على الرغم من استهجان اتفاق التطبيع الذي تم قبل نحو عام، بين نظام الحكم في المغرب والاحتلال الصهيوني، إلا أن هذا الاتفاق لم يكن مستغربا. وإن كانت اتفاقيات التطبيع التي سبقته بين إسرائيل وبعض الدول العربية (الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان)، قد كشفت المستور، فإن اتفاق المغرب مع الاحتلال الصهيوني أعاد اكتشاف ماهو مكشوف، فعلاقات النظام المغربي بالاحتلال تعود لفترة حكم الملك الحسن الثاني، الذي قدم التسهيلات لجهاز الموساد للقيام بعملية "ياخين" بين عامي 1961 و1964، وتم بموجبها تهجير ما يقرب من مائة ألف يهودي مغربي إلى فلسطين، مقابل حصول الحسن الثاني على تعويضات مالية. وفي عام 1965 سمح الملك الحسن الثاني لجهاز الموساد بالتجسس على الجلسة السرية للقمة العربية في الدار البيضاء. وفي عام 1986 حل شمعون بيريز، رئيس وزراء الاحتلال في حينه، ضيفاً على الحسن الثاني في الرباط، وبعد الزيارة بثمانية أعوام تم الاعتراف الضمني من قبل الملك الحسن الثاني بدولة الاحتلال، بعد أن فتحت الأخيرة مكتب اتصال لها في المغرب في الأول من سبتمبر/أيلول عام 1994.
تمرير اتفاق التطبيع كان لا بد من ربطه باعتراف ترامب بمغربية الصحراء
بعد وفاة الملك الحسن الثاني 1999 شارك بجنازته نحو 200 شخصية رسمية من دولة الاحتلال. واعترافاً منها بالخدمات الجمة التي قدمها الحسن الثاني لها، أصدرت دولة الاحتلال طابعاً بريدياً يحمل صورته، قام بتسليمه وزير الإعلام الصهيوني للملك الابن محمد السادس، لا بل انتقل إلى مستوى جديد بفتح الباب أمام دولة الاحتلال لإيفاد العديد من الخبراء ورجال الأعمال إلى المغرب، وخاصة في المجال العسكري والزراعي، بشكل يتوافق تماماً مع أسلوب الاحتلال التغلغلي في القارة الأفريقية الذي حذر منه المناضل الكبير المهدي بن بركة في مداخلته في "ندوة فلسطين العالمية" المنعقدة بالقاهرة في 30 مارس/آذار 1965، موضحاً بمداخلته مصلحة شعوب القارة الأفريقية والعرب في دعم النضال الفلسطيني بمواجهة الاحتلال الصهيوني، عن طريق تحليل علمي، مبتعداً عن الخطاب الشعبوي، مدعوماً بالعديد من الأمثلة والوثائق التي تبين محاولة الكيان الصهيوني التغلغل في القارة الأفريقية، والسيطرة على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي والعسكري للعديد من الدول، حيث تحولت المداخلة، التي بينت أن دعم النضال الفلسطيني يصب بمصلحة القارة السمراء في مواجهة الاستعمار الغربي المستمر، إما مباشرة أو عن طريق التغلغل الصهيوني، إلى رؤية تتضمن استراتيجية عملية لمواجهة الاختراق الإسرائيلي في القارة، بعد تشخيص هذا الاختراق، ورصد مظاهره، وسرد مخاطره على عموم الشعوب الأفريقية ومستقبلها، مما جعل منها وثيقة تأسيسية اعتمدتها حركات التحرر العربي والأفريقي كواحدة من أدبياتها الأساسية. وعلى ما يبدو دفعت هذه المداخلة جهاز الموساد إلى تقديم الدعم الاستخباراتي من أجل اختطاف المهدي بن بركة في باريس، وتصفيته لاحقاً من قبل المخابرات المغربية.
لم يكن للنظام الملكي في المغرب القدرة على إدارة علاقاته، سواء السرية منها أو العلنية مع الاحتلال الصهيوني، دون ممارسة اللعب على الحبال، وتبني معايير مزدوجة تقيه من غضب الشعب المغربي الذي كان وما زال متمسكاً بالقضية الفلسطينية. لذلك كان لابد لهذا النظام من أن يظهر نفسه كداعم وراع رئيسي للقضية الفلسطينية من خلال بعض المنح المالية، إضافة إلى المشاركات العسكرية في حربي يونيو/حزيران 1967 وأكتوير/تشرين الأول 1973، ورئاسة الملك الحسن الثاني للجنة القدس التي اتخذت من المغرب مقراً لها. ولاحقًا، في عام 1998، استحدثت وكالة بيت مال القدس الشريف التابعة للجنة القدس. وحتى مع توقيع اتفاقية التطبيع في العام الماضي، لم تغب حالة الفصام المصطنعة عن الموقف الملكي المغربي الذي أكد أن هذه الاتفاقية لا تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني التي كانت ومازالت المملكة تدعمها!
ولتمرير اتفاق التطبيع كان لا بد من ربط أهميته وضرورته باعتراف الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بمغربية الصحراء، لتتعالى أصوات وتساؤلات من باب الترويج للاتفاق " أليس من حق المملكة بعد كل ما قدمته للقضية الفلسطينية من أن تحقق مكسب لصالح المغرب؟"، في وقت تتجاهل هذه التساؤلات أن الاعتراف أعطي ممن لا يملك أن يعطي، مما يفتح المجال أمام التشكيك بشرعية المطالب الملكية بالصحراء، كما أن اعتراف ترامب بمغربية الصحراء لم يلق قبولاً من أي دولة أخرى في العالم، وحتى من قبل فرنسا الداعمة للملكية في المغرب.
إن العلاقات الوثيقة بين الملكية المغربية والاحتلال لا تؤثر على نضال الشعب الفلسطيني وتنتقص من حقوقه فحسب، بل إن أثرها ينسحب على الشعب المغربي ذاته، فتسمح الملكية للكيان الصهيوني بالتوغل في مفاصل الدولة، فاتحة الباب على مصراعيه للاستعمار بالتحكم بمقدرات البلاد والدفع إلى إفقار وتجهيل الشعب المغربي، كما أن السماح لإسرائيل بالتمدد في المغرب يزيد من التوتر بين الدول المغاربية، خاصة بين المغرب والجزائر، الأخيرة التي اعتبرت اتفاقية التطبيع، إضافة إلى الاتفاقية الأمنية الاستخباراتية، استهدافاً مباشراً لها.
عاجلاً أم آجلاً سينجلي لغالبية الشعب المغربي الرافض للتطبيع، أن نضالهم ومقاومتهم للتطبيع ينصب في مصلحتهم أولاً، وفي مصلحة القضية الفلسطينية ثانياً، هذا النضال لا بد من أن يأخذ اتجاهه السليم ضد تفرد الملكية في المغرب بالقرارات الجوهرية التي تمس الشعب واستقلال البلاد، في ظل هياكل ديمقراطية زائفة وعاجزة، تسمح للشعب بإجراء انتخابات دورية ينتج عنها برلمان وحكومة دون سلطات حقيقية، لتبقى الكلمة الفصل للملك، وهذا ما بدا واضحاً في آب عام 2020، حين صرح رئيس الوزراء المغربي في حينه، سعد الدين العثماني "إن المغرب يرفض أي تطبيع مع الكيان الصهيوني لأن ذلك يعزز موقفه في مواصلة انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني"، ليتم توقيع اتفاقية التطبيع بعد أقل من شهر واحد من هذا التصريح، وذلك في أيلول 2020، فعلى ما يبدو أن الملك ومخابراته لم يستشيروا رئيس الوزراء أو حتى يعلموه بقرارهم.
إن للشعب المغربي الحق بالتحرر من الوصاية؛ ومن حقه أن تمثل القرارات الصادرة عن ممثليه إرادته ومصلحته، لذلك فإن نضاله ضد التطبيع لا ينفصل عن نضاله ضد الاستعمار والاستبداد، ودعمه وتمسكه بالقضية الفلسطينية هو دعم لنضاله الوطني (المغاربي)، ووقود يزيد من زخمه. فإسقاط التطبيع خطوة باتجاه حرية المغاربة، وتحرر المغرب خطوة باتجاه تحرر فلسطين.