صُورت المدن الفلسطينية على أوائل كاميرات السينما التي صُنعت في العالم لصالح شركة الأخوين الفرنسيين لوميير بعد اختراعهما آلة تصوير الأفلام المتحركة نهايات القرن الثامن عشر، فبعد سنة واحدة فقط من إنتاجهما وعرضهما عام 1895 عشرة أفلام مدة كل منها حوالي ست وأربعين ثانية في باريس، والتي يجمع معظم المؤرخين على أنها أول صناعة لفيلم سينمائي متحرك في العالم، أرسلا عام 1896 المصور ألكسندر فروميو إلى القدس لتصوير أول فيلم يعرض لمظاهر الحياة في المدينة المقدسة.
بعد سنوات قليلة تحول هذا الاختراع العظيم نقمة على الفلسطينيين بعد أن تنبهت الحركة الصهيونية إلى أهميته، بحسب ما يقول المخرج العراقي قاسم حول في محاضرة له حول تاريخ السينما، بأنه: "في عام 1897 عُقد المؤتمر الصهيوني الأول بقيادة "ثيودور هرتزل" في مدينة (بال أو بازل) السويسرية. في ذلك المؤتمر أدرك المؤتمرون أن اختراع فن السينما هو اختراع خطير ويمكن استثماره لخدمة هدف المؤتمر وهو إقامة وطن قومي لليهود. فأقرت توصية في استثمار هذا الفن (استراتيجية صهيونية) تدعو إلى تطوير اللجان السينمائية مع تطور الحركة الصهيونية والدعوة إلى إقامة الوطن القومي لليهود في دولة إسرائيل".
وهو ما بدأ العمل به فعلياً ما بين عامي 1899 و1902، حيث صُوّر أول أفلام الدعاية الصهيونية عن أرض الميعاد في فلسطين، تلته عدة أفلام أخرى في سنوات لاحقة، إذ كانت فلسطين آنذاك ترزح تحت الاحتلال العثماني الذي كانت تحظر قوانينه الصحافة المستقلة على الفلسطينيين حتى عام 1908، في مقابل سماحها بتأسيس صحف صهيونية بذات الوقت.
ساهمت الأفلام السينمائية الصهيونية التي سبقت إنشاء إسرائيل على الأرض المحتلة، في جذب الكثير من المهاجرين المستوطنين الغربيين لفلسطين، تحديداً في الثلاثينيات والأربعينيات حين كانت صالات السينما في أوروبا تعرض أفلاماً دعائية تحريضية ضد اليهود. كما ساهمت تلك الأفلام الدعائية الصهيونية في التأثير على الرأي العام الغربي في نظرته للصراع في الشرق الأوسط، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت محرقة الهولوكوست وتوظيفاتها السينمائية لكسب تعاطف عالمي لإنشاء وطن قومي يهودي، ولتصنع رواية جديدة عن المكان وتاريخه، تنتزع الحق فيه عن سكانه الأصليين، وتمنحها للمهاجرين القادمين من كل أصقاع العالم.
صناعة الرواية الفلسطينية
كانت فلسطين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بلداً يرزح تحت الاحتلال البريطاني الذي فرض هو الآخر رقابة عسكرية مشددة على السكان، شملت الصحافة وصناعة وعرض الأفلام، وتعامل الاحتلال بازدواجية معهم مقارنة بالمهاجرين اليهود الذين منحهم امتيازات كثيرة، ومكّنهم من بناء قدرات عسكرية وإعلامية كانت السينما جزءاً منها، في حين لم يمتلك الفلسطينيون هيكلا سياسيا يصنع رواية مقابلة لرواية المستوطنين الغربيين، حتى ظهرت أولى المحاولات الفردية لصناعة سينما فلسطينية، وبحسب المصادر حول تلك الفترة، يعتقد بأن أول فيلم فلسطيني صوره شاب فلسطيني يدعى إبراهيم حسن سرحان في مدينته يافا عام 1935، وهو وثائقيّ صامت، عن استقبال الحاجّ أمين الحسيني لأحد أمراء آل سعود في يافا والقدس واللدّ، الذي ربّما يكون أوّل فيلم صوّره فلسطينيّ في فلسطين قبل النكبة.
دخل إبراهيم حسن سرحان عالم صناعة السينما من باب الهواية، فهو لم يدرس السينما، لكنّه صنّع أجهزته السينمائيّة بنفسه، كآلة المونتاج السينمائيّ "الموفيولا"، اعتمادًا على كتالوغ لشركة أميركيّة لآلة المونتاج، وعقد شراكات إنتاج تجاريّة لإنتاج أفلام، وافتتح استوديو للإنتاج السينمائيّ عام 1936 في يافا، سمّاه "استوديو فلسطين"، وأنتج الاستوديو - حسب المرويّات وأرشيف الصحف - أفلامًا قصيرة ووثائقيّة عدّة.
تذكر المصادر الّتي أرّخت لتلك الفترة التي بدأ فيها إبراهيم سرحان إنتاج أفلامه وإخراجها، روّادًا آخرين صنعوا أفلامًا في تلك الفترة، كما ورد في كتاب "فلسطين والعين السينمائيّة" للناقد السينمائيّ الأردنيّ الراحل حسّان أبو غنيمة، الذي يقول إنّ فيلم "أحلام تحقّقت" من إخراج خميس شبلاق، وليس إبراهيم سرحان، بينما فيلم "في ليلة العيد" كان من إخراج جمال الأصفر، وأنّ فيلم "أحلام تحقّقت" الّذي تُوْرِد بعض المصادر أنّه من إخراج سرحان، إنّما هو من إخراج خميس شبلاق، وغيرها.
آثار هؤلاء جميعًا لا تزال مفقودة حتّى اليوم، وهو ما يجعل مسألة حسم الجدل حول من صنع تلك الأفلام المفقودة مسألة معقدة، لكن على الأقلّ ثمّة إشارات واضحة إلى وجود أفلام وسينمائيّين، واللافت في الأمر أنّ معظم صنّاع الأفلام هؤلاء كانوا من مدينة يافا، المدينة التي شهدت المغامرات السينمائيّة الفلسطينيّة الأولى، باستثناء اثنين هما الأخوان إبراهيم وبدر لاما، العائدان من مهجر والديهما الفلسطينيين في تشيلي، وتقول بعض المصادر إنهما صورا فيلمهما القصير "الهارب" في مدينتهما بيت لحم عام 1935، والذي تناول موضوع التجنيد الإجباري في الجيش العثماني.
توقفت المغامرات السينمائية الفلسطينية الأولى مع النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني، حتى تأسست منظمة التحرير الفلسطينية وبدأت مرحلة جديدة هي سينما الثورة الفلسطينية التي بدأها مصطفى أبو علي وسلافة جاد الله وهاني جوهرية، عام 1968، حين وضعت هذه المجموعة من السينمائيين الفلسطينيين في الأردن، المنضمين لحركة "فتح" نواة أول حراك سينمائي مرافق لثورة شعبهم، فأسسوا وحدة أفلام فلسطين التي أنتجوا من خلالها أول فيلم فلسطيني في مرحلة سينما الثورة "لا للحل السلمي"، وتطورت تلك السينما بفضل العديد من المنضمين لها من السينمائيين العرب والعالميين من أمثال جان لوك غودار، قاسم حول، قيس الزبيدي، محمد توفيق وآخرين مع منظمات فلسطينية أخرى مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية.
إسرائيليا، كان الإنتاج السينمائي المستقر نسبياً، يتطور بشكل كبير بفضل علاقات الدولة الاستيطانية الناشئة مع عمقها الأوروبي والأميركي، ووصلت إلى أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية بدأت الاستثمار المالي في استوديوهات هوليوود، لتنتقل فيها إلى مرحلة متقدمة كاستخدام السينما في صناعة أساطير حول رجالات الموساد وتجنيد العملاء له حول العالم، كما ورد في تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية أن جهاز "الموساد" الإسرائيلي يستغل المسلسلات التلفزيونية التي تعرض على شبكتي "نتفلكس" و"أبل تي في" من أجل تجنيد عملاء جدد للجهاز. وقالت الصحيفة إن جهاز "الموساد" بدأ يتصدر بعض المواقع العالمية مؤخرا من خلال المسلسلات والأفلام عن الجهاز الذي ظل لسنوات طويلة يعمل في الخفاء. مشيراً إلى أن "الموساد" لم يعد يتورع عن نشر تفاصيل عن عملياته السرية عبر مسلسلات عالمية تقدم سردية خيالية لهذه العمليات وتظهر تفوق الجهاز وقدرته على اختراق البيئات المختلفة. وتنقل الصحيفة عن جواسيس قدماء عملوا لصالح الوكالة قولهم إن ردّة فعلها جاءت إيجابية إلى حد ما، فهي بحاجة إلى إطلاق عملية توظيف جديدة. وتضيف الصحيفة قائلة إن التطور التكنولوجي السريع يدفع بالموساد إلى البحث عن أشخاص يتمتعون بالمواهب المطلوبة خصوصاً في عالم الأمن الإلكتروني.
أما السينما الفلسطينية فحققت قفزات مهمة عالمياً، وبدأت تفرض حضورها دولياً منذ نهايات السبعينيات، حين بدأت الأفلام الفلسطينية تشارك في المهرجانات العالمية وتحصد جوائز، وتقدم رواية فلسطينية بديلة عن الرواية الصهيونية الرائجة في العالم حول مفهوم الصراع ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي، وبعد عودتها لفلسطين نهاية الثمانينيات على يد مخرجين فلسطينيين مثل ميشيل خليف ومي مصري وآخرين، إلى أنها لا تزال حتى اليوم صناعة غير مستقرة وتندرج غالباً ضمن التجارب الفردية التي تفتقر لمؤسسة حقيقية حاضنة وداعمة كمؤسسة السينما الإسرائيلية التي تدعم عشرات الأفلام سنويا، وكذلك تفتقد السينما الفلسطينية للاستثمار فيها كقطاع استثماري، كما تفعل الشركات الإسرائيلية التي تستثمر في أهم استوديوهات وشركات الإنتاج العالمية.