية ضدّ قرار تقسيم فلسطين 1947، وحينها منع حاكم البحرين دخول أو خروج أيّ بحريني إلى الكيان الصهيوني، وانضمت هذه البلدان إلى مكتب المقاطعة في الجامعة العربية منتصف وأواخر الأربعينيات رغم أنها لم تكن قد نالت استقلالها أو انضمت رسمياً كأعضاء في الجامعة، هذا غيض من فيض ترسيخ خيارات الشارع الخليجي والعربي للمقاطعة حتى اتخذت إطارها الرسمي والقانوني عربيّاً، وراحت تتوجّه للجمهور كانت عبر حملات التوعية على المقاطعة والتحرّر من الاستعمار بالتوازي مع حملات فكريّة تنشر عبر الصحف.
تعيد الذاكرة الجماعيّة الخليجية توحيد جهود النضال والمقاطعة عبر حملات كانت تمتدّ من بيروت ودمشق إلى الخليج، مثل "كلّ مواطن خفير" وغيرها، من الحملات التي اتخذت شكل التنسيق بين البلدان العربية توحّدها نزعة التحرّر من الاستعمار.
تستعيد مجموعات وائتلافات الخليج المناهضة للتطبيع زمام المبادرة من حيث تقوم أنشطتها وفعالياتها على ذات الهويّة التحرّرية المشتركة التي تأسّست منذ عقود خلت تحت سطوة الاستعمار، ولا شكّ أن هذا الوعي الجماعي المتأثّر بطبيعة حضور تيارات فكرية تحررية عربية ويسارية في البلاد منذ الخمسينيات، قد أضاف إلى وعيه العربي وعياً أمميّاً بإجراميّة نظام الفصل العنصري المثيل للنظام الجنوب أفريقي البائد. ما جعل فلسطين قضية كل عربي وكل إنسان حرّ في هذا العالم.