أغلقت قوات الاحتلال مخيم شعفاط وعناتا وضاحية السلام في القدس المحتلة، الأسبوع الماضي، إثر مقتل مجندة إسرائيلية وإصابة عدد من الجنود، بعد استهدافهم المباشر من قبل الشاب المقدسي عدي التميمي. فيما يواصل الاحتلال إغلاق مخارج محافظة نابلس، شمال الضفة الغربية، مع اقتحامه المدينة وجنين المتواصل، وسط انفلات المستوطنين واعتدائهم على الفلسطينيين في القرى المحيطة بنابلس، وعلى شوارع شمال ووسط الضفة الغربية.
في يوم الجمعة، الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، استشهد الطبيب المشتبك عبد الله أبو التين، والشاب متين ضبايا، خلال اقتحام قوات الاحتلال مدينة ومخيم جنين. في رام الله؛ استشهد الشاب قيس شجاعية من قرية دير جرير، إثر استهدافه مستوطنين في "بيت إيل" القائمة على أراضي رام الله. في داخل سجون الاحتلال؛ استشهد الشاب محمد غوادرة، متأثراً بجراح أصيب بها خلال تنفيذه وابن عمه ووالده عملية في الأغوار، أدت إلى إصابة سبعة من جنود جيش الاحتلال. في التاسع عشر من ذات الشهر، استشهد عدي التميمي، صاحب عملية قتل المجندة، مشتبكاً مع قوات الاحتلال بمسدسه، في مشهد دفع إلى إعلان الضفة الإضراب العام يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول، مع التوجه إلى نقاط التماس مع قوات الاحتلال.
تشير هذه المعطيات إلى نموذج من نماذج التوسع في الاشتباك، أفقياً على مستوى الانتشار في الضفة الغربية، من الشمال إلى الوسط والجنوب، وعمودياً عبر انخراط أكبر في المواجهة بكل محافظة، مع بقاء الحالة القائمة بعيدة عن التنظيم السياسي الفصائلي، أو حتى الوصاية الأبوية السياسية، التي تميز بها الاشتباك مع المشروع الاستعماري خلال العقود الثلاثة الماضية.
تتحدى متوالية المقاومة وموجاتها المتعاقبة سياسات الأمر الواقع
التكوين الميداني وسياقاته
لا يمكن اعتبار المواجهة الحالية في الضفة الغربية، شبيهة بنظيراتها السابقة بعد أوسلو، فهي لا تؤمن ولا تتبع الفصائل، ولا تمتلك هياكل تنظيمية وقيادة واضحة، ولا تبحث عن ثمار سياسية أو منافع اقتصادية. إذاً، نحن أمام نموذج مختلف من المواجهة، يقوم على شباب رافض للسياقات المحلية، المتمثلة في الانقسام والانسداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويائس من أية تسوية مع الاحتلال، الذي يتبني مقاربات أمنية و"تسهيلياتية" لا تحترم كرامة الفلسطيني.
تعود جذور هذه التجربة إلى الفترة 2014-2015 تقريباً، حين برز جيل جديد مشتبك، بعيداً عن الضوابط الفصائلية. يقول الشهيد بهاء عليان (2014) في وصيته "أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي فموتي كان للوطن وليس لكم"، فيما يوصي الشهيد إبراهيم النابلسي (2022) بعدم ترك البندقية، حالماً بالوحدة الوطنية. ما بين عليان والنابلسي، تراكم وعي جيل جديد، صنع رموزه بنفسه، والتف حول هدف واحد دقيق: الحرية والاستقلال.
يمثل هذا النموذج المستجد، سر قوة وضعف المواجهة الحالية، فمن جهة يعطيها قوة أمام الاحتلال العاجز عن استخدام مقارباته التي درج عليها خلال وبعد انتفاضة الأقصى (2000-2005)، المتمثلة في مقاربة "جز العشب"، إذ عمد الاحتلال خلال انتفاضة الأقصى إلى استهداف قيادات الأجنحة المسلحة عبر تسلسل طبقي، فاغتال في المرحلة الأولى قادة الصف الأول، عبر الطيران والصواريخ الموجهة والسيارات المفخخة، انتقل إثرها وخلال اجتياح الضفة الغربية، في مارس/آذار- إبريل/نيسان 2002، إلى استهداف قيادات الصفين الثاني والثالث عبر الاغتيال والاعتقال، ما خلق فراغاً قاد إلى تراجع حاد وفوضى في عمل هذه الأجنحة، وصولاً إلى تلاشي تلك التجربة، التي كانت متصلة مع تجربة انتفاضة الحجارة، من خلال تولي قادة الفهد الأسود الفتحاوي، على سبيل المثال: مسؤولية تكوين كتائب شهداء الأقصى.
استمر الاحتلال بعد ذلك في انتهاك مناطق الضفة، عبر عمليات استهدفت قتل أية فرصة تعيد إحياء الأجنحة المسلحة، من خلال تثبيت قاعدة غياب الحواضن الآمنة المحصنة، التي تسمح بترعرع هذه الحالات، على التوازي مع القتل والاعتقال المباشر. هذا بالتحديد، أدى إلى تراجع دور السلطة الفلسطينية الأمني، التي لم تجد منذ 28 سبتمبر/أيلول 2000، مساحة تمارس عليها السيطرة الكاملة، وتقدمها نواة للدولة المبتغاة.
من هنا، يمكن فهم الفعل الميداني الحالي، على أنه مسار مختلف تكون في الميدان، درس منظومة القمع الإسرائيلية، وبنى تجربته على أساس ذلك، نجحت المجموعات المقاومة الشابة في بناء حواضنها الشعبية داخل البلدة القديمة في نابلس ومخيم جنين، وحولت هذه الحواضن إلى مراكز جذب وبناء وعي سياسي، الأمر الذي مكنها من تحويل العمليات المنفردة التي برزت في العامين 2014 و2015، إلى حالة عامة تنتقل من مكان إلى آخر.
كرة متدحرجة
قبل أسابيع، كان من الممكن قراءة الفعل الميداني على أنه حالة متموضعة في جنين ونابلس، حتى مع بداية حصار الاحتلال لنابلس، بدا وكأن الأمر مسعى إسرائيلي لعزل الحالة وإبقائها في عرينها. لكن نجح عدي التميمي في نقل الفعل الميداني من التموضع إلى التدحرج، شعفاط المحاصرة تقود اشتباكاً مباشراً مع الاحتلال ينتقل إلى كل مناطق القدس، يصف قادة أمن الاحتلال ما حدث في القدس بعد عملية التميمي الأولى" التحدي الخطير والمقلق".
في 12 أكتوبر، إضراب واسع يعم الضفة استجابة لدعوة أطلقتها "عرين الأسود"؛ الاسم الناظم لشبان المقاومة في نابلس، تمثل هذه الاستجابة لحظة تستحق التوقف عندها، فـالـ"عرين" تكوين معنوي لا فصائلي، احتل موقعه سريعاً في قلوب الفلسطينيين، العازفين عن الفصائل والأحزاب التقليدية، التي بدا أنها تحاول التقاط اللحظة دون جدوى.
في 20 أكتوبر، على هامش الإضراب الشامل، يظهر شبان ملثمون في الخليل، يدعون الشارع إلى الالتزام التام بالإضراب، هذا مشهد أيضاً يستحق التوقف عنده. إذ تراجع حضور الملثم في الشارع كثيراً خلال السنوات الماضية، وهو مشهد اعتاد عليه الفلسطينيون في انتفاضة الحجارة، ما يجعل هذه العودة في الخليل التقاطاً لتدحرج الفعل الميداني بطريقة أو بأخرى.
حاولت إسرائيل تكبيل تجربة نابلس، من خلال الحصار المدروس، الرامي إلى إيصال رسالة للفلسطيني، بأن تكلفة دعم "عرين الأسود" عالية، على التوازي مع ذلك، حاولت إسرائيل وضع المستوطنين مقابل فكرة المقاومة، على قاعدة "شارع مقابل شارع"، في كلتا الحالتين، أسقط تدحرج الحالة هذه المحاولة الإسرائيلية.
غذّت حالة الشهيد عدي التميمي الرصيد الرمزي الفلسطيني، الآخذ في التراكم منذ العام 2015، والقائم على رموز شابة ملهمة، تدعم ديمومة واستمرارية الفعل الميداني، في ظل المشهد المشتبك عالي الرمزية الذي قدمه التميمي، ستبحث إسرائيل عن كسر الفلسطينيين معنوياً، ربما في جنين أو نابلس، لكنها لن تكون قادرة في أي حال من الأحوال على استعادة مرحلة الردع، من خلال جز العشب كما دأبت سابقاً.
أيضاً، تقف إسرائيل أمام خيارات تكسر أدوات السيطرة والتحكم، التي دأبت على توظيفها، إذ تشير المعطيات على الأرض إلى عدم قدرة الاحتلال على توظيف العقوبات الجماعية لكسر الحالة، كما دأبت خلال انتفاضة الأقصى، في ظل تقديراتها بعدم جدوى هذه المقاربة، هذا ما يفسر تلويح الاحتلال بسحب "تصاريح حركة" عائلات المنخرطين في المقاومة، وعدم إقدامه على إغلاق معبر الجلمة شمال جنين.
إذاً، تتحدى متوالية المقاومة وموجاتها المتعاقبة سياسات الأمر الواقع، التي دأبت إسرائيل على فرضها، سواء تسهيلات أو عقوبات، كما تفقد منظومة السيطرة والتحكم الاستعمارية فاعليتها، في ظل اتساع نطاق الفعل الميداني أفقياً وعمودياً، وانخراط أعداد أكبر من الشبان فيها. فربما أصبحت إسرائيل مدركة أن أي قمع ميداني، لن يقتل متوالية الفعل الفلسطيني، التي قد تهدأ حيناً لتعود مرة أخرى في نموذج أكثر نضجاً.