ربما الظروف السياسية الحالية في إسرائيل هي الأكثر تعقيداً منذ عقود، إذ تتزامن حالة عدم استقرار واحتجاج سياسي عميق لم يشهده المجتمع الإسرائيلي من قبل، مع تراجع في الحالة الاقتصادية ومخاوف من ركود اقتصادي وتراجع مكانة إسرائيل الاقتصادية عالمياً؛ حذرت شركة موديز من إمكانية تراجع تدرج الائتمان الإسرائيلي، وضعضعة حقيقية في العلاقات السياسية مع حليف إسرائيل الأول الولايات المتحدة؛ شبه قطيعة بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن، والأهم حالة عدم الاستقرار الأمني على أكثر من جبهة، إذ تواجه إسرائيل تحولا سلبيا جديا في البيئة الاستراتيجية المحيطة. فقد أصدرت شعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي؛ لأول مرة منذ سنوات عديدة، تقييما متشائما للحالة الأمنية في العام القادم، لا يلغي إمكانية نشوب حرب على عدة جبهات. بإمكان هذه العوامل مجتمعة الدفع إما باتجاه تسوية ما، تؤجل أو تلغي سن التعديلات التشريعية المقترحة على السلطة القضائية، بوساطة رئيس الدولة، أو إلى توسع الخلافات بين الحكومة وحركة الاحتجاج والمعارضة واحتدام الاحتجاجات.
هناك عوامل عديدة ترجح زيادة الاحتقان والانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، منها عدم إحراز تقدم جدي حتى الآن في المباحثات برعاية رئيس الدولة، بين التحالف والمعارضة، حول التعديلات القضائية؛ ومبادرة التحالف لعرض اقتراحات قوانين خلافية إضافية بعد العطلة الشتوية للكنيست الإسرائيلي، منها إعفاء الشباب الحريدي (طلاب المعاهد الدينية) من الخدمة العسكرية، وطَرح مشروع قانون يغير مكانة المستشارين القانونيين في الوزارات، ويمنح الوزراء إمكانية تعيين شخصي للمستشار، ومنها الاستمرار في طرح جزء من التعديلات على الجهاز القضائي بجرعات صغيرة. هذه المبادرات التشريعية قد تغذي حركة الاحتجاج وتضيف إلى مضامينها.
حاول بنيامين نتنياهو لغاية الآن احتواء حركة الاحتجاج، عبر إعلانه تأجيل التشريعات المقترحة، وإعطاء فرصة للمحادثات برعاية رئيس الدولة من جهة، والعمل على ضمان وحدة وتماسك التحالف الحكومي من جهة أخرى، من خلال إرضاء اليمين المتطرف عبر سياسات وقوانين ضد الفلسطينيين في إسرائيل، وفي الأراضي المحتلة عام 67، إذ مُنح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير موافقة وقرارا حكوميا بإقامة الحرس القومي، الذي يستهدف المواطنين الفلسطينيين، وأقر الكنيست إلغاء قانون الانسحاب من شمالي الضفة الغربية، مما يتيح عودة المستوطنين إلى مستوطنات شمال الضفة، التي شُملت في خطة الانسحاب أحاديّ الجانب عام 2005، كما طالب حزب الصهيونية الدينية. وقررت الحكومة رصد 4 مليارات شيكل للبنى التحتية والطرق الاستيطانية في الضفة، وإدراجها ضمن الميزانية العامة، وصادقت على بناء وحدات استيطانية في المستوطنات.
في هذا الظرف سيحاول نتنياهو الحفاظ على تماسك التحالف الحكومي، عبر إرضاء اليمين، وعلى حساب المواطنين العرب وتعميق الاحتلال
إقامة الحرس القومي وقانون إلغاء الانسحاب وتوسيع الاستيطان، هي بنود موجودة في اتفاق التحالف الموقع بين الليكود وحزبي "العظمة اليهودية" و"الصهيونية الدينية"، ما يشير إلى إصرار هذين الحزبين على تنفيذ كافة بنود اتفاق التحالف مستقبلاً، أي مزيد من العنصرية والعداء تجاه المجتمع الفلسطيني، وتوسيع وتعميق الاستيطان والسيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية، كمحاولة لإرضاء اليمين المتطرف على حساب الشعب الفلسطيني. أي كلما تعثرت خطة التعديلات القضائية، سيزيد منسوب العنصرية تجاه الفلسطينيين في الداخل وتوسيع الاستيطان، كجزء من خضوع نتنياهو لأحزاب اليمين المتطرف للحفاظ على تماسك التحالف اليميني.
أيضاً؛ إرضاء اليمين عملية استباقية لتزايد شعبية وزير الأمن الأسبق بني غانتس، الرابح الأكبر من حركة الاحتجاج. إذ تشير الاستطلاعات إلى ارتفاع عدد مقاعد حزب المعسكر الرسمي، على حساب حزب الليكود، وعلى حساب حزب "يوجد مستقبل" برئاسة يئير لبيد، وهو حالياً الحزب الأكبر في المعارضة.
هنا يكمن التحول الثاني؛ زيادة شعبية غانتس وحزب "المعسكر الرسمي"، قد تكون فاتحة لتوترات وانقسامات داخل صفوف المعارضة، إذ يحاول غانتس لعب دور الشخصية الوحدوية، التي تسعى إلى ترميم تماسك ووحدة المجتمع الإسرائيلي، لكنه بنفس الوقت؛ المعني الأبرز في تقديم موعد الانتخابات، واستمرار الاحتجاج، وعدم تقديم تنازلات في المفاوضات الجارية برعاية رئيس الدولة.
ستصعب المصالح المتناقضة إمكانية التوصل إلى تفاهمات أو تسويات تنهي التوتر في المشهد السياسي الإسرائيلي، قد تنجح المحاولات في خفض لهيب الانقسام والاحتجاج، لكنها لن تنهيه. كما يمكن التكهن بأن غانتس لن يرتكب مرة أخرى خطأ دخول حكومة برئاسة نتنياهو، على أثر تجربة 2019 الفاشلة، وخاصةً بعد الارتفاع الكبير في عدد المقاعد المتوقعة، وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة.
المشهد السياسي الإسرائيلي حافل بالتطورات المتناقضة، فهناك عوامل تدفع نحو خفض التوتر السياسي وحدّة الانقسام، خاصة العوامل الأمنية والعسكرية والعوامل الاقتصادية، لكن بنفس الوقت هناك عوامل تشجع بل وتغذي استمرار الاحتجاج والانقسام، منها عدم تراجع التحالف عن خطته "لإصلاح القضاء" نهائياً، وتقديم اقتراحات قوانين جديدة، ومصالح انتخابية لدى أحزاب المعارضة.
في هذا الظرف سيحاول نتنياهو الحفاظ على تماسك التحالف الحكومي، عبر إرضاء اليمين، وعلى حساب المواطنين العرب وتعميق الاحتلال، وهناك بوادر لاحتمال خلافات جديدة داخل صفوف المعارضة، خاصةً بعد ارتفاع حصة غانتس وحزب المعسكر الرسمي في الاستطلاعات.
إرضاء اليمين عملية استباقية لتزايد شعبية وزير الأمن الأسبق بني غانتس، الرابح الأكبر من حركة الاحتجاج
كل هذا يصعب التكهن بمسار تطور المشهد السياسي في إسرائيل، خاصةً على اعتاب احتفال إسرائيل بالذكرى الـ 75 لتأسيسها، وتبقي كافة الاحتمالات مفتوحة، إلا أن احتمال استمرار الانقسام والاحتجاج هو الأكثر واقعية. إلا إذا أخمدت الظروف الأمنية لهيب الاحتجاج والصدام السياسي، ودفعت نحو تفاهمات وإعادة توحيد المجتمع الإسرائيلي.