وغداة النقاش البرلماني، أكد وزير الدفاع جون إيف لودريان، في تصريح لإذاعة "فرانس أنتير"، أن فرنسا "ستنفذ أول غاراتها ضد "داعش" في الأسابيع المقبلة". وقامت مقاتلات "رافال" المتمركزة في القاعدة الفرنسية في أبو ظبي بطلعات استطلاعية شبه يومية في شمال سورية لجمع المعلومات حول قيادات التنظيم الميدانية ورصد مراكز التموين والأسلحة والاتصالات التي ستكون قريباً هدفاً للغارات الفرنسية. وفي أول تلميح إلى طبيعة الأهداف التي ستقصفها المقاتلات الفرنسية، أشار لودريان أمام النواب الفرنسيين أول من أمس، إلى الهجوم المكثّف الذي يشنّه مقاتلو تنظيم "داعش" على بلدة مارع شمال حلب، وقال "إذا نجح داعش في السيطرة على مارع ومحيطها، فذلك يعني نهاية ما تبقى من الجيش السوري الحر".
وكانت مصادر صحيفة "لوموند" الفرنسية قد ذكرت أن الغارات الفرنسية ستستهدف "الشبان الفرنسيين الذين يتدربون في معسكرات "داعش" على القيام بعمليات داخل فرنسا". وأوضحت الصحيفة أن الغارات "ستستهدف فقط تنظيم "داعش" ولن تتعرض للتنظيمات الإسلامية الأخرى مثل جبهة النصرة". وذكرت الصحيفة أن الاستخبارات الفرنسية تأكدت من أن سماء الشمال السوري خالية من طائرات النظام السوري، ما يضمن حرية الحركة للمقاتلات الفرنسية.
وبهذا تكون فرنسا قد ضمنت استقلالية نسبية في تجميع المعلومات وتنفيذ الغارات من دون الاعتماد بشكل كلي على الولايات المتحدة الأميركية. كما أن القرار الفرنسي سيمنح باريس هامشاً مستقبلياً للتأثير والمناورة، ولو أنه سيكون صغيراً وضيقاً بالمقارنة مع الدور الأميركي، في البحث عن صيغة حل سياسي في سورية في حال تم القضاء على تنظيم "داعش". غير أن أفق الحل السياسي ما يزال صعب المنال في الوقت الراهن بسبب ضعف المعارضة السورية "المعتدلة" التي لا تتمتع بأي وجود عسكري ميداني، وأيضاً بسبب الدعم الروسي المتزايد للنظام السوري.
اقرأ أيضاً: هولاند: يتعين على فرنسا ضرب "داعش" في سورية
وعلى الرغم من الحماسة والإجماع الفرنسي حول ضرورة هذه الغارات التي باتت تشكّل انعطافاً لافتاً في التعامل الفرنسي مع الملف السوري، فإن أسئلة عديدة تلف هذا القرار وتطرح شكوكاً حول مدى فاعليته وقدرته على تحقيق نتائج ميدانية حاسمة. وحسب العديد من الخبراء العسكريين الفرنسيين، فإن هذه الغارات لن تغير كثيراً المعطيات العسكرية في الأراضي السورية لأن طائرات التحالف الدولي، وعلى الرغم من تكثيفها للغارات ضد معاقل تنظيم "داعش" في سورية، لم تستطع القضاء عليه أو حتى إضعافه لا في سورية ولا في العراق.
كما أن هؤلاء الخبراء مقتنعون بأن أي استراتيجية للقضاء على "داعش" من الجو مآلها الفشل ووحده التدخّل البري الكثيف والواسع المسنود بالغارات الجوية كفيل بقلب المعادلة وتحقيق نصر عسكري حقيقي على التنظيم المتطرف.
كما يرى محللون فرنسيون أن قرار الغارات يندرج بالأساس في إطار سياسي وليس عسكريا، وهدفه المضمر هو طمأنة الرأي العام الفرنسي وإظهار أن الحكومة الفرنسية تبذل كل الجهود لمحاربة تنظيم "داعش" في الداخل والخارج، وخصوصاً أن المحققين الفرنسيين توصلوا في الأشهر الأخيرة إلى قرائن تؤكد قيام "داعش" بتدريب عشرات الشبان الفرنسيين على تنفيذ عمليات إرهابية داخل الأراضي الفرنسية.
ويرتبط القرار الفرنسي بضرب معاقل تنظيم "داعش" في سورية، أيضاً بأزمة اللاجئين والمهجّرين السوريين الذين تدفقوا بمئات الآلاف على بلدان الاتحاد الأوروبي. ذلك أن باريس باتت تعتبر أن التنظيم هو أيضاً مسؤول عن تهجير السوريين وليس فقط النظام السوري. ويسجل مراقبون مفارقة أنه في الوقت الذي بادرت فيه ألمانيا أخيراً إلى اتخاذ قرار إنساني تجاه اللاجئين وفتحت أبوابها أمامهم، أشهرت فرنسا الورقة العسكرية وقرار ضرب "داعش" في سورية تحت ذريعة أن حل الأزمة يكمن في جذورها السورية وليس فقط في تداعياتها الأوروبية.
وعلى الرغم من محدودية القرار الفرنسي في تحقيق نتائج عسكرية حاسمة، فإنه يشكل انعطافة لافتة في التعامل الفرنسي مع الأزمة السورية. فباريس كانت حتى وقت قريب تعتبر بأن تنظيم "داعش" والنظام السوري وجهان لعملة واحدة. وكانت تحجم عن الانخراط في ضرب التنظيم خشية أن يؤدى ذلك إلى تقديم خدمة لنظام بشار الأسد وتقوية شوكته في الميدان. لهذا اكتفت فرنسا منذ انضمامها إلى التحالف الدولي بالمساهمة في ضرب معاقل التنظيم في الأراضي العراقية ورفضت بقوة المشاركة في الغارات ضد التنظيم في سورية.
وعلى الرغم من أن هولاند أشار أكثر من مرة إلى أنه لم ينسَ بعد مرارة الخذلان الأميركي عندما عارض الرئيس الأميركي باراك أوباما في آخر لحظة القرار الفرنسي في آب/أغسطس 2013 بضرب قواعد النظام السوري إثر استعماله السلاح الكيماوي ضد المدنيين، فإن بعض المراقبين يسجّلون بأنه منذ ذلك التاريخ لم تتبنّ فرنسا أي استراتيجية واضحة لا تجاه نظام الأسد ولا تجاه تنظيم "داعش"، وهذا ما يجعل البعض يرى في القرار الفرنسي بشن الغارات على "داعش" مجرد زوبعة في فنجان، واتجاهاً فرنسياً لإمساك العصا من الوسط من دون التأثير بنجاعة لا على "داعش" ولا على نظام الأسد، تماماً مثل الموقف الفرنسي من قضية اللاجئين السوريين مع قرار فرنسا استقبال 24 ألف لاجئ فقط.
اقرأ أيضاً: أوروبا... موسم محاصرة اللاجئين المهاجرين