بعد مرور عام على اغتيال واشنطن قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني في بغداد، وتبعات ذلك على سياسات طهران الداخلية والخارجية، لم يرتق رد إيران على الاغتيال بعد إلى مستوى الحدث، مع تمسك مسؤوليها بأنه آتٍ في "الزمان والمكان المناسبين". غير أنّ التحولات الدولية، ولا سيما وصول الديمقراطي جو بايدن إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، والمؤشرات على سعي طهران لتهدئة معه، كلها تطورات تطرح أكثر من تساؤل حول مدى وإمكانية الرد. وسجّل العام 2020 حدثين جعلاه من أصعب أعوام المواجهة الإيرانية مع الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة الماضية. إذ بدأ بقيام واشنطن في الثالث من يناير/ كانون الثاني الماضي باغتيال أبرز الجنرالات الإيرانيين، قاسم سليماني، في بغداد، في حين انتهى العام باغتيال أبرز العلماء النوويين والصاروخيين، محسن فخري زادة، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بالقرب من العاصمة طهران. ووُجهت اتهامات إيرانية رسمية للاحتلال الإسرائيلي باغتيال زادة، وسط تلميحات قادة إيران وتصريح وسائل إعلامها بتنفيذ "الموساد" العملية.
فقدت إيران بغياب سليماني العمود الفقري لمنظومة سياساتها في المنطقة
وفقدت إيران بغياب سليماني العمود الفقري لمنظومة سياساتها في المنطقة، بأبعادها الأمنية والسياسية والعسكرية. فهو من بنى لبلاده نفوذاً واسعاً على مدى العقود الأخيرة، امتد من العراق إلى لبنان وسورية مروراً باليمن، وذلك عبر إنشاء مجموعات موالية ارتبطت إيديولوجياً بالثورة الإسلامية الإيرانية، بالإضافة إلى التحالف مع أنظمة مثل نظام بشار الأسد. فضلاً عن امتداد إيران في أميركا اللاتينية من خلال التحالف مع أنظمة معادية للولايات المتحدة، مثل النظامين الفنزويلي والبوليفي.
تغييب رجل بوزن سليماني، الذي كان اليد اليمنى للمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي في الخارج، تسبّب بخسائر كبيرة للسياسة الإيرانية على الصعيدين الداخلي والخارجي لا يمكن تداركها بسهولة، لصعوبة إيجاد بديل يسدّ مكانه. فعلى المستوى الداخلي، كان سليماني محل احترام جميع القوى السياسية الإيرانية، وكانت كلمته مسموعة لدى الأطراف المتصارعة، ولذلك كانت إيران بأمسّ الحاجة إليه في هذا التوقيت الحساس، على ضوء تراجع الرصيد الشعبي للسلطة بسبب تراكم الأزمات، ولا سيما الأزمة الاقتصادية، التي اعتبرها رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، في مايو/ أيار الماضي، "التهديد الأول للنظام". وكذلك على وقع تصاعد الخلافات الداخلية بين المحافظين والإصلاحيين حول إدارة المرحلة الراهنة، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية. ولوحظ بعد اغتيال سليماني اشتداد هذه الخلافات، وتوجه التيار المحافظ نحو إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، خلال الانتخابات التشريعية التي أجريت في فبراير/ شباط الماضي، بعد تهميش الإصلاحيين والسيطرة الكاملة على البرلمان، وسعيه لانتزاع الرئاسة منهم خلال انتخابات 2021. كما يُتوقع أن تستشعر إيران تداعيات غياب سليماني أكثر داخلياً، إذا ما حصل أي طارئ للمرشد الإيراني الأعلى، مع دخوله عامه الثمانين، فوجود الرجل كان من شأنه تسهيل مهمة انتقال السلطة إلى خليفة خامنئي لمكانته الداخلية في مؤسسات صنع القرار.
وكانت ارتدادات اغتيال سليماني أقوى على السياسة الخارجية لإيران، لكونها فقدت مهندسها وركنها الأبرز، خصوصاً أنها أكثر أهمية وأشمل من السياسة الخارجية الرسمية التي تمثلها وزارة الخارجية الإيرانية. فقد شكّل الاغتيال انتقال الولايات المتحدة إلى مرحلة المواجهة الخشنة للنفوذ الإقليمي الإيراني بعد عقود من مواجهة ناعمة، ليعكس ذلك نقلة نوعية في استراتيجية الضغوط القصوى التي اقتصرت قبل العملية على الحرب الاقتصادية، والتي مارستها الإدارة الأميركية منذ 2018 بعد انسحابها من الاتفاق النووي.
ولوحظت ارتدادات اغتيال سليماني على النفوذ الإيراني الإقليمي في أكثر من ساحة. ولعل استلام مصطفى الكاظمي، الذي يُعتبر قريباً من واشنطن، السلطة في العراق، الساحة الأهم للمواجهة بين إيران والولايات المتحدة، عكس الحالة الصعبة التي وصلت إليها السياسة الإيرانية في هذا البلد، على الرغم من احتفاظها بمكامن النفوذ، وامتلاكها أدوات القوة الخشنة والناعمة فيه، لكن تأثيراتها على المعادلات الداخلية العراقية، سجلت تراجعاً خلال العامين الأخيرين، وتحديداً بعد اغتيال سليماني. كذلك، شهدت مرحلة ما بعد سليماني تصاعداً ملحوظاً في الهجمات الإسرائيلية على المصالح الإيرانية في سورية، فضلاً عن عدم قدرة حكومة حسان دياب في لبنان، المدعومة من "حزب الله"، على البقاء إلا بضعة أشهر، ما يظهر صعوبة وضع الساحة اللبنانية أيضاً، لكنها في الوقت نفسه تمثل الساحة الأقل تأثراً بغياب سليماني، إذ إنّ طهران لا تزال تحظى عبر "حزب الله" وحلفاء آخرين بنفوذ قوي.
وعلى الرغم من كل هذه الارتدادات الداخلية والخارجية، إلا أنّ الرد الإيراني على الاغتيال لم يرتق بعد لمستوى الحدث بما يمثله من دلالات استراتيجية، وهو ما تقرّ به طهران نفسها، إذ لا تزال تعتبر أن القصف الصاروخي على قاعدة "عين الأسد" الأميركية في العراق بعد 5 أيام من اغتيال سليماني لم يكن إلا "رداً أولياً"، متحدثةً عن ضرورة "الرد الاستراتيجي" أو "الانتقام الصعب". ومع حلول الذكرى الأولى للاغتيال، لا يبدو أن هذا الانتقام قريب، ولطالما أحاله القادة الإيرانيون إلى "الزمان والمكان المناسبين"، أو أنه "مرتبط بالظروف"، حسب تعبير مساعد قائد "فيلق القدس" محمد حجازي، قبل أيام.
لوحظت ارتدادات اغتيال سليماني على النفوذ الإيراني الإقليمي في أكثر من ساحة
ويكشف ربط الأمر بنشوء ظروف خاصة عن مأزق يواجهه صنّاع القرار الإيرانيون في مسألة الرد. هذا المأزق ليس في عدم امتلاك القدرة على الرد المناسب، إذ تمتلك إيران من القوة الصاروخية والعسكرية ما يمكنها من توجيه ضربات للقواعد والقوات الأميركية في المنطقة، لكن ما يكبّل يديها هو تبعات استخدام هذه القوة، لأنها على الأغلب ستجابه بردود فعل أميركية أقوى وبمستوى الحرب، التي لا ترغب إيران في الوصول إليها لمخاطرها، وعدم قدرتها على تحمل تكاليفها بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها.
وعلى ضوء ذلك، قد يبعث عدم تناسب ردة الفعل الإيرانية مع الفعل الأميركي، في طياته رسالتين لا ترغب طهران فيهما؛ الأولى رسالة ضعف تشجع "الأعداء" على مواصلة المسار، والثانية رسالة إحباط للأنصار في الداخل والحلفاء في الخارج، وقد ربط مراقبون إيرانيون بالفعل اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة بعدم توجيه "الرد المناسب" على اغتيال سليماني. وأمام هذا الوضع المعقّد الصعب، يظهر السلوك الإيراني خلال العام الذي مرّ على اغتيال سليماني، وبالذات في الأسابيع الأخيرة، لجوء طهران إلى خيار استنزاف واشنطن وبقائها في المنطقة، عبر هجمات متواصلة ضد مصالحها وحلفائها عبر الأذرع الحليفة لطهران، بحيث لا تؤدي حلقاتها المنفردة إلى مواجهة شاملة، وفي الوقت نفسه، يؤدي تراكمها إلى استنزاف القدرات الأميركية عبر إبقاء ساحات المواجهة مشتعلة بإيقاعات مضبوطة.
لكن تصاعد استهداف السفارة والقوات الأميركية في العراق والهجمات الملفتة و"الغامضة" في الخليج ضدّ ناقلات النفط في هذا التوقيت الزمني، إن كانت وراءها طهران، كما تتهمها واشنطن، فعلى الأغلب يشير إلى استعجال إيران تسجيل نقاط مهمة خلال الفترة المتبقية من ولاية دونالد ترامب، لأنّ بدء ولاية الرئيس الديمقراطي المنتخب جو بايدن على الأغلب، يفرض تهدئة على ساحات المواجهة وذلك لأمل ما بتجربة عهده، علّه يعود إلى الاتفاق النووي ويخفف العقوبات التاريخية التي فرضها ترامب.