قيّدت الحكومة الجزائرية يد العدالة ومنعت إجراء أي تحقيقات في وقائع فساد بحق الموظفين في الإدارات الرسمية والمسؤولين في المؤسسات العمومية، قبل موافقة وزارة العدل، وهو ما اعتبر تدخلاً في عمل القضاء وخطوة تفتح باب التوظيف السياسي له.
وتثير تعليمات جديدة وجهها وزير العدل الجزائري بلقاسم زغماتي إلى النواب العامين لدى المجالس القضائية نقاشاً متصاعداً حول مضمونها وأبعادها القانونية والسياسية، خاصة في مرحلة تزعم السلطة فيها أنّ الدستور الجديد جاء ليعزز من استقلالية العدالة والقضاء ومكافحة الفساد.
وتنص التعليمات المؤرخة، في 15 مارس/ آذار الجاري، أنه "من أجل التحكم أكثر في الدعوى العمومية في قضايا المال العام وتقدير أحسن لملاءمة تحريكها، يطلب منكم إبلاغ قضاة النيابة بعدم اللجوء إلى الأمر بفتح أي تحقيق ابتدائي أو تحرير أي طلب افتتاحي لفتح تحقيق قضائي في قضايا التسيير وكذا المساس بالمال العام التي يكون أحد أطرافها عونا عموميا، بمفهوم قانون الوقاية من الفساد، سواء أكان لا يزال ممارساً لمهامه أم أعفي منها لأي سبب كان، دون العودة إلى الوزارة وأخذ موافقتها".
وتشترط التعيلمات على قضاة النيابة العمومية موافاة وزارة العدل بتقرير مفصل عن القضية المراد التحقيق فيها، وكامل ظروف ارتكاب الوقائع المشتبه في كونها فساداً أو مساساً بالمال العام، وكذا الإبلاغ عن الجهة المبلغة عنها، وانتظار موافقة مسبقة من المديرية العامة للشؤون القضائية والقانونية في الوزارة.
هذه التعليمات تنتزع حق التقدير القضائي في وقائع الفساد من قضاة النيابة العامة، وتمنحه في المقابل للموظفين في مديرية الشؤون القانونية بوزارة العدل
وعلى الرغم من أنّ النواب العامين في التنظيم القضائي الجزائري يتبعون وزارة العدل التي تقضي بتعيينهم أو عزلهم، بخلاف باقي القضاة، فإن هذه التعليمات تنتزع حق التقدير القضائي في وقائع الفساد من قضاة النيابة العامة، وتمنحه في المقابل للموظفين في مديرية الشؤون القانونية بوزارة العدل، ما يعني سطوة الجهاز والسلطة التنفيذية على السلطة القضائية، على الرغم من دعوات ومطالب سياسية وشعبية تقضي بالفصل الكامل بين السلطات، وإنهاء كل تداخل بين أجهزة الحكومة والقضاء.
وقال مصطفى بوشاشي، أحد أبرز المحامين في الجزائر، في تدوينة نشرها، إنّ "تعليمة وزير العدل هي إحياء للمادة السادسة من قانون الإجراءات الجزائية الملغاة وتشجيع على الفساد، والانتقائية في المتابعات، واعتداء صارخ على استقلالية السلطة القضائية... لا يحدث هذا إلا في نظام فاسد سياسياً واقتصادياً".
وقال المحامي عبد الرحمن صالح، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "تقليدياً في النظام القضائي تتبع النيابة العمومية وزير العدل، لكنها تتحول في الأنظمة الشمولية مثل الجزائر، وإذا نظرنا من الناحية القانونية المجردة، فللوزير أن يصدر ماشاء للنواب العامين، لكن أن يقيد حرية قضاة النيابة في تحريك دعاوى في قضايا محددة فهذا هو الأمر المثير للجدل، لأن تحريك النيابة العامة ضد الأعوان العموميين الذين يرتكبون جريمة،لا يخضع للملاءمة من عدمها أو موافقة من الوزارة، وإنما النيابة العامة ملزمة بتحريك الدعوى العمومية لأنها حامية المجتمع"، وأضاف "هذا يدخل في إطار العيب السياسي".
ويقصد المحامي عبد الرحمن صالح بالعيب السياسي، وجود مخاوف جدية عبر عنها عدد غير قليل من المحامين والعاملين في الحقل السياسي من أن تكون هذه التعليمات مقدمة لممارسات انتقائية في تحريك الدعوى من عدمها في حق المسؤولين والموظفين، على حسب ولائهم للسلطة وعلاقتهم بأطرافها، على غرار ما كان سائداً في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، إذ أثبتت الوقائع وقضايا الفساد الموجودة في المحاكم حالياً تدخلات لوزير العدل السابق الموقوف في السجن الطيب لوح وكبار موظفي العدالة ومسؤولين في الأجهزة الأمنية في قرارات القضاة والنواب العامين لصالح طرف أو ضده.
ويعتقد مراقبون أنّ التنظيم القضائي في الجزائر ما زال بحاجة إلى إعادة تنظيم وهيكلة جديدة، لفصل أكبر بين السلطة القضائية والتنفيذية، ومراجعة كثير من التشريعات بشأن ذلك. وفي السياق، أعلن وزير العدل بلقاسم زغماتي بدء التحضير لمراجعة القانون الأساسي للقضاة وإعادة النظر في تشكيلة وعمل المجلس الأعلى للقضاء، لمطابقته مع أحكام الدستور الجديد، الذي تضمن بنوداً جديدة تخص العدالة كسلطة مستقلة والمجلس الأعلى للقضاء.