رغم مرور أكثر من 15 عاماً على آخر انتخابات فلسطينية، وتعطش المجتمع الفلسطيني للانتخابات، والحاجة للتجديد والإصلاح، وقبل أيام قليلة من بدء الحملة الانتخابية، إلا أن لا أحد يجزم إن كانت ستجرى في موعدها المقرر بتاريخ 22 /05 /2021، حسب مراسيم الرئيس الفلسطيني محمود عباس الصادرة في يناير/ كانون الثاني 2021، ولكن الإشارات الأخيرة تزيد من احتمالات التأجيل. كما يفترض أن تقام انتخابات الرئاسة بتاريخ 31/07/2021، بعد (16) عاماً على ترؤس محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية. وأخيراً تستكمل انتخابات المجلس الوطني بتاريخ 31/08/2021، وتعتبر انتخابات المجلس الوطني الأهم لانضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى مؤسسات المنظمة، لأهميتها بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية بمشاركة كل المكونات الوطنية والإسلامية، وتداعياتها على الخريطة السياسية والحزبية ومصير سيطرة حركة فتح على المنظمة، وتداعيات ذاك على العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية ومصير اتفاقية أوسلو والسلطة، وتداعياتها على العلاقات الفلسطينية العربية والدولية، وشكل خريطة المحاور الإقليمية والدولية، وسبق إصدار المراسيم إعلان الرئيس الفلسطيني في خطابه بالأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي عن التوجه لإجراء انتخابات فلسطينية عامة، الأمر الذي تم فهمه على أن إعلان الرئيس جاء نتيجة ضغوط دولية وخاصة أوروبية وليس كاستحقاق وطني شعبي دستوري، ورحبت الفصائل والقوى الشعبية والأهلية بالدعوة لإجراء الانتخابات وقد عقدت لقاءات عدة في فلسطين والقاهرة وإسطنبول لإنجاح الانتخابات.
شهدت المناطق الفلسطينية ثلاث جولات انتخابية تشريعية ورئاسية؛ كانت الأولى رئاسية وتشريعية في كانون الثاني 1996، وفاز الرئيس الراحل ياسر عرفات، وحركة فتح وفصائل وشخصيات وطنية بمقاعد المجلس التشريعي البالغ عددها (88) مقعداً، بعد مقاطعة حركة حماس، وجرت الثانية بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، ففي كانون الثاني 2005 جرت الانتخابات الرئاسية وفاز فيها الرئيس محمود عباس. وجرت الانتخابات التشريعية الثانية في كانون الثاني 2006، وشهدت إقبالاً وبلغت نسبة التصويت 77% من أصحاب حق الاقتراع، وشكلت محطة مهمة بتاريخ الحركة الوطنية، لمشاركة حماس فيها والاتفاق على رفع عدد المقاعد إلى 132، وفوز حماس المفاجئ، عندما حصلت على (76) مقعداً، مقابل (45) مقعداً فقط حصلت عليها حركة فتح، فيما حصلت فصائل يسارية ومستقلة على ما تبقى من مقاعد، لكن المجلس التشريعي لم يمارس عمله، بسبب التوترات التي نشبت بين فتح وحماس، وانتهت بالانقسام الكبير بين الحركتين والاقتتال في قطاع غزة في عام 2007، وانتهى بسيطرة حماس على السلطة في قطاع غزة، واعتبرته حركة فتح انقلاباً عسكرياً على السلطة في القطاع، بينما وصفته حماس بالحسم بعد رفض حركة فتح التسليم بنتائج الانتخابات وتسليم السلطة لها، مما انعكس على مجمل النظام السياسي الفلسطيني، سواء المتصل بمنظمة التحرير وفصائلها، أو بالسلطة ومؤسساتها، حتى إصدار الرئيس محمود عباس في كانون الثاني 2018 قراراً بحل المجلس التشريعي، والذي شكل محطة أخرى في محطات الصراع بين حركتي فتح وحماس.
لم تكن الانتخابات التشريعية والرئاسية في مدينة القدس المحتلة شبيهة بباقي المناطق الفلسطينية، بسبب الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف تهويد المدينة وإخراجها من حاضنتها الجغرافية والشعبية، وعملت حكومات إسرائيل المتعاقبة وفق مخطط استعماري محكم على تمييز وفصل فلسطينيي القدس عن إخوتهم، سواء بالضفة الغربية أو داخل فلسطين عام 1948، وذلك لإضعافهم وتفتيتهم وحملهم إما على قبول مكانتهم المتدنية في القدس بدون أية حقوق أخرى، ويصبح كل همهم الحفاظ على بطاقة الإقامة ولو على الأقل لاعتبارات حياتية واقتصادية، مقارنة مع إخوتهم في الضفة بعد فشل السلطة من تقديم نموذج حكم مشجع، أو حملهم على مغادرتها، سواء بالتخلي عن الإقامة بالمدينة والانتقال للسكن في الضفة الغربية، أو مطالبتهم بالجنسية الإسرائيلية ومغادرة المدينة باتجاه الداخل الإسرائيلي والتي شهدت نقلة كبيرة في السنوات القليلة الماضية لتفريغها من أهلها الأصليين.
بالإضافة للخطيئة التي وقعت فيها منظمة التحرير، بقبولها تأجيل موضوع القدس في أوسلو لمفاوضات الوضع النهائي، كذلك أخطأت بتمييز القدس بالانتخابات الفلسطينية، وبشكل لا يليق بأهمية ومكانة المدينة. تضمنت اتفاقية أوسلو ب في سبتمبر/ أيلول 1995 ملحقاً خاصاً بالانتخابات الفلسطينية في القدس، ونصّت على إجراء الانتخابات دون حملات أو اجتماعات انتخابية في خمسة مراكز بريد إسرائيلية في عام 1996 ينتخب فيها (5700) فلسطيني كحد أقصى، وينتخبون على أوراق بيضاء غير مروسة دون وجود لممثلي لجنة الانتخابات المركزية، أو مراقبين محليين، وكأنهم رعايا أجانب في دولة أخرى، فيما ينتخب معظم المقدسيين بالقرى والبلدات خارج حدود بلدية الاحتلال، أما في انتخابات عام 2006 فقد تمت زيادة عدد مراكز البريد إلى ستة مراكز بعدد (6300) ناخب، فيما اضطر أكثر من (50) ألف مقدسي للذهاب للتصويت خارج حدود بلدية الاحتلال، مع أن اتفاقية أوسلو لم تلزم السلطة الفلسطينية بتقديم طلب للحصول على موافقة إسرائيل بإجراء الانتخابات في القدس كما يشاع، وإنما اشترطت الاتفاقية التنسيق مع إسرائيل حول مراكز البريد التي ستجرى فيها الانتخابات لترتيب الإجراءات اللازمة لذلك وقيام المرشحين بتقديم طلبات عبر لجنة الانتخابات المركزية للحصول على التصاريح اللازمة للقيام بالحملة الانتخابية.
حتى لحظة كتابة هذه المقالة لم تعلن إسرائيل موافقتها على إجراء الانتخابات في القدس، وخاصة بعد التطورات التي طرأت بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة في عام 2006، سواء الاعتراف الأميركي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وزيادة التطرف اليميني في النظام السياسي والخريطة الحزبية الصهيونية، وخاصة الجماعات اليهودية التي ترفض مجرد التفاوض حول مستقبل المدينة المقدسة، أو المتغير الآخر بأن الانتخابات الحالية حسب مرسوم الرئيس أبو مازن ليست لتجديد المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاقية أوسلو كما تريد إسرائيل، رغم أن إسرائيل أنهت منذ سنوات اتفاقية أوسلو وتدير الأمور في الضفة الغربية من خلال الإدارة المدنية لجيشها دون الالتفات نهائياً إلى السلطة وأوسلو، بل إن مرسوم الرئيس لإجراء الانتخابات اعتبرها انتخابات برلمان دولة فلسطين، لأنها ستجرى هذه المرة بعد اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، والذي رفضته إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، واعتبرته سلوكاً فلسطينياً أحادي الجانب، مما يعزز الاعتقاد بأن الإدارة الأميركية الحالية بزعامة جو بادين قد لا تضغط على إسرائيل للموافقة على إجراء الانتخابات بالقدس بنفس الشروط السابقة، وزيادة عدد مراكز البريد الإسرائيلية إلى 18 مركزاً كما يطالب الفلسطينيون بسبب كورونا وزيادة عدد السكان في الـ 15 عاماً الأخيرة.
تشكل الانتخابات في القدس أزمة داخلية فلسطينية حول كيفية الرد على الموقف الإسرائيلي في حال رفض إجراء الانتخابات فيها، ورغم الإجماع على رفض استثنائها وتمسك الجميع بمشاركتها في الانتخابات وأن لا انتخابات بدونها، مع أن إجراء الانتخابات فيها لا يعني السيادة أو السيطرة الفلسطينية، ولكن ممنوع قبول أقل مما اتفق عليه في أوسلو رغم ضعفه، لذلك تصر بعض الفصائل والقوى على الاستمرار من دون انتظار الموقف الإسرائيلي، وعدم الرهان على ما يسمى بالضغط الدولي على إسرائيل لإجراء الانتخابات، وخاصة أن موضوع الانتخابات أصلاً نتيجة مطالبات دولية، بالتالي مطلوب استغلال الموقف الإسرائيلي من القدس لتحويلها لقضية رأي عام عالمي لكشف زيف وكذب الادعاء الإسرائيلي بالديمقراطية، واستغلال الموقف الدولي الداعم للانتخابات لتحويل القضية إلى اشتباك وطني سياسي ميداني، يفرض على إسرائيل القبول بإجراء الانتخابات لأن مصلحة القدس تتطلب مجلساً تشريعياً جديداً متنوعاً قوياً كما يعيد طرح قضيتها وسبل مواجهة تهويدها، وإعادة الأولوية للقضية الفلسطينية في الاهتمام الدولي والإقليمي، بعد تراجع اهتمامها للكثير من الأسباب ومنها عدم تجديد المؤسسات الفلسطينية الرسمية منذ أكثر من 15 عاماً.
إضافة لأهمية ممارسة الشعب الفلسطيني حقه باختيار ممثليه، وتجديد مؤسساته وضخ دماء جديدة لإعادة إحياء القضية والحركة الوطنية الفلسطينية، ولطي صفحة الانقسام الذي ألحق الضرر بصورة وسمعة الشعب الفلسطيني وتضحياته وتاريخه، وإعادة بناء الحركة الوطنية بمشاركة الكل الوطني الفلسطيني، سواء على صعيد إعادة ثقة الشعب الفلسطيني المتآكلة بمنظومته الرسمية، أو إعادة الاعتبار لمؤسسات السلطة والمنظمة، بعد تراجع التعاطي الدولي والإقليمي والإسرائيلي معها، بعد أن فقدت هيبتها وجديتها وأصبح الكثيرون يشككون بقدرتها على تمثيل الشعب الفلسطيني، مما دعم الموقف الإسرائيلي لاستكمال مشروعه التصفوي للقضية الفلسطينية والذي تزامن مع صفقة القرن وقيام عدد من الدول العربية بتوقيع اتفاقيات تطبيع وتحالف مع إسرائيل.
توظف إسرائيل المطالبات الدولية بتجديد المؤسسات الفلسطينية وإجراء الانتخابات العامة، وكأن المشكلة في انعدام الانتخابات وليست في انعدام الأمن والحرية للشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال والاستيطان، إلا أن إسرائيل ليست معنية بانتخاب قيادة فلسطينية تمثل الكل الفلسطيني وقادرة على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وللنضال الفلسطيني ضد احتلالها، وخاصة أن حصول حماس على مقاعد كثيرة يعني فشلاً لعقيدة الردع الإسرائيلي بعد 15 عاماً من الحصار المحكم عليها تخللتها ثلاث حروب مدمرة، والذي يعني أن منظومة القوة العسكرية الصهيونية فشلت في كسر الفلسطيني في ظل الماكينة الإعلامية الضخمة التي تعمل ليل نهار على تخويف الفلسطيني من تبعات انتخاب حماس، في ظل تفكك فتح وخوضها الانتخابات في عدة قوائم، لذلك تسعى إسرائيل بشتى الوسائل لإفشال الانتخابات لتداعياته على التمثيل الفلسطيني والوحدة الفلسطينية، طالما أن بقاء الانقسام والمناكفات ومؤسسات ضعيفة يصب في مصلحتها لوحدها، لذلك تطرح مؤسسات وقوى سياسية وأهلية فلسطينية مقترحات لإجراء الانتخابات في القدس رغماً عن إسرائيل ونشر الصناديق بالمساجد والكنائس والمدارس والمؤسسات الدولية الأخرى، وتشير تلك القوى إلى أن فصائل فلسطينية صغيره تخشى نهايتها بعد الانتخابات، وخاصة أن بعض هذه الفصائل غير قادرة على تشكيل قوائم، وأخرى قد لا تجتاز نسبة الحسم، مما سيؤدي إلى دفنها، كما أن ترشح 36 قائمة انتخابية، بعضها فتحاوية، سيضع قائمة حركة فتح الرسمية وقيادتها في موقف صعب جداً ولا أحد قادر على التنبؤ بمخرجاته ولا بتداعياته على مكانة القيادة الفلسطينية الحالية، سواء على مؤسسات فتح أو المنظمة أو أمام حماس، والأهم على مستقبل مكانتها وقوتها الضعيفة أصلاً أمام إسرائيل والأنظمة الإقليمية والدولية، مما قد يدفعها إلى تأجيل الانتخابات وخاصة أنها لم تعمل بما فيه الكفاية والتحضير لا لخوض الانتخابات في قائمة موحدة تمثل الكل الفتحاوي في مواجهة حماس المتماسكة، ولا لاحتمالية الرفض الإسرائيلي لإجراء الانتخابات في القدس، من حيث تهيئة الشارع الفلسطيني عامة، والمقدسي خاصة، لقلب الطاولة لجعل الإسرائيلي والدولي يبحث عن حلول، مع استبعاد احتمالية تبني قيادة السلطة خيار الاشتباك الميداني مع إسرائيل لأنه يتناقض تماماً مع جوهر وظيفة السلطة المنبثقة عن اتفاقية أوسلو، كما حدث مع إسرائيل والمقدسيين في معركة البوابات حين تراجعت إسرائيل عن كسر صمود المقدسيين فما وجدت حكومة نتنياهو سوى إلغاء قراراتها وإزالة البوابات، والتي كشفت أن السلطة الفلسطينية باتت عائقاً أمام أي انتفاضة شعبية ضد الاحتلال حفاظاً على مكتسباتها ونفوذها ومصالحها التي تتناقض تماماً مع الاشتباك مع الاحتلال وإعادة الروح الكفاحية للحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة أن جوهر وجود السلطة من وجهة نظر إسرائيلية هو لتشكل حاجزاً بين الاحتلال وبين الشعب الفلسطيني ولمنع أي تحرك ضدها، والآن باتت قضية انتخابات القدس تشكل محطة مهمة، سواء بتحويلها لمعركة شعبية سياسية وطنية مع الاحتلال وتحقيق الشراكة الوطنية السياسية وتحويل شعار لا انتخابات بدون القدس لواقع عملي يتم فيه فرض الانتخابات فرضا وليس بالإذن الإسرائيلي، أو الاختباء خلفه وجعله ذريعة للتهرب من الانتخابات وبقاء حالة العجز والضعف وهذا ما لا تريده لا القدس ولا فلسطين، وخاصة أن التسليم بالقرار الإسرائيلي بعدم إجراء الانتخابات بالقدس إنما يعني إقراراً بأن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل والتسليم بصفقة القرن بعد أن رفضها شعبنا.